اطبع هذه الصفحة


الاتصال برب السماء

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله إله الجود والعطاء ، منزل النصر على الأمة متى استقامت على منهج الإسلام من السماء ، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسبغ علينا من الفضل والنعماء،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له المنزه عن الصاحبة والأبناء وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأتقياء الأنقياء.أما بعد:فأوصيكم أحبتي ونفسي أولاً بسبب المدد الإلهي من السماء تقوى الله التي قال الله فيها في محكم التنزيل:{بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } (1).
في رمضان تكثر الطاعات من صيام وقيام وزكاة واعتمار وصدقات فتسمو روحك أيها المؤمن بربك حتى كأنك تشعر بها تحلق في السماء ،كأنها تتصل بالملكوت الأعلى،روحك أنت أيها المؤمن بالله واليوم الآخر تسمو لتركن إلى خالقها وموجدها من العدم،وعندما تسمو روحك في السماء عندها يستجاب الدعاء ،ألم ترى أخي أن ربك قد جعل دعاء القنوت في القيام بعد ما تنسكب آيات القران رقراقة من أذنك لتغسل قلبك من أدران الذنوب والمعاصي فيعود أبيضاً نقياً خاشعاً ويزداد إقبالاً على الله فتتلذذ بالركوع والسجود والذل بين يدي ربك وتفيض عيناك دموع خشية وندم، ثم تمد يديك طالباً من ربك :يارب...يارب..يارب..فتفتح لك أبواب السماء ويهتز كيانك طرباً لقول ربك:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2). فهلا شعرت أخي المسلم بتلك اللحظة العظيمة لحظة اتصال الأرض بالسماء .
أخي المسلم أنت وأمتك موعودون من ربك بالنصر وبالعزة وبالكرامة، قد تسألني بلهفة وشوق متى؟.متى وقد استشرى الباطل وهاهو يسعى بكل ما أوتي من جهد لإغلاق منافذ القوة على المسلمين؟.متى وأبطال الأمة الشهداء في فلسطين وفي الفلوجة وفي سائر أرجاء المعمورة يتسابقون سراعاً إلى جنة الخلد؟.متى والأمة لاتملك من عناصر القوة المادية شيئاً يذكر بالنسبة لما لدى أعدائها؟. فأقول لك هون على نفسك أخي الحبيب فالباطل والكفر له صولات وجولات واستعلاء في الأرض ولكن حينما نرى ذلك نتذكر وعد رب الأرض والسماء يوم أن قال:{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(3). أقول أخي لا تبتئس كثيراً لضعف العدة والعتاد لدى المسلمين وكن يارعاك الله كتلك الفئة المؤمنة من جيش طالوت التي خالد الله مقولتها في كتابه بقوله:{...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(4).
لكن هذا النصر لا ينزل على أمة لاهية غافلة راقصة في شهواتها غائصة؛لاينزل النصر على أمة فتح الله لها أبواب النصر والاتصال برب السماء في هذا الشهر الكريم فأعرضت والتصقت بالأرض،بل ينزل على أمة التزمت منهج ربها فاتصلت برب السماء،لذى أخي الحبيب كان نصر أمتك أمة الإسلام في معاركها الفاصلة في رمضان ؛ فها هي قريش استأسدت على المسلمين وفعلت المستحيل لإضعافهم وتجويعهم وعلت في الأرض،ثم هاهي كأنك تنظر إليها من مكانك هذا تخرج يوم بدر بخيلها وخيلائها تسعى لقتال نبيك وحبيبك فداه أبي وأمي،تخرج في جيش بين التسعمائة والألف مجهز بأكبر تجهيز حربي عرفه ذلك الزمان،ويخرج لهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في تجهيز حربي بسيط لأن هدفه كان قافلة تجارية وليس معركة حربية، فأعد لها ما استطاع عملاً بما أمره به ربه يوم أن قال:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}(5).ولما تلاقت الفئتان فئة أهل الكفر التي التصقت بالأرض وغرتها الدنيا بزخرفها فاعتمدت على خيلها وسلاحها، وفئة أهل الإيمان التي اتصلت برب السماء فاعتمدت على ربها بعد ما أعدت ما بوسعها من الإعدادات المادية، فكان اللقاء في شهر الاتصال برب السماء في شهر رمضان،عندها رفع نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم أكرم يد رفعت إلى الله مناشداً ربه متضرعاً إليه،فجاء المدد الإلهي واتصلت الأرض بالسماء وانتقلت إدارة المعركة من الأرض للسماء وصدرت الأوامر الربانية للجيش الملائكي بقيادة جبريل عليه السلام :{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}(6).
 وحينما يتصل أفراد أمة الإسلام برب السماء ترى النماذج العجيبة التي مارأت البشرية مثلها؛فهاذان شابان صغيران عوف ومعوذ ابني عفراء يتنافسان في قتل رأس الكفر فرعون هذه الأمة أبو جهل، وهذا رفاعة بن رافع تفقأ عينه بسهم غادر يأتي بها يحملها في كفه فيرده صلى الله عليه وسلم في مكانها فتعود أحسن من السليمة، وهذا عكَّاشة بن محصن يُكْسرُ سيفه فيأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاكياً يطلب سيفاً بديلاً ليضرب به في أعناق أهل الكفر فيعطيه نبيك صلى الله عليه وسلم جذلاً من حطب فيأخذه عكَّاشه ولا يجادل ولا يقل كيف أقاتل بعود من حطب قوماً يحملون سيوفاً مسلولة،يأخذه ويهزه فإذا به سيفاً صليتاً في يده سمي سيف المعونة،وهذا عمرو بن الجموح تقطع يده وتتدلى فيظل يقاتل وهو يسحبها على الأرض معلقة بجلده ثم لما أجهدته وضعها تحت قدمه وتمطى ليقطعها حتى يمض مقاتلاً في سبيل ربه،وهذا عمير بن الحمام يسمع صوت نبيك يقول قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض فيرمي تمرات كان يأكل منها في يده ويرى أن وقت أكلها سيؤخره عن ولوج الجنة!.وهذا..وهذا..وغيرهم من النماذج الكثير قدمتها الأمة يوم أن اتصل أفرادها برب السماء وسمت أرواحهم على هذه الدنيا الفانية،استحقوا النصر والتمكين، فاسأل نفسك أخي هل من عودة للإيمان؟.هل من عودة للدين؟.هل من عودة للاتصال برب السماء والسمو بروحك على هذه الدنيا الفانية؟.هل من سلوك لطريق النصر والعزة والكرامة؟هل من صرة لإخوانك ولو بدعوة مستجابة في هذا الشهر الكريم؟.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(7).

الخطبة الثانية

الحمدلله ولي المتقين وناصر المظلومين ومجيب دعوة المضطرين،أحمده سبحانه وعد و تكفل بنصر عباده المؤمنين ولوبعد حين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله صادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلم ياعبد الله أنه لن تنتصر الأمة حتى تنتصر أنت على نفسك،حتى تنتصر أنت على هواك،حتى تنتصر أنت على شهواتك،فأنت نعم أنت لبنة أساس في بناء الأمة،وهل تتكون الأمة إلامن أفرادها؟.فهاهي الفرصة متاحة أمامك لتسمو بروحك وتحلق في جو السماء من خلال العشر الآواخر من هذا الشهر الكريم،فقد كان نبيك وقدوتك صلى الله عليه وسلم يتفرغ في هذه العشر من جميع مشاغل الدنيا ليتصل بربه وخالقه فيعتزل أهله ويتفرغ للاعتكاف في المسجد؛أخبرتك بذلك أمك أم المؤمنين بقولها:((إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ))(8). ها قد حباك ربك في هذه العشر ليلةً خيراً من ألف شهر ليلة القدر التي قال فيها نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم :((..مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ))(9). فقلي بربك ماذا تنتظر؟.هات يدك لننطلق ونحلق في جو السماء نحو جنة عرضها السموات والأرض فإن الحور العين طال انتظارها.والأمة تنتظر النصر بصلاحك وصلاح إخوانك المسلمين.

---------------
(1) آل عمران: 125.(2) البقرة: 186.(3) آل عمران: 197.(4) البقرة: 249.(5) الأنفال:60.(6) الأنفال:12.(7) التوبة: 24.(8)البخاري،صلاة التراويح،ح(1884).(9)النسائي،الصيام،ح(2079).
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية