اطبع هذه الصفحة


تماسك الجبهة الداخلية

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمد لله الذي خلق الكون ونظمه بإدق نظام،وشرع لنا شريعة الحب والمودة والتماسك والوئام أحمده سبحانه وأشكره على نعمه المتتابعة علينا على الدوام،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه ولا في تدبيره ولا في علو المقام،وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً المبعوث رحمة للأنام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة سرمدية متتابعة على مر السنين والأعوام.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله فبتقوى الله يكون لدى العبد فرقاناً في حال الفتن والبلاء وعد بذلك الله بقوله:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ([1]).أمة المودة والترابط والإخاء نداء رباني وبيان إلهي ناداكم به رب العالمين  فقال:}وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{(12).نداء يدعوكم إلى التعاضد إلى التكاتف إلى التآزر ويبين لكم أن الفرقة والتنازع سبب الضعف والهوان ومن ثم تسلط الأعداء عليكم حينما يجدون مجتمعاً أصابه الوهن من كثرة ما يطعن بعضه في بعض ويقاتل بعضه بعضاً ؛ ولا يكون تآلف ولا تعاضد إلا على طاعة الله لأنه متى ما تركنا منهج الله ظهرت الأهواء وتعددت الفرق وتمزقت الأمة،وتزداد الحاجة للتماسك والتعاضد في وقت الأزمات والفتن والحروب ولذى جعله رب الأرض والسموات سبباً لحبه فقال : }إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ{(13) .فيا أيها الأحبة في الله إن المجتمعات والأمم كلما وجد بين أفرادها تماسك وتمازج قوي،وكلما وجد تلازم وتماسك بين القيادة السياسية للمجتمع وبين الرعية،وكلما وجد التفاف من أفراد الشعب حول قيادتهم وعلمائهم وثقة بما يقولون وساروا خلفهم؛كلما كان المجتمع قوياً صامداً ضد مخططات الأعداء ،وكلما ضعف ذلك الترابط سهل على الأعداء تمزيق ذلك المجتمع وتحويله إلى أحزاب وشيع يسفه بعضها بعضاً ويقاتل بعضها بعضاً؛وقد حرص أعداء الإسلام على تنفيذ هذا المخطط منذ زمن بعيد، فهذه الأمة الإسلامية كانت عزيزة بدولة الخلافة الإسلامية؛حيث كانت كتلة عظيمة يصعب على الأعداء ابتلاعها،فخطط أعداء الإسلام على تفتيتها ومع الأسف استجاب لهم السذج من بني الإسلام بدعوى الوطنية أو القومية وغيرها،ثم استمر المسلسل فإذا بالقومية الواحدة تتفتت إلى دول،وإذا بتلك الدول تشغل بمشاكل بينية عن أعدائها ، وأول ثمرة مرة لتمزق الخلافة الإسلامية لا تزال غصتها في حلوق بني الإسلام هي دولة إسرائيل الغاصبة، ثم بدأ السعي لتفتيت تلك الدويلات الإسلامية الصغيرة من داخلها فنسمع بين الحين والآخر انقلابات في بلدان عدة،أو معارك أهلية طاحنة تأكل الأخضر واليابس يغذيها أعداء الإسلام ، وكم من بلادٍ إسلامية أقنع أعداء الإسلام فيها طائفة من السذج بأن في التخلص من القيادة أو التمرد عليها خلاص وتحقيق للسعادة والرخاء فدخلت تلك البلدان في دوامة من الفوضى وسفك الدماء والفقر وانعدام الأمن ودفع الجميع الثمن،أيها الأحبة في الله إنما أحببت أن أذكر بذلك لأننا في حاجة إليه فهذه البلاد محسودة على الدرجة العالية من التماسك والتمازج بين العلماء والقادة والشعب،هذه البلاد تمثل المرتكز الأساسي للعالم الإسلامي لما تحويه في جنباتها من مقدسات إسلامية،هذه البلاد تمثل بعد الله ملاذاً للكثير من الدول الإسلامية في محنها ، فلذلك ولغيره أصبحت بلا جدال هدف لأعداء الإسلام يخططون عليها ويمكرون بها {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}(2) .ولكن قد تكفل الكريم برد مكرهم بقوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(3) ؛فهناك حملة في العديد من الصحف الأجنبية تحرض القيادة في هذه البلاد على الشعب من خلال وصفها بالتساهل مع الإرهاب والإرهابيين، ولكنها لم تنطل بفضل الله على قيادتنا الحكيمة،وفي المقابل هناك حملة إعلامية تستثير العواطف الإسلامية وتحاول أن تحرض السذج على قيادتهم،فأقول أحبتي إن المخرج من هذه الفتن هو الاعتصام بما جاء في شريعة الله من الأمر بالتماسك والتعاون على تقويته بين القيادة والأفراد ونجد أن الإسلام قد شدد في ذلك أخرج الإمام مسلم عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ))(4) .وأخرج الإمام أحمد  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ  صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ  يَغْضَبُ لِعَصَبَتِهِ وَيُقَاتِلُ لِعَصَبَتِهِ وَيَنْصُرُ عَصَبَتَهُ فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَى لِمُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ))(5) .وقد أمرن صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمر في المنشط والمكره فلا يصح للمرء أن يطيع فقط إذا كان الأمر متمشياً مع هواه وعواطفه فقط بل ما دام أن الأمر متمشياً مع كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم  فإنه يجب لولي الأمر الطاعة ؛والذي يحدد مدى توافق ذلك الأمر مع ما شرعه لنا الله هم العلماء المجتهدون الموثوق بدينهم وأمانتهم ويكون الأمر برقابهم أما أن يرجع المرء القضية لفهمه وعاطفته وتصوره فهذا خطأ بين فقد بين الله تعالى المنهج والطريق بقوله:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}(6) .وأخرج الترمذي عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ    صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ  الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))(7) .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(8).  

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى يجزي أهل الوفاء بالتمام والوفاء وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبتغى ولا ند له يرتجى وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي المجتبى والحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من صدق إيمانهم من هذه الأمة لا تزيدهم المحن والفتن والكروب إلا تماسكاً ويقيناً بوعد الله لعباده المؤمنين فهؤلاء الثلة المصطفاة أصحاب رسول الله يوم أن اجتمعت الأحزاب عليهم في المدينة لإبادة خضرائهم واشتد الأمر على المسلمين حتى يصفه الله بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ()هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(9) . فمع هذه الشدة وتلك الغمة ماذا كان موقف العباد المؤمنين الصادقين:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}(10) .زادتهم تلك الشدة التصاقاً بدينهم والتحاماً بقيادتهم ونبيهم أما أصحاب النفاق أصحاب القلوب التي فيها مرض فإنهم يكونون أداة طيعة في يد الأعداء لخلخلة الجبهة الداخلية بسبب خوفهم واضطرابهم وعدم ثقتهم بدينهم وربهم وهذا ما حدث بالضبط مع فئة المنافقين في نفس الغزوة غزوة الأحزاب وفي نفس الظروف التي زادت المؤمنين إيماناً وتصديقاً زادت المنافقين إرجافاً وتكذيباً واستمعوا إلى العليم بخفايا القلوب يوم أن يصف لنا ذلك بقوله:{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(11) .فاتقوا الله عباد الله وكونوا صفاً واحداً خلف قيادتكم وعلمائكم ولا تتركوا فرصة لأعداء دينكم وبلادكم أن يمزقوا صفكم بالشائعات أو الرسائل الهاتفية أو غيرها.

----------------
([1]) الأنفال:29.(2)إبراهيم:46.(3)الأنفال:30.(4)مسلم،الإمارة،ح(3443).(5)الإمام أحمد،باقي مسند المكثرين،ح(7603).(6)النساء:83.(7)الترمذي،العلم،ح(2600).(8)الأنفال:46. (9)الأحزاب10،11.(11)الأحزاب:12. (12)الانفال:46.(13)الصف:4.
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية