اطبع هذه الصفحة


والدي كما رأيت

د.عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid

 

كانت حكمة الله في هذه الدنيا أن يبتلي المؤمن بالأحزان والأسقام تصيب نفسه أو أحباءه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته)، والمصائب على درجات مختلفة، فمنها ما هو شديد عظيم ومنها ما هو هين، ويبقى أخطر المصائب وأشدها تلك التي تصيب الإنسان في دينه فيفقده أو ينقص منه، ولذلك فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا"، فالمصيبة في الدين لا تعدلها مصيبة.

وإن من أعظم ما يجد المؤمن في هذه الحياة من المصائب أن يفارق إنسانًا عزيزًا على قلبه كانت له مكانة من نفسه ربما لا تكون لغيره، ولا شك أن الموت من أشد المصائب التي تصيب الإنسان، فقد وصف الله تبارك وتعالى الموت في كتابه الكريم بالمصيبة فقال: (إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ).

والمصيبة إذا وقعت فإن على المؤمن أن يصبر عليها ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، فإذا ما صبر الإنسان على المصيبة فإنه يعقبها خير كثير في الدنيا والآخرة، فيرفع الله بها أجر صاحبها ويطهره، وخاصةً إذا ما قال عند وقوعها أو علمه بها ما يرضي الله عز وجل، فيشرع للمؤمن إذا حلت به مصيبة أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون، فقد قال تبارك وتعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

وإننا إذ أصابتنا مصيبة موت الوالد معيوف بن مطر بن نافل الجعيد من خامس المعانية من قبيلة الجعدة من عتيبة رحمه الله، في فجر يوم الأربعاء 16/3/1444ه، لا نقول إلى ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى، فالحمد لله وإنا لله وإنا إليه راجعون واللهم آجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرًا منها، ونسأل الله عز وجل أن يتغمده برحمته وأن يحسن إليه ويعفو عنه ويغسله بالماء والثلج والبرد، وأن ينقيه من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

ولقد كانت حياته رحمه الله مليئة بطاعة الله عز وجل، فكان أحد الرجال الصالحين الذين يشهد لهم الناس بحسن السيرة، فقد أحبه الصغير والكبير لما يتصف به من البشاشة والدعابة والأنس، فكان من يراه ولو لمرة واحدة يحبه لما يجد منه من اللين والتعامل الحسن، وكان رحمه الله سباقًا إلى أعمال الخير ما استطاع، فكان كريمًا ينفق من ماله بلا حساب، ينفق ماله بسخاء على إكرام الناس، وكان رحمه الله حسن العشرة وفيا لأصدقائه، دائم الود لهم، يصلهم ولا يقطعهم ويتفقد أحوال أقاربه وأحبابه بالزيارة ويتفقد المرضى وكبار السن باستمرار ويحرص على زيارتهم، تربطه رحمه الله العلاقات القوية مع أصحابه وأقاربه وجيرانه حتى أحبه الجميع، ولم تكن بينه وبين الناس عداوة، وقد كان من العاملين على مساعدة الفقراء والمحتاجين ورعايتهم بصورة مستمرة

تميز رحمه الله بحرصه على غرس المحبة والإخاء بين الناس من حوله، فكان من المسارعين في إصلاح ذات البين، وذلك لإيمانه الشديد بأهمية إصلاح ذات البين ودوره في تكوين مجتمع صالح متماسك، فلا يعلم مشكلة بين اثنين إلا سارع في حلها وإعادة علاقات المحبة بينهم، كما كان رحمه الله من المسارعين في مشاركة الأهل والأصدقاء في مناسباتهم بشكل مستمر، فتجده من السباقين في مشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم.

ولا تقف مناقبه رحمه الله عند ذلك فحسب، بل كان من المهتمين برعاية شؤون الوافدين من العمال الأجانب، يعمل على مساعدتهم في قضاء حوائجهم، يبذل من لهم جهده وماله، دائم السؤال عن أحوالهم، وليس ذلك فحسب، بل كان يساعد أهاليهم إذا كانوا يحتاجون المساعدة.

لقد كان رحمه الله من العاملين لأجل الدين وإقامته، ويتجلى ذلك في اهتمامه بالقرآن، فكان من الساعين في إقامة حلقات القرآن في مساجد القرى وتوفير كافة متطلباتها بالتعاون مع جمعية القرآن بجنوب الطائف.

إن سيرته رحمه الله مليئة بالأعمال الصالحة التي نسأل الله عز وجل أن يتقبلها منه وأن يجعلها في ميزات حسناته، وإن من بواعث كتابة هذه السيرة وتقديمها تذكير الناس بأخلاق الإنسان المسلم والصفات والقيم التي حث عليها الشرع، لنقتدي بها وتقتدي بها الأجيال المقبلة بما يصلح حالها في الدنيا والآخرة، فمثل سيرته رحمه الله تصلح لأن تكون نبراسًا يهتدي به الجيل القادم من أبنائنا وأحفادنا، ليستفيدوا مما فيها ويحفزوا بها نفوسهم للسير على طريق آبائهم الصالحين، وخاصةً في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وضعفت فيه القيم الإسلامية، وانتشرت فيه الخصال والأعمال المخالفة للقيم الإسلامية التي تربينا عليها، ففي هذه السيرة من الدروس ما يمكن أن يستفيد منه كل من الآباء والمعلمين والقادة والأبناء ليسهموا جميعًا في صلاح الأمة وصلاح الأجيال القادمة؛ فإن في نشر سير الأخيار، وذكر أخبارهم تخليدا للقيم، وإذاعة للمآثر، وتحفيزا للتحلي بحسن الخصال، ومحاكاة الأخيار، والاقتداء بهم في الأعمال الصالحات.

وختامًا، فنسأل الله لوالدي الرحمة والمغفرة، وأن يتجاوز عنه ويبدله دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله، وأن ينقيه من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأن يجعلنا له خير خلف نبره بسد مسده، والسير على خطاه في كل خير يقوم به، ونسأل الله أن يجعل من سيرته العطرة منارةً يهتدي بها كل رجلٍ يسعى في قضايا أمته ووطنه وأهله.
 

 
  • المقالات
  • العمل الخيري
  • الكتب
  • الصفحة الرئيسية