اطبع هذه الصفحة


سوء الخاتمة

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله الملك الجليل العظيم المقتدر،بث في الكون الكثير من العظات والعبر،فتنبه لها أولو القلوب الحية وثاقب البصر،وغفل عنها من شُغل بشهواته وهواه فما اعتبر،أحمده سبحانه وأشكره وقد تكفل بالزيادة لمن شكر،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير البشر ومتعة النظر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين الغرر.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله فإن الدنيا زائلة وإن النقلة منها قريبة فلاتغرنكم بزخرفها وما فيها حذركم من ذلك ربكم إذ يقول:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }([1])
أمة التوحيد يعيش المرء في هذه الدنيا يبني ويعلي البناء،يأكل ويتفنن في أنواع الطعام والشراب يركب المراكب ويتنعم بالملابس،كلما مضى يوم من عمره تجدد له أمل ونسي أنه لا بد من خاتمة لهذه الدنيا وما يدري بما يختم له؟ ما يدري أن الأعمال بالخواتيم ؟ أخرج البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا)) فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا))(2)، وعند الإمام أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))(3)،الأعمال بالخواتيم هذا ما كان يقلق الصالحين فكان يخاف أحدهم بما يختم له فهذا سفيان كان يبكي ويقول أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً،ويقول أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت، وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضاً على لحيته ويقول يا رب قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك؟(3)، فما أشد خسارة من أمضى في هذه الدنيا عشرين عاماً أو أربعين عاماً أو أكثر أو أقل ثم يُختم له بخاتمة السوء ، وكم من الناس من غرته الدنيا وغرته الشهرة وغره المال وغره السلطان وغره كثرة السفهاء من حوله فأدمن المعاصي حتى كأنه لن يموت فأخذه الله بغتة بسوء خاتمة وهو على معصية لرب الأرض والسموات يقول الجبار العظيم :{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}(4)، يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً أي غفلة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير ..يقول الحسن البصري مُكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا..وقال قتادة بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تعتروا بالله فلا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون)(5)،وكم من عبد بارز الله بالكفر أو الذنوب والمعاصي فأخذه الله على سوء خاتمة وجعله عبرة للمعتبرين فهذا فرعون اغتر بدنياه وبملكه وسلطانه وعسكره وصولجانه فأغرقه الله في اليم وهو في قمة نشوته وخلد قصته في آيات تتلى إلي يوم القيامة :{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(6)، وهذا قارون أغتر بماله وكنوزه فخسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة أخذه بذنبه من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وقال في ذلك:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ}(7)، معاشر المؤمنين وقد يظهر على بعض المحتضرين علامات أو أحوال تدل على سوء الخاتمة والعياذ بالله ومن أمثلة ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم أن أحد الناس قيل له وهو في سياق الموت قل لا إله إلا الله ، فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة ؟ ولم يقلها(8)، وذكر أيضاً عن بعض التجار أن تاجراً احتضر فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول هذه قطعة رخيصة وهذا مشتر جيد حتى قضى ولم ينطق بكلمة التوحيد(8)،ونقل الحافظ ابن رجب عن عبد العزيز ابن أبي رواًّد أنه قال: حضرت رجلاً عند الموت يلقن لا إله إلا الله فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول . ومات على ذلك قال فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول:اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته(9)،وكلكم سمع بقصة الشاب الذي كان يحتضر في حادث السيارة فجاء من يلقنه كلمة التوحيد فختم حياته بما غلب على لسانه وقلبه فقال هل رأ ى الحب سكارى مثلنا،يقول الإمام ابن القيم معلقاً على مثل هذه القصص:(..سبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً؟والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله فيما يريده من معاصي الله وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى،وعطل لسانه عن ذكره،وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟وجمع الشيطان له كل قوته وهمته،وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه في ذلك الوقت،وأضعف ما يكون هو في تلك الحال…فهناك:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(10)،فكيف يوفق بحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطاً؟فبعيد عن قلبه بعيد عن الله تعالى غافلاً عنه،متعبد لهواه،أسير لشهواته،ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة عن طاعته،مشتغلة بمعصيته-بعيد أن يوفق للخاتمة بالحسنى))أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{فَأَمَّا مَنْ طَغَى()وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا()فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى()وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى()فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(11).

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى يجزي أهل الوفى بالتمام والوفى وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرتجى ولا ند له يبتغى وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي المجتبى والحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء . أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن لا يصح لمسلم في غمرة الغيرة على الدين أن يحكم لرجل مات على كبيرة أنه من أهل النار يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى عن ذلك:(وأما صاحب الكبيرة فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة لا يشهدون له بالنار بل يجوزون أن الله يغفر له كما قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فهذه في حق من لم يشرك فإنه قيدها بالمشيئة..)(12). لكني أحبتي أحذر هنا من مدخل للشيطان عظيم حيث يسول للعبد الاستمرار على المنكرات ويوعده بأن الله سيرحمه بعد الممات على أساس أنه من أمة محمد وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم  مرحومة ونحو هذا الكلام،فأقول احذر أخي فإنك باستمرارك على معصية الله تكون مغضباً لله ولو استوى في هذا الجانب الطائع والعاصي لما كان هناك داع للطاعة ولعمل الجميع بالمعصية عملاً بما يسوله لك الخبيث،أقول أخي اعلم أن الله قد بين لنا في كتابه وعن طريق رسوله طريق النجاة وحده بالطاعة والاستقامة وبين لنا طريق الهلاك وحده بالخروج عن ذلك الطريق،أحبتي في الله إني من هذا المكان أناشد كل عبد مقيم على معصية الله أن يقلع عنها شفقة عليه من قبل أن يختم له لا سمح الله بخاتمة السوء فأقول لآكل الربا وكاتبه تب قبل أن تموت وأنت في وكر من أوكار الربا،إلى مدمني الغناء أقول لهم توبوا واعتبروا قبل أن تحضركم ساعة الموت فتخونكم ألسنتكم عن شهادة التوحيد،إلى مدمني المخدرات إلى أهل الزنا والمعاكسات،إلى أهل القنوات إلى كل مذنب ومذنبة أقول فروا إلى الله فروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين.

---------
([1])لقمان:33.(2)البخاري،كتاب الرقاق،ح6012.(3)جامع العلوم والحكم،ح4،ص50.(3)المسند،ح21768.(4)الأنعام:44.(5)ابن كثير،ج2،ص132.(6)الأنفال:52.(7) القصص:71.(8)ابن القيم،الجواب الكافي. (9)ابن رجب، جامع العلوم والحكم.إبراهيم:27. (10) ابراهيم :27.(11)النازعات:37-41.(12)الفتاوى،ج4،ص475.

 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية