اطبع هذه الصفحة


سلامة الصدر

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد أنت أحق من عبد وأرأف من ملك وأكرم من سؤل وأوسع من أعطى وأقوى من استنصر وأعز من نصر ، القلوب إليك مفضية والسر عندك علانية ، لا تطاع إلا بإذنك ولا تعصى إلا بعلمك تطاع فتشكر وتعصى فتغفر ، الحلال ما أحللت والحرام ما حرمت والدين ما شرعت لك الحمد بالإيمان ولك الحمد بالقرآن لك الحمد بالأهل والمال والمعافاة كبت عدونا وأظهرت أمننا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا فلك الحمد حتى ترضى ولك الحمد بعد الرضى ولك الحمد على حمدنا إياك . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد : فتمسكوا عباد الله بوصية الله لكم إذا يقول في كتابه الكريم : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.أمة المحبة والوئام حديثنا في يومنا هذا عن أمر لما فقد في المجتمع ظهر التدابر والتقاطع وظهرت الشحناء والتصرفات الرعناء ووهنت صلات المجتمع بعضه ببعض وضعف التماسك بين أفراد المجتمع الذي يطلبه ديننا وعقيدتنا ، هذا الأمر هو من أهم دعائم التماسك الاجتماعي ويحتاجه المرء في كافة صلاته الاجتماعية سواء على مستوى صلاته بأهله في بيته أو في علاقاته بجيرانه في حيه أو مع زملاء عمله أو مع كافة المسلمين ، هذا الأمر هو سلامة صدر المؤمن على أخيه المؤمن فأساس تعامل المؤمنين بعضهم مع بعض هو الرحمة وضع هذه القاعدة ربنا وخالقنا جلَّ قدره في قرآن يتلى إلى يوم القيامة حيث قال:{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} فكيف تأتي الرحمة من قلب ملء غيظاً وحقداً ، أما علم أولئك الذين يتميزون غيظاً على إخوانهم المؤمنين أن من صفات العباد المؤمنين التي أثنى الله بها على عباده في كتابه حرصهم على سلامة صدورهم على إخوانهم المؤمنين فإن لم يعلموا فليستمعوا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.أيها الأحبة في الله هاكم مثال على التطبيق العملي لسلامة الصدر يضربه لنا الصديق رضي الله عنه فقد تكلم مع المتكلمين في حادثة الإفك صحابي اسمه مسطح وكان قريباً لأبي بكر وكان الصديق يحسن إليه ، فإذا به يجده يتلكم مع الناس في أثمن ما يملك الرجل وجده يتكلم في عرض ابنته الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات فلما نزلت البراءة من الله للصديقة بنت الصديق زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أراد الصديق أن يقطع ما كان له من إحسان على مسطح ولكن ذلك العمل لم يكن يناسب تلك النفوس الطاهرة والنجوم التي يقتدى بها فنزل العتاب الرباني لأبي بكر في قوله تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فاستجاب الصديق له استجابة فورية وقال بلى والله أحب أن يغفر الله لي وأعاد إحسانه لمسطح.أمة الإسلام إن العفو عز في الدنيا لا كما يتصوره بعض الناس بأنه ذلة ونقص مكانة ، أخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث قال:((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ))مسلم.
يا قوم أتدرون ما ثمن سلامة صدر العبد المؤمن على أخيه المؤمن؟ إنه ثمن غال إنه الجنة وارعوا سمعكم لهذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ )) وما أعجب ما نرى في هذا الزمان حيث يحقد الرجل على أخيه بغير أذية منه بل هو الحسد لما أنعم الله عليه به من الخير ، ثم ينشر عنه الشائعات والأقاويل لينفر الناس منه ، وأعجب من ذلك رجل وصله حديث عن رجل مسلم فأخذ منه موقفاً وملأ قلبه عليه غضباً دون أن يتأكد من صحة ما نقله الناقل ، وتعظم المصيبة إن كان مثل ذلك يحدث بين من يرى الناس فيهم أنهم أهل الصلاح والدعوة إلى الله. أيها الأحبة في الله إن من الناس من يكظم غيظه لا للعفو ولكن عياذاً بالله ليتحول لما هو شر منه ، فقد يكظم الإنسان غيظه دون أن يطهر صدره منه فتظل مراجل الحقد والضغينة تفور في صدره فيتحول غيضه الفائر إلى إِحْنَة متأججة ، ويستحيل غضبه الظاهر إلى حقد دفين والغضب والغيض أطهر وأنظف من الحقد والضغينة . إن الغيظ وقر ثقيل على النفس حين تكظمه وشواظ يلفح القلب ودخان يعمي البصيرة أما حين تصفح النفس ويعفو القلب فهو الانطلاق من ذلك الوقر والرفرفة في أفاق النور والبرد على القلب والسلام على الضمير ، هذا هو الشعور بالإحسان الذي يشعر به العبد المسلم وهو يصفح عن أخيه.أعوذ بالله من الشيطان لرجيم:{..وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.اللهم طهر قلوبنا من الحقد والغل واجعلها يا ربي بيضاء نقية أبرد من الثلج وأبيض من اللبن على عبادك الصالحين وهب لنا من لدنك رحمة وأنت خير الراحمين

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه لو لم يكن في الحقد والشحناء إلا ما رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ((تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا))لو لم يكن فيها إلا هذا لكفى فما بالكم بما يسببه الحقد لصاحبه من اضطراب عصبي وقلق نفسي وسهر لليالي يفكر كيف يفرغ هذا الحقد كيف ينتقم لنفسه وإذا رأى من يحقد عليه احمر وجهه وانتفخت أوداجه وطار الشيطان إلى دماغه،يفكر كيف يلقاه أيحد فيه عينيه أم يمط شفتيه أو لا يسلم عليه بيديه ، يظل في دوامة تتنازعه الأفكار الشيطانية والوساوس العدوانية ، بينما الذي عفا وصفح يتمتع باستقرار نفسي وهدوء عصبي ابتسامته لا تفارق وجهه كأنها مرآة تعكس صفاء قلبه.أمة الصفاء والإخاء هاكم علاجاً ناجعاً مجرباً يصفي القلب ويريح النفس ويذهب كيد الشيطان ، هذا العلاج هو أن يستغفر العبد الذي يجد في صدره شيء على أخيه لمن أغضبه ويدعوا لمن يحقد عليه مع استمرار هذا الأمر والدعاء له كل ما وحجد في صدره عليه سيزول بإذن الله ما يجده في صدره ؛ وذلك أن ما يجده العبد المسلم على أخيه في قلبه إنما هو من كيد الشيطان ، فإذا وجد الشيطان أنه كلما زاد في كيده زدت أنت في دعائك واستغفارك لأخيك وبك ملك موكل بك يقول أمين ولك مثل ذلك لأنك تدعوا له بظهر الغيب ، فإن الخبيث سينصرف عنك لأنه يرى أن صفقته في التحريش بينكما خاسرة ، ثم إن من علاج ذلك أيضاَ كثرة ذكر الله لأن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم واضعاً خرطومه فيه فإذا ذكر الله خنس وإذا نسي رجع ، وأخيراً ليتفكر ذلك الذي حمل الظغينة على أخيه هل حملها من أجل دنيا ؟ فإن كانت من أجل دنيا فإن الدنيا عرض زائل لا تستحق الغضب من أجلها ، أما إذا كان من أجل الآخرة فإن للغضب لله ضوابط وأسس وكم من الناس سول لهم الشيطان أن غضبهم لله بينما كان حسداً ولهوى في أنفسهم فإن كان لله فليمض الإنسان غضبه لكن ليكن عالماً بما يفعل لا أن يتصرف عن جهل أو حسب مقالة الناس والله أعلم .
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية