صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







فضل التواضع

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمدلله المعز المذل ، الباسط القابض ، المتصرف في خلقه كيف يشاء له الأمر وله الحكم وإليه ترجعون ، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وفضله وإحسانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد:فاعلموا رحمني الله وإياكم أن الموت أمامكم ومن وراءه القبر ثم البعث والحساب  فإما جنة وإما النار فأوصيكم ونفسي بمفتاح النجاة من النار ألا وهو تقوى الله في السر والعلن وفي الغيب والشهادة يقول الله جل جلاله{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا()ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا()ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا()وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا()ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(72)}
أمة التقى تحدثت في الجمعة الماضية عن ذم الكبر وأهله وحتى تكتمل الصورة رأيت أن يكون الحديث اليوم عن الجانب الآخر وهو فضل التواضع وأهله،والتواضع ياعباد الله يقول عنه ابن المبارك :(رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعم الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك فضل عليه، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك  في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه فضل عليك)([1])التواضع ياعباد الله خلق محبب لربكم ولذاك ربى عليه العظيم أنبيائه فخاطب حبيبنا ونبينا محمداً  صلى الله عليه وسلم  أمراً له بالتواضع بقوله:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88}(الحجر) ،وربى عليه موسى عليه السلام يوم أن قال أنه لايعرف من هو أعلم منه على وجه الأرض فأرسل إليه الخَضِر ليتعلم منه،وربى عليه سليمان عليه السلام الذي أوتي من الملك مالم يؤتاه أحد من العالمين فجاءه الهدهد وهو طائر صغير في مملكته ليقول له: {..أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ22}(النمل) وغيرهم من أنبياء الله ورسله،وامتدح الله من يربون أولادهم على التواضع في صورة تخليده لوصية لقمان لابنه في أيات تتلى إلى يوم القيامة والتي قال فيها لقمان لابنه :{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18} (لقمان)،وحذر الجبار جل جلاله من يتكبر على شريعته وعبادته بقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(60}(غافر) وامتدح من عباده المؤمنين من طبقوا التواضع في حياتهم بقوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا(63}(الفرقان) وإذا تأملنا معاشر الأحبة ماذا يريد المتكبر من تكبره ألا يُريد الرفعة والعلو،فنقول له إن سبيل ذلك هو التواضع أخبرنا بذلك من لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى حيث قال:((ما نَقَصتْ صَدَقةٌ من مالٍ ومَازَادَ اللهُ عَبْداً بعفوٍ إلا عِزاً ، ومَاتواضعَ أحَدٌ للهِ إلا رفعهُ اللهُ))(مسلم والترمذي) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:يقول تبارك وتعالى : (مَنْ تواضعَ لله هكذا (وجعلَ يزيدُ باطِنَ كفهِ إلى الأرض وأدناها ) رفعته هكذا ( وجعل باطنَ كفهِ إلى السماء ورفعها نحو السماء )(2)،فتعالوا أحبتي لنرى كيف طبق قومٌ التواضع فسادوا وعزوا وعلى رأس أولئك القوم حبيبننا وقدوتنا صلوات ربي وسلامه عليه ففي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام فداه أبي وأمي والناس أجمعين يمر على الصبيان فيسلم عليهم،وكم منا أحبتي من يمر على الصبيان فلا يسلم عليهم؟ كان يجلس عليه أفضل الصلاة والسلام بين أصحابه مختلطاً بهم كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلايدري أين هو حتى يسأل عنه ، وأُتي يوماً برجل فأرعد من هيبته فقال له  صلى الله عليه وسلم :((هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد))ومن سيرة عمر الفاروق رضي الله عنه أنه خرج يوماً إلى الشام ومعه أبو عبيدة فأتوا على مخاضة-مستنقع فيه ماء كثير-وعمر على ناقة له،فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض،فقال أبو عبيدة:يا أمير المؤمنين:أنت تفعل هذا ؟ مايسرني أن أهل البلد استشرفوك-أي رأوك-فقال:أوّهْ -كلمة تضجر- ولو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد،إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله(3) وكان عثمان رضي الله عنه يلي وَضوء الليل بنفسه فقيل له : لو أمرت بعضَ الخدمَ فكفوك؟ فقال لهم:لا إن الليل لهم ليستريحون فيه(4)، فأين من يتعبون خدمهم الليل والنهار وحتى إذا احتاج أحدهم لكأس الماء لطلب من الخادم بل وأحياناً الخادمة وهي امرأة أجنبية عليه أن تحضره له ! أين هم من هذا الخلق الرفيع ، وكان أبو بكر قبل الخلافة تاجراً ، وكان يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي الآن لا تُحلبُ لنا منائحُ دارنا ، فسمعها أبو بكر فقال : بلى والله ، لعمري لأحلبن لكم ، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم(5)، ونرى اليوم بعض الناس إذا تولى منصباً ولو كان حقيراً تكبر على جيرانه وأهله ومن حوله بل حتى على والديه فكيف لو تولى الخلافة؟ وعند البخاري في الأدب المفرد أن علياً رضي الله عنه اشترى بدرهم تمراً ، فحمله في ملحفته فقال له رجل أحمل عنك يا أمير المؤمنين،قال:لا أبو العيال أحق يحمل،وكان سلمان الفارسي أميراً على المدائن ، فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم الله معه حمل تين،وعلى سلمان سراويل عجمية وعباءة،فقال الرجل لسلمان:تعال احمل -يحسبه حمالاً-فحمل سلمان،فرآه الناس فعرفوه،فقالوا هذا الأمير،فقال الرجل:لم أعرفك،فقال له سلمان :لا.حتى أبلغ منزلك،قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ منزلك(6).أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ()وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19}لقمان

الخطبة الثانية
الحمدلله وكفى يجزي أهل الوفى بالتمام والوفى وسلام على عباده الذين اصطفى أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له يرتجى ولا ندله يبتغى وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله وربوا أنفسكم وأولادكم وأهليكم على التواضع ابتغاء ما عند الله واعلموا رحمني الله وإياكم ان مما يعين على التواضع مخالطة الفقراء والمساكين ومن يعتبرهم الناس بمقاييس الدنيا الزائفة أنهم أقل الطبقات الاجتماعية شأناً وهذا هو الذي وصى الله به رسوله  صلى الله عليه وسلم  حيث قال:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)}الكهف أيها الأحبة في الله وأهم مافي التواضع أن يخلص الإنسان قلبه من الشعور بالعظمة والغرور واحتقار الآخرين وأن يُخلص سلوكياته من مظاهر الكبر كالاختيال في المِشية ونحوها،لكن يجب أن يتواضع مع من يُقدر ويفهم معنى التواضع لا مع من يفسره تفسيراً خاطئاً فمن الناس من يفسر التواضع على أنه ضعف في الشخصية ويحاول أن يحقق مآرب له من خلال ذلك فمثل هذا ينبغي أن يُتصدى له ويُوقف عند حده،كما أنه لاينبغي بحجة التواضع تضييع هيبة الدين بأن يحني الإنسان رأسه ويخفض صوته ويمشي مِشية هي قريبة من الموت إلى الحياة ، وقد رأت أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قوماً يفعلون ذلك فقالت لهم عن عمر وتواضعه وأنه رضي الله عنه كان إذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وإذا تكلم أسمع،فلنضع أحبتي التواضع في موضعه ليكون خلق عزة وترابط ووئام في المجتمع ولا يكون خلق ذلة وابتزاز فيه.

--------------
([1]) أحياء علوم الدين ، ص1942 ، (2)(رواه أحمد والبزار ورجاله محتج بهم في الصحيح) ([1]) كنز العمال 5 : 48
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية