اطبع هذه الصفحة


ما أسرع ما ننسى

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله الذي حقه أن يذكر فلا ينسى وأن يطاع فلا يعصى الحمد لله الذي أحصى كل شيء عنده في كتاب فلا يضل ربي ولا ينسى،أحمده سبحانه وأشكره وعد المؤمن الشاكر جنة لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرجى ولا ند له يدعى وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمد النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء .أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم معاشر المؤمنين بتقوى الله فهي والله سبيل الوقاية من نار تلظى أخبر عن ذلك قيوم السموات والأرض بقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } (1).

أيها الأحبة في الله مر بنا موسم رمضان وكم اجتهد فيه المجتهدون و كم بكى فيه الباكون وكم أعتبر بعبره المعتبرون ، رمضان كان مدرسة تعلمنا فيها حسن الخلق ، تعلمنا فيها الكرم ، تعلمنا فيها الإقبال على الصلوات والإقبال على كتاب الله ، تعلمنا فيها البكاء والتذلل لله ، تعلمنا فيها مرافبة الله وغيرها من معاني تربوية عظيمة ، لكن المشكلة هل مازلنا نطبق تلك المعاني التي استفدناها أم نسينا ؟ فالله أكبر ما أسرع ما نسينا ؟ . وهذا موسم الحج مر بنا وكم احتوى من عبر ودروس عظيمة ، تذكر فيه المؤمن حينما خلع لباسه المخيط ليرتدي قطعتي قماش الإحرام بحاله غداً يوم أن يجرد من لباسه ، تذكر أنه اليوم تجرد من لباسه بإرادته وبيده وغداً سيجرد منه رغماً عنه وبيد غيره دون أن يستطيع تحريك ساكن فاقشعر جلده ورجف فؤاده فرقاً من تلك اللحظة الرهيبة ؛ فأقبل على ربه خاشعاً متذللاً ومنادياً لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك ، فهل مازال على نفس حاله من الإقبال والخشية أم أنه نسي ، فالله أكبر ما أسرع ما نسي ، ثم انطلق مع وفد الحجيج لمقصد واحد وهو الوقوف على صعيد عرفة الطيب الطاهر فتذكر وما أعظم ما تذكر تذكر مسير الناس جميعاً إلى رب العالمين ، تذكر وهو يركب دابته إلى عرفة كم من مطايا ركبها في مسيره إلى الله فمطية الليل تسلمه لمطية النهار وهكذا ينتقل بينهما حتى تسلمه الأخيرة منها للحفرة المظلمة للقبر ، تذكر كم من الليالي فصر فيها في القيام ، كم من الليالي مضت في معصية الله، وكم من الأيام انقضت كذلك، تذكر أقرباءه وأحباءه وأصدقائه والمسلمين ممن يعيشون في غفلة عن الله وهم لا يدركون أي ليل أو نهار سيسلمهم لقبورهم ، تذكر ذلك وعندها تاب وأناب وعاهد النفس عدم العودة لمعصية الجبار ولكن ماذا بعد انقضاء الحج نسي فالله أكبر ما أسرع، ما نسي وصل إلى صعيد عرفات فرأى تلك الجموع الهادرة من كل أصقاع الدنيا يلهجون بمختلف اللغات ويضجون إلى ربهم واقفين بلباس واحد ، رأى ذلك الجمع ورأى معه جمع غفير من المسلمين من خلال الشاشات نفس الموقف فتذكروا ويا لهول ما تذكروا تذكروا يوماً قال الله فيه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(2). وصفه العظيم بقوله : { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا }(4).
تذكروا يوم البعث والنشور ذلك اليوم الذي يبعث فيه الناس على ما ماتوا عليه فياليت شعري هل سأل كل منا نفسه عن مدى إعداده لتلك اللحظة وعلى ماذا سيموت ؟.
الحاج في رحلة الحج يقوم بأفعال يعجز عقله القاصر أن يدرك الحكمة منها يفعل ذلك لأن الله أمره به فحجر يرجمه وحجر يقبله وأحجار يطوف حولها فعل ذلك طاعة لله ، فهذا هو الواحد الأحد الذي أمرنا بذلك أمرنا بأوامر ندرك جزء من حكمتها كالصلاة في جماعة و نهانا عن أمور نعلم جزء من حكمة النهي كاجتنباب الربا والزنا والغناء ونحوها من المحرمات فعجباً لقوم يطيعون هناك ويعصون هنا أنسوا أن الرب واحد فالله أكبر ما أعجب ما نسوا ، و أمثال ذلك من الحج كثيرة ، ولكن هل اقتصر نسياننا على ذلك ؟ لا والله بل إن الأمر أعظم وأعجب ؛ فهذا كتب ربنا بين الله لنا فيه عداوة إبليس لنا وبين لنا حقده علينا ومراميه القذرة فقال العليم الخبير : { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(4). فكم من الناس نسوا هذا التنبيه وهو في كتاب ربهم وبين أيديهم فقاموا رجالاً ونساء يسعون سعياً حثيثاً ويبذلون قصارى جهدهم لإخراج المرأة وتبرجها وكشف العورات فالله أكبر كيف تحولوا إلى جند في جيش عدوهم وحرباً على شريعة ربهم وحبيبهم الله أكبر ما أعظم ما نسوا وما أسرع ما نسوا !. حذرنا ربنا من أعدائنا من الإنس تحذيراً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض فقال سبحانه : { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}(5). فقام قوم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسننا يدافعون عنهم ويحببونهم لأبناء وبنات المسلمين حتى فتن بهم فئام من أمة الإسلام ذكوراً وإناثاً فأخذوا يقلدونهم في ألبستهم ومظهرهم ونمط حياتهم فالله أكبر ما أعظم جرمهم الله أكبر ما أسرع ما نسوا وكتاب الله بين أيديهم . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (6).

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لاإله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن نبينا وسيدنا وحبيبنا محمداً الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه .
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله واقبلوا على ربكم ولا تنسوا رقابته عليكم وعلمه بما تفعلون وتمسكوا بكل صغيرة وكبيرة في دينكم بكل ما أوتيتم من قوة ولا تكونوا رحمني الله وإياكم ممن قال فيهم : {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(7). لا تلفتوا أحبتي في الله لنعيق الناعقين ممن يسمون التمسك بالدين أنه تطرف وتزمت ورجعية وغيرها من الكلمات التي تنطلي على ضعاف العقول والإيمان فيتفلتوا من دينهم وأوامر ربهم حتى لا يوصمون بتلك الكلمات وإني أقولها من هذا المكان المبارك وفي هذا اليوم المبارك والله ثم والله ثم والله لا سعادة لنا ولا عز لنا ولا أمن لنا وطمأنينة لنا أفراداً ومجتمعات إلا بالتمسك بالدين وتطبيقه على كل شؤون حياتنا ، فلنغرس أحبتي هذا المفهوم في أنفسنا و أزواجنا وفي أولادنا وفي جيراننا وفي زملائنا وفي نفس كل مسلم ومسلمة ، والتجارب أمامنا كثيرة كم من الدول والمجتمعات والأفراد تفلتوا من شريعة ربهم فجنوا مرارة وبؤساً وشقاء في الدنيا وينتظرهم في الآخرة ما هو أشد وأعظم .

---------------------
(1) مريم:71-72.(2) الحج:1-2.(3)المزمل:17.(4) الأعراف:27.(5) البقرة: 120.(6) الأنعام: 44.(7) الأعراف:51.
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية