اطبع هذه الصفحة


وقفات مع التلبية

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله فاتح أبواب الرحمة لمن طرقها ، وموضح منهاج السعادة لقلوب وفقها ، وقابل الحمد من ألسنة بحمده أنطقها ، أحمده سبحانه على ما أنعم وأشكره على ما ألهم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له إله الكون رب العالمين داعي عباده إلى بيته الكريم على مر الأعوام والسنين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله السيد الكامل في عبوديته أكمل من أم البيت الحرام بحجة وعمره وأفضل من وقف بالمشاعر ودعا لأمته اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

أما بعد فاتقوا الله عباد الله وراقبوا من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، إن المسلم يتقي الله سبحانه في أعماله الظاهرة والباطنة فإن الله مطلع عليهما فلا يكون العبد متقياً لله حقيقة التقوى إن كان يحمل في قلبه ضغينة لمسلم أو حقداً أو ظناً سيئاً أو مكراً أو غشاً لأنها أعمال مشينة يطلع عليها من يعلم خلجات القلوب ، معاشر الأحبة في الله ويوصيكم بالتقوى ربكم فيقول : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(1)
معاشر المسلمين أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس إلى الحج فقال :{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(2)، فأجاب ذلك النداء الخالد بشر من مشارق الأرض ومغاربها جاءوا طلباً لمرضات الله واستجابة لندائه ، جاءوا وهم يرددون الشعار الخالد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، وأود اليوم الوقوف مع كلمات هذا الشعار

الوقفة الأولى : مع أثر هذه الكلمات على قائلها ، فهي معاشر من آمن بالله واليوم الآخر ليست كلمات جوفاء يرفع الناس بها أصواتهم كتلك التي في المظاهرات والمسيرات الفارغة ، بل هي معاني تنبع من وجدان القلب المؤمن فتضيء ذلك الوجدان بنور الإيمان واليقين ، وتهذب سلوك ذلك الفرد، وتصيغ حياته كلها وفق منهج الإيمان ،هي كلمات تنتزع الفرد من أدران الدنيا لتحلق به في درجات عليا من الإيمان والروحانية؛ يشعر بذلك من سمعها تخرج من قلوب صادقة وبأصوات مرتفعة كما أمر بها صلى الله عليه وسلم ،فيتجاوب معها الكون بأسره يتجاوب معها الشجر والمدر والحجر : أخرج الترمذي عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا))(3)،كلمات تؤثر في الجماد فيتجاوب معها الجماد طرباً لما فيها من معانٍ فكيف بقلب المؤمن التقي النقي

الوقفة الثانية: مع قول الملبي لبيك اللهم لبيك حيث أُخْتَلِفَ فِي مَعْنَى لَبَّيْكَ وَاشْتِقَاقِهَا ( فَقِيلَ ) : مَعْنَاهَا اتِّجَاهِي وَقَصْدِي إلَيْكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : دَارِي تَلِبُّ دَارَكَ أَيْ تُوَاجِهُهَا , ( وَقِيلَ ) : مَعْنَاهَا مَحَبَّتِي لَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : امْرَأَةٌ لَبَّةٌ إذَا كَانَتْ مُحِبَّةً وَلَدَهَا عَاطِفَةً عَلَيْهِ , ( وَقِيلَ ) : إخْلَاصِي لَكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : حُبٌّ لُبَابٌ إذَا كَانَ خَالِصًا مَحْضًا وَمِنْ ذَلِكَ لُبُّ الطَّعَامِ وَلُبَابُهُ , ( وَقِيلَ ) مَعْنَاهَا أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ وَإِجَابَتِك مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : لَبَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ وَأَلَبَّ إذَا أَقَامَ فِيهِ وَلَزِمَهُ فَمَعْنَاهَا أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ لَازِمٌ لَهَا غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا وَالتَّثْنِيَةُ فِيهَا لِزِيَادَةِ إظْهَارِ الطَّاعَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ(4)،نعم هذا هو حال المؤمن الصادق إذا أمره ربه بأمر قال قولاً وعملاً لبيك اللهم لبيك ، وإذا نهاه الله نهياً قال قولاً وعملاً لبيك اللهم لبيك هذا هو تطبيق قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}(5) ، هذا تطبيق قول الله تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(6) فعجباً من حاج يقول لبيك اللهم لبيك وقصرها على الحج،فهو يلبي والسيجارة في يده،أو يلبي ثم يخرج من نفس ذاك اللسان الذي تحرك بالتلبية السباب والشتائم والغيبة والنميمة ، يلبي ويأكل الربا ، يلبي ويسمع الغناء ، يلبي ويتابع القنوات ، يلبي ويرتكب ما يغضب رب الأرض والسموات ، فأين حال مثل هذا من معاني التلبية .

الوقفة الثالثة: مع قول الملبي لبيك لا شريك لك وهي إعلان بالتوحيد فهو يقول لا شريك لك أي لا شريك لك في ربوبيتك ولا في إلهيتك ولا في أسمائك وصفاتك ، فأنت الله الرب الواحد الأحد، والتوحيد يعني أن الله وحده هو مدبر هذا الكون سبحانه ، فما بال أناس يلبون في أيام الحج ويرفعون صوتهم بالتلبية ثم هم يدعون أهل القبور من الأنبياء والصالحين وغيرهم ظناً منهم أنهم ينفعون أو يضرون مع أن الكريم قد فتح أبواب كرمه مشرعة بلا واسطة ونادى في عباده قائلاً :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(7)،يقول سبحانه لأمثال هؤلاء منبهاً :{..وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ()إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ()يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ()إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ() وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(8) ، نقول لهؤلاء إن ما تفعلونه شرك محبط لحجكم ولجميع عملكم فاتقوا الله وعودوا إلى توحيد ربكم ، وحدوه توحيداً عملياً كما وحدتموه لفظياً في تلبية الحج .

الوقفة الرابعة: مع قول الملبي (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) وقد فضل طائفة من أهل العلم أن تكون بالكسر لأن معناها أكمل،والحمد أعم من الشكر وليس المجال مجال تفصيل في المعاني،لكن كلمة الحمد هنا تشمل كل الحمد فكأن الملبي يقول لك كل حمد يربي ، ومن ذا الذي يستحق الحمد غيرالله؟ فما بال أقوام شغلوا بالحمد والثناء على البشر ونسوا مستحق الحمد الحقيقي ؟ ، ولفظ النعمة هنا أيضاً مستغرق لكل أنواع النعم فهي كلها من الله ولله يقول سبحانه مقرراً هذه القاعدة:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}(9)،ما بال أقوام يعلمون أن نعمة العقل من الله فيستخدمونها في معصية الله؟ ما بال أقوام يعلمون أن نعمة البصر من الله فيستخدمونها في معصية الله ؟ ما بال أقوام يعلمون أن نعمة السمع من الله فيستخدمونها في معصية الله؟ ما بال أقوام يعلمون أن نعمة العافية من الله فيستخدمونها في معصية الله ؟ ما بال أقوام يعلمون أن نعمة المال من الله فيستخدمونها في معصية الله؟ ما بال أقوام يوقنون أن جميع ما عندهم من نعم هي من عند الله ثم يستخدمونها في معصية الله؟ ألا يخشون غضب الله؟ ألا يخشون أن يسحب المنعم نعمه فمن ذا الذي ينعم عليهم بعدها؟.، أما قوله والملك وأنه لله فهذا يشعر الملبي بأن الملك كله لله وأن الله هو المتصرف فيه سبحانه كيف يشاء فلا يقع في ملكه سبحانه إلا ما شاء وقدر وهو حكيم عليم ، يشعره بأنه لا يخفى من الله فهو أينما ذهب وحيث ما كان فهو لا يخرج عن ملك الله،ولا يخرج تدبيره وقهره وسطوته فيوقن أنه لا يحميه ولا يستره جبل ولا بيت ولا غيره فالله سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء واستمع معي إلى لقمان وهو يغرس هذا المعنى في نفس ابنه ويخلده الله في كتابه إلى يوم القيامة بقوله :{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(10) ثم يختم الملبي تلبيته بقوله لا شريك لك أي لا شريك لك في الحمد ولا في النعمة ولا في الملك ولا في شيء مما تختص به وهو تأكيد على معنى التوحيد الخالص أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ}(11)

الخطبة الثانية

الحمد لله كما يجب علينا من حمده وتعظيمه ونشكره سبحانه على إحسانه وإنعامه وتكريمه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشيطان وتوهيمه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ولا في أسمائه وصفاته شهادة مبرأة من الشرك والشك سليمة وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله المخصوص بكمال قربه وتقديمه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

أما بعد : فإن معاني التلبية قد جمعت الدين كله فمطلوب من العبد أن إذا أُمر بأمر أن يأتي منه ما استطاع وإذا نهي عن أمر أن يجتنبه وهذه هي العبادة التي خلقنا الله لأجلها يقول تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي}(12)، وهذه العبادة مهما بذل فيها العبد واجتهد لن تقبل مالم تكن على أساس من التوحيد متين يقول تعالى :{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(13) فالشرك والعياذ بالله محبط للعمل يقول سبحانه محذراً نبيه خيرىالورى صلوات ربي وسلامه عليه :{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}(14)، فما بالكم بالعبد العادي،فالتوحيد هو أس النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة جاء في الحديث القدسي:[.. يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ](15).فهلموا أحبتي لنعلق قلوبنا بالله وحده ، هلموا لنجعل التلبية شعارنا العملي في حياتنا فإن سمعنا منادي الله ينادي لصلاة لبينا النداء وشعارنا لبيك اللهم لبيك وإذا أُمرنا بأي أمر من أوامر الشرع أو نُهينا بأي نهي فليكن شعارنا العملي لبيك اللهم لبيك ، هلموا لنغرس هذا المعنى في نفوس أولادنا ونسائنا فما أحوجنا وإياهم إليه ، هلموا لنتأمل في كافة شرائع الإسلام ونحولها لتطبيق عملي في حياتنا تطبيق تتفاعل فيه الروح مع الجسد .

---------------
(1) آل عمران:102(2)الحج:27.(3) الترمذي ، كتاب الحج، حديث (758)،(4)عمر النسفي ، طلبة الطلبة (حنفي)،كتاب المناسك،(5)الأحزاب:36،(6)الأنفال:24، (7)البقرة (186) (8)فاطر:13-17،(9)النحل:53،(10)لقمان:16،(11)البقرة:197،(12)الذاريات:56، (13)القيمة:(5)(14)الزمر:65(15)أخرجه الإمام الترمذي في كتاب الدعوات حديث(3463) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء ..حديث(4852)
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية