اطبع هذه الصفحة


حوار مع النفس

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمدلله الذي خلق النفس فسواها وألهمها فجورها وتقواها ، وبين لنا طريق هداها أحمده سبحانه وأشكره كتب الفلاح لمن زكاها وكتب الخيبة على من دساها ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له لايُسأل خصلة خير إلا أعطاها ولا يستدفع به كرب أو مصيبة إلا جلاها،ولا تُعلق به حاجة إلا قضاها،وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمداُ عبد الله ورسوله حمل الأمانة فأداها،وبين للأمة طريق ربها ومولاها،وعن طريق الغواية والردى نهاها،فصلى اللهم على هذا النبي العظيم وعلى أله وصحبة صلاة سرمدية إلى يوم البعث منتهاها ، وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الدنيا مهما رغبت فيها النفوس وتعلقت بها فهي دار غرور ، وأعدوا ليوم البعث الرهيب عدته يقول جل وعلا:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(33}لقمان .
عباد الله ها نحن في شهر رجب شهر من أشهر الله الحرم يقول تعالى:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36}التوبة،ولي وقفة اليوم مع قوله تعالى:{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وقد صغتها لكم في صيغة خطاب تخاطب به النفس صاحبها فتقول:ياصاحبي:أنا نفسك التي بين جنبيك،فاستمع إليَّ أحدثك حديث ناصح أمين ولعلك لاتسمع ذلك مني بعد ذلك،ياصاحبي اتق الله فيِّ وتعاهدني بالتربية والتأديب والتهذيب فإنك إن لم تفعل ذلك أخشى أن اتمرد عليك فأقودك إلى ما أريد بدلاً من تقودني أنت لما تريد ألم تستمع لقول الشاعر:
والنفس كالطفل أن تتركه شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ،
ياصاحبي إحرص على تزكيتي فقد أقسم ربك الذي خلقك وخلقني بأحد عشر قسماً لم يقسم بمثلها في موضع من كتابه على فلاح من زكى نفسه وخيبة من دساها حيث قال عز وعظم :{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)} ، يا صاحبي قد تعجب من حديثي وقد تقول لي إني لم أعصي لكِ أمراً أمرتيني بترك صلاة الجماعة في المسجد طلباً للراحة ففعلت ، أمرتيني بالتأخر عن صلاة الجمعة لتزدادي من النوم ففعلت، أمرتيني أن أسمع الغناء ففعلت، أمرتيني بالبعد عن الصالحين ففعلت، أمرتيني أن أتلذذ بصور النساء على شاشات القنوات ففعلت ، أمرتيتي أن أترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً عليك من الأذى ففعلت ، أمرتني ..وأمرتيني وفعلت ولم أقصر فماذا تريدين مني؟ ياصاحبي إني أعتصر ألماً لكل ما أمرتك به لقد كنت آمرك بالسوء وكنت تطيعني ، وأريد منك أن تكون كيساً كما قال نبين صلى الله عليه وسلم :((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ))،لا أريدك أن تكون مثل ذاك الذي يرتكب الذنوب والمعاصي فإذا نُصح تمنى على الله الأماني: الله غفور رحيم الله ،يرحمنا الله يهدينا وهو مقيم على اتباع هوى نفسه ، فهاك يدي خذ بها ولو قسراً لتنقلني من النفس الأمارة بالسوء إلى درجات النفس اللوامة التي وصفها الحسن البصري رحمه الله بقوله :(إن المؤمن والله مانراه إلا يلوم نفسه:ما أردت بكلمتي ، ما أردت بأكلتي ، ما أردت بحديث نفسي،وإن الفاجر يمضي قدماً قدماً ما يعاتب نفسه)،ثم ارتقي بي لتصل إلى النفس المطمئنة التي وصفها قتادة بقوله:(هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله،وصاحبها يطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته إلى خبره الذي أخبربه عن نفسه وأخبر به عن رسوله صلى الله عليه وسلم ،ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعده من ومن أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك عياناً،ثم يطمئن ألى قدر الله عز وجل فيسلم له ويرضى،فلايسخط ولا يشكو،ولايضطرب إيمانه،فلا ييأس على ما فاته، ولايفرح بما آتاه ..)تلك النفس التي يقال لها عند الوفاة :{ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي(30}الفجر،ياصاحبي قد تسألني ماهو السبيل إلى ذلك فأ قول لك أول الخطوات ألا تعجبك نفسك ولعلك تدرك كيف خرج قارون على قومه في زينته معجباً بنفسه فخسف الجبار به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وقد قدم لك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثالاً في تربية النفس على ذلك فقد شوهد يوم وهو أمير للمؤمنين خليفة يحمل القربة على عاتقه فلما سؤل عن ذلك قال أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها ، بل وكان يربي أولاده على ذلك دخل عليه يوماً ولده وقد ترجل -أي دهن شعره -ولبس ثياباً حسنة،فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه ، فقالت له حفصه :لم ضربته؟قال رأيته أعجبته نفسه ، فأحببت أن أصغرها إليه ولا أقصد ياصاحبي أن تعيش حياة عمر لكن اجتنب أن تعجبك نفسك فهو باب شر عظيم ، ياصاحبي استمع معي إلى ما حصل بين إبن الجوزي ونفسه حيث يقول :(نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع،وجعلت تنصب لي التأويلات وتدفع الكراهة فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي وأقبلت على القراءة ،وكان درسي قد بلغ إلى سورة يوسف فافتتحتها وذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما أقرأ فلما بلغت قوله تعالى:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23}يوسف، انتبهت لها وكأني خوطبت بها ، فأفقت من تلك السكرة فقلت يانفس أفهمت ..؟هذا حرٌ بيع ظلماً فراعى حق من أحسن إليه،وسماه مالكاً وإن لم يكن عليه ملك ، فقال إنه ربي،ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه فقال:أحسن مثواي،فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى مازال يحسن إليك من ساعة وجودك،وأن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصى .أفما تذكرين كيف رباك وعلمك ورزقك ودافع عنك وساق الخير إليك وهداك أقوم طريق ونجاك من كل كيد،وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن، ..كم ستر عن الخلق من قبائحك..،وساق إليك رزقك بلا كلفة تكلف ولا كدر ..،كم كايد نصب لك المكايد فوقاك ، وكم عدو حط منك بالذم فرقاك،كم أعطش خلقاً من شراب الأماني وسقاك ، كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك ، فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن محروسة الدين في تزيد من العلم وبلوغ الأمل ، فوالله ما أدري أي نعمة أشرح لك {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34}إبراهيم،يانفسُ :{ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23}يوسف.
ياصاحبي قم بمشارطتي في صبيحة يومك ولنتفق على الأعمال التي سوف تؤديها طاعة لربك ثم قبل أن تنام حاسبني حساب الشريك الشحيح فإن وجدتني قد وفيت بالعمل ظاهراً وأخلصت فيه باطناً فاحمد الله واستمر على نهجك من المشارطة والمحاسبة حتى يتبين لك الخلل وبداية الانحراف من أول حدوثه فيسهل عليك علاجه،ولا تركن لاستقامتي لك مرة واحدة فإني لا أستقيم على حال الجد إلا بالمتابعة،وإن وجدتني قصرت فالعقوبة ، ولكن لتكن عقوبتك في حدود ما شرع الله ولايزين لك الشيطان إتلاف نفسك أو عضو من أعضاءك بحجة معاقبة النفس،ياصاحبي إني لأعلم أن الأمر ليس بالسهولة فهو جهاد ولكن ثمرته حلوة وتأمل معي وعد من لايخلف الميعاد:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69}.أعوذ بالله من الشطان الرجيم :{ فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىوَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41}النازعات
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
فياصاحبي ليس دوماً علاجي بالمنع فربما بالمنع والمخالفة حصلت من الحظ أكثر مما يكون بالعطاء ، فقد تمتنع عن مباحاً فيشتهر عنك ذلك فأنال مطلبي من الشهرة وحسن ثناء الناس عليَّ بينما لو تناولت ذلك المباح قد لا أصل إلى ذلك الغرض ، ياصاحبي إن منع النفس حقوقها على الإطلاق خطر عظيم ، فرب شد أوجب استرخاء ، ورب مضيق على نفسه ففرت منه فصعب عليه تلافيها ، لكن جهادي هو كجهاد المريض العاقل يحملني على مكروهي في تناول ما أرجو به العافية ، ويذوّبُ في المرارة قليل من الحلاوة ، ويتناول من الأغذية بقدر ما يصفه الطبيب ، ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً ومن لقمة ربما حَرَمَتْ لقمات ، فكذلك المؤمن العاقل لايترك لجامها ولايهمل مقودها ، بل يرخي لها وقت الطول بيده،فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها ، فإذا رآها قد مالت ردها بلطف فإن ونت وأبت وإلا فبالعنف ويحبسها في مقام المداراة.عباد الله هذه خلجات نفس حركها دخول شهر الله المحرم فطوبى لمن سمعها ووعاها،وأخذ بنفسه على طريق هداها ، عباد الله يامن يطمع في جنات ثمارها تتدلى ويخشى نيران تتلظى،حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فيخف حسابكم ويثقل ميزانكم ويقل في ذاك اليوم الرهيب وقوفكم،افطموا أنفسكم من شهواتها تنالوا السعادة والاستقرار في الدنيا والأخرة،فكم ممن أتبع نفسه هواها تجده في اضطراب دائم فهو لايحقق لنفسه شهوة إلا وتطلعت نفسه لشهوة أخرى،ولا يرتكب دنباً عياذاً بالله إلا وهونت عليه ما بعده وماهو أعظم منه ، فيستمر عياذاً بالله في دوامة من الشهوات وفي جرأة عجيبة على المعاصي والمنكرات،ولتكن مجاهدتك نفسك في منهج متوازن ليس فيه إفراط ولا تفريط بل هو أداء حق كل ذي حق كما جاء في قصة سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهماِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الْآنَ قَالَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ سَلْمَانُ.
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية