اطبع هذه الصفحة


العشر الأواخر من رمضان

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
اللهم لك الحمد أنت أحق من عبد ، وأرأف من ملك ، وأعز من ذكر ، وأكرم من سؤل ، وأوسع من أعطى ، وأرجى من ابتغي،وأحكم من شرع، وأعدل من قضى، وأقوى من استنصر، وأعز من نصر، القلوب إليك مفضية والسر عندك علانية الحلال ما أحللت والحرام ما حرمت والدين ما شرعت ، لا تطاع إلا بإذنك ولا تعصى إلا بعلمك تطاع فتشكر وتعصى فتغفر ، لك الحمد بالإيمان ولك الحمد بالقرآن ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة كبت عدونا وأظهرت أمننا ومن كل ما سألنك ربنا أعطيتنا فلك الحمد حتى ترضى ولك الحمد بعد الرضى ولك الحمد على حمدنا إياك . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وإمامنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد:
فأوصيكم معاشر الصائمين ونفسي بتقوى الله في السر والعلن فهي مفتاح السعادة في الدارين وهي وصية الله للأولين والآخرين ولكم قال العظيم سبحانه :{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}(1).
معاشر الصائمين هذه العشر الأواخر من رمضان كأني بها واقفة تناديكم فتقول أنا العشر الأواخر من رمضان قد حللت بكم فهل عرفتم ماذا يعني قدومي ؟ إن أول معناً لقدومي هو إنذار لكل ذي بصيرة ولب بأن شهركم هذا قد آذن بالرحيل وحق لكل من أحب هذا الشهر أن يحزن على فراقه لما وجد فيه من لذة العبادة ، وشفافية القلب ، وصفاء وارتقاء الروح ، أعرفتم معنا الأواخر أي خاتمة الشهر وقد أخبر نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم بأن الأعمال بالخواتيم وذلك فيما أخرجه الإمام البخاري حيث قال : ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))(2). فعجباً لقوم من بني الإيمان اجتهدوا في أول الشهر ثم لما اقتربت نهاية الشهر وخاتمته شغلوا بملابس العيد وبحلوى العيد وببرنامج العيد ، فمالهم نسوا أن الأعمال بخواتيمها .
معاشر المؤمنين إن من رحمة الله بكم أن اختصني من بين سائر ليالي وأيام العام بليلة القدر ، أتدرون ما ليلة القدر إنها ليلة اختصها الله من بين ليالي السنة وشرفها بأن أنزل فيها كتابكم أنزل فيها قرآءنكم الذي بين أيديكم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأخبركم بذلك في قوله : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}(3). وفي هذه الليلة المباركة العظيمة يحدث أمر عظيم يقول عنه الخبير اللطيف : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(4). أي في هذا لليلة يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة مقادير العام وما يحدث فيه وما يكون فيه من الآجال والأرزاق والأحداث ، قال بذل ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف(5). فعجباً لعبد تكتب مقاديره وما يحدث له طوال العام وهو في حالة غفلة عن الله ، وما أسعد عبد كان في تلك الليلة مقبل مناج لربه ومولاه . هذه الليلة أكرمكم الله فيها بالأجر المضاعف العظيم يقول سبحانه : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(6).فما أعظمها من منحة وما أكرمها من عطية ليلة واحدة تقومها لله تكون خيراً لك من عمرك كله ، خير لك من ثلاث وثمانين عاماً وربع العام ، فأنت قد لا تعمر حتى تصل الثمانين، وإن وصلت فهل ستنفق عمرك كله في العبادة ؟ عباد الله الصالحين دعونا نقترب بالمثال أكثر من الواقع فلو قيل لأحدنا في عمله لو عملت شهراً كاملاً متواصلاً سوف تعطى رواتب ثلاث وثمانين عاماً ، ألا ينظر إليها بأنها صفقة رابحة ؟ ألا يحاول أن يكيف ظروفه ووضعه وحياته ليتفرغ لأداء عمل ذلك الشهر ليحصل على المقابل ؟ والمقابل هنا لا يتطلب جهداً كبيراً فربكم لم يطلب منكم إلا عشر ليالي فقط ويضمن العبد بذلك أنه قام ليلة القدر وأنه قد حصل بإذن الله على أجر يزيد على عبادة ثلاث وثمانين عاماً فألستم معي بأنها صفقة رابحة من الكريم سبحانه ؟ وليس هذا فقط ولكن استمعوا معي إلى ما أخبركم به نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم بقوله : ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))(7). الله أكبر ليلة واحدة تقومها يغفر لك ما فعلت من ذنوب وخطايا طوال عمرك الذي مضى ، فأين أصحاب القلوب الحية الذين استشعروا كثرة ذنوبهم و عظيم خطاياهم من هذا العرض الرباني السخي ؟ وما أشد غبن من فرط في ترصد هذه الليلة وقيامها ؟
أيها الأحبة في الله إن هذا الأجر العظيم لا يلزمه أن يعرف المرء أي ليلة هي ليلة القدر ، فمن قام ليالي العشر كاملة فهو بالتأكيد قد قام ليلة القدر ، ويحصل أجر القيام لمن قام مع الإمام حتى ينصرف لحديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ (صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ وَقَامَ بِنَا فِي الْخَامِسَةِ حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَقُلْنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَقَالَ إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)(8).لكن البلية يوم أن يقوم عباد مع الإمام القيام الأول ثم هم بين القيامين يرتكبون المنكرات والمعاصي من تدخين ونظر في القنوات ونحوها ثم يعودوا مرة أخرى ليقفوا خلف الإمام في القيام الثاني حتى إذا انتهى القيام الثاني وعادوا لمنازلهم وفي الثلث الأخير من الليل ذلك الوقت الفاضل يعودوا لمنكراتهم والعياذ بالله ، فنقو لهم ألا تستطيعون التخلي عن تلك المنكرات ولو لمدة العشر الأواخر من رمضان ؟ ومن الناس من يدخل عليه عدوه مدخلاً عجيباً ليفوت عليه هذا الأجر العظيم بحيث أنه يقوم الليلة الأولى من ليالي العشر ثم يقنعه بأنها هي ليلة القدر ، فيتكاسل المسكين ويجلس أو ينشغل عن قيام بقية العشر وقد تكون ليلة القدر أمامه فيخسر ويحرم من هذا الأجر العظيم ! وقد رجح أهل العلم جمعاً بين النصوص أن ليلة القدر هي ليلة متنقلة في العشر الأواخر من رمضان وهي في ليالي الوتر آكد ، فتحروا معاشر المؤمنين هذه الليلة وإن كان فات من العشر ما فات فما يدريكم قد تكون فيما بقي منه أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبلغني وإياكم تلك الليلة وأن يوفقنا لقيامها وأن يتقبل منا ومنكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ()وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ()لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ()تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ()سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.

الخطبة الثانية

 الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى وأتباعه.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعرفوا للعشر الأواخر من رمضان قدرها ، ولكم في نبيكم وقدوتكم أسوة حسنة قد كان صلوات ربي وسلامه عليه شديد التحري لهذه الليلة وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقد كان يتفرغ لها تفرغاً تاماً حيث كان يعتزل أهله وبيته ويعتكف في المسجد وقد اعتكف مرة من شدة تحريه شهر رمضان كاملاً فقد أخرج البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ (اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا فَصَلَّى بِنَا النَّبِي ُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ) ، وهاهي زوجه الحبيبة أمنا أم المؤمنين تحكي لنا حاله بقولها : ((كَانَ النَّبِيّ ُ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)). فأقبلوا على ربكم وأحيوا ليلكم وأيقظوا أهلكم تأسياً بسنة نبيكم .

---------
(1)  النساء:131.(2)البخاري،القدر،ح(6117).(3)الدخان:3.(4)الدخان:4.(5)تفسير ابن كثير للآية.(6)القدر:3. (7)البخاري،الصوم،ح(1768).(8)الترمذي،الصوم،ح(734).
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية