اطبع هذه الصفحة


توجيهات رمضانية (12)

رمضان فرصة وانطلاقة للتغيير

خالد بن علي الجريش


الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
إن حياة المسلم كلها عبادة لأنه خُلق لأجلها، وإن من أعظم المواسم للعبادة شهر رمضان المبارك، حيث يتّصف بتصفيد مردة الشياطين، وكذلك بصبغته الروحانية من خلال الصيام والقيام، وغير ذلك من العبادات، لهذا وغيره يمكن أن يكون شهر رمضان فرصة للتغيير الإيجابي ومن هنا كان استثمار هذا الشهر في تنسيق الجدولة الحياتية وترتيبها هو من الاستثمار الأمثل، وفي هذا الموضوع سأطرح عشرًا من الهمسات، واثني عشر نموذجًا للتغيير لعلها أن تُساهم في مشروعٍ تربوي أو إيامني أو جدولة فردية، تفتح على صاحبها آفاقًا واسعةً من الخير بإذن الله تعالى.

الهمسة الأولى:
إن أهمية التغيير تبرُز واضحةً وجليةً عندما يعلم المسلم أن التغيير الإيجابي هو استثمار مواهبه لمصلحته، فهي مكاسب مُتتابعة، كما أن التغيير يُكسبك جانبًا كبيرًا في التصحيح السلوكي مع الخالق والمخلوق، وحين تطمح إلى هذه الإيجابية في التغيير فأنت تنتقل من حسنٍ إلى أحسن في جميع أحوالك، فشمّر عن ساعد الجد في أعمالك الأخروية والدنيوية النافعة مستزيدًا من الخير لتبرمج جدولة تناسبك طِوال عامك، فإن التغيير إلى الأحسن هو الطبيعة التي يأمر بها الشرع ويقتضيها العقل وتدل عليها الحكمة.

الهمسة الثانية:
لماذا التغيير في رمضان؟ إن ذلك لأسباب عدة منها:
أولًا: أن النفوس فيه متهيئة أكثر من غيره للتغيير، فهي تعيش فيه بروحانية كبيرة مما يجعلها راغبة في الاستزادة من الخير، فمن المستحسن أن يكون هذا الشهر هو انطلاقتها.
ثانيًا: أن شهر رمضان هو عبارة عن دورة تربوية إيمانية سلوكية، فمن نجاح الفرد بهذه الدورة أن يعقد العزم بالمزيد من الخير بعد رمضان عن طريق رسم تلك البرامج التي يعزم على تنفيذها بعد رمضان.
ثالثًا: أن من طبيعة النفس في رمضان أنها توّاقة إلى التفاعل الإيجابي مع التغيير لأنه يُكسبها أجرًا وثقافةً وسلوكًا حسنًا طِوال العام، لهذا وغيره كان رمضان فرصة وانطلاقة للتغيير.

الهمسة الثالثة:
هل التغيير صعب أم سهل؟ إن السهولة والصعوبة شيء نفسي لدى المغيّر حسب ما تنطوي عليه عزيمته في التغيير، فإنه إذا عزم وأصرّ على هذا التغيير فهو سهل و سهل جدًا، لأن إصراره وعزيمته بعد توفيق الله تعالى تمهّد له جميع العقبات، وأما إن كان ضعيف العزيمة والإصرار فلا شك أن العقبات ستغلبه ومن ثم قد لا يحصل التغيير المرجو والمنتظر.

الهمسة الرابعة:
إن التغيير قد لا يأتي دفعة واحدة، فإصلاح كل سلوك خاطئ أو تنمية سلوكٍ إيجابي قد يكون بالتدريج فالحلم بالتحلم والعلم بالتعلم، فالمحاولة المتكررة والمجاهدة الصادقة لها حظها الكبير من النتائج الإيجابية، فأحيانًا ننتقل من نجاح إلى نجاح في التغيير على دفعات متتابعة مدروسة، كما أنه قد يحصل أحيانًا دفعةً واحدة إذا زاد إصرار ذلك المغيّر وقويت عزيمته وخطط ورتب أولوياته.

الهمسة الخامسة:
إن بعض التغيير متعلق في الفرد نفسه، كمن يريد أن ينمّي مواهبه الفردية وبعضها متعلق بالغير من الوالدين أو الأسرة أو المجتمع أو الأصدقاء أو غيرهم، وفي هذا أقول بأن التغيير المتعلق بالآخرين قد يحتاج إلى نوع من السياسة معهم، فلا يستعجل النتائج وإذا فشِل فليحاول مع طريق آخر.

الهمسة السادسة:
إن الانتقال من سيء إلى حسن توجبه الضرورة وإن الانتقال من حسن إلى أحسن توجبه الحكمة، فإياك أن ترضى بواقع المتدني فإنه قد يتدنى أكثر من ذلك إذا لم يسايره تغيير إيجابي.

الهمسة السابعة:
إذا كنت تعتقد صعوبة التغيير ففكر في المكاسب قبل أن تفكر في المتاعب، فإنك أحرى أن تصل إلى هدفك بسلام.

الهمسة الثامنة:
رتب أولوياتك فيما تريد تغييره، فليست الحاجيّات على حد سواء فابدأ بالأهم ثم المهم، فهذا التسلسل يشحذ همتك ويقوّي عزيمتك.

الهمسة التاسعة:
لا مانع من الاشتراك والتعاون مع آخرين في تغيير شيء معين يهدفونه جميعًا، فإن بعضهم يقوّي عزيمة بعض، فالمرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وإذا اجتمعت العقول حصل بإذن الله المأمول.

الهمسة العاشرة:
حاول أن يكون عندك نظرة استشرافية للمستقبل، بأنك إذا غيرت ماذا ستكون أرباحك وواقعك وموقعك فإن هذا يقودك إلى التقدم والإصرار والمتابعة، لأن هذا هدفٌ تريد الوصول إليه والحصول عليه، فالنظرة المستقبلية مشجعة في التغيير.

وبعد هذه الهمسات العشر أخي الكريم أذكر لك نماذج من الأعمال يجب أن تتغير فأرعني سمعك يا رعاك الله لأن هذا التغيير الفردي والجماعي يجب أن يكون حاذقًا وناجحًا بإذن الله تعالى، لأن المجتمع هو مجموعة من هؤلاء الأفراد، فأنتَ وأنتِ جزءٌ من المجتمع، فإن نجاحكما يُمثل نسبةً من نجاح المجتمع.

النموذج الأول:
إن هجر القرآن عمل ذمه الله تعالى، قال عز وجل على لسان أحد أنبيائه (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) فهل سيكون هذا الشهر المبارك انطلاقةً عمليةً وتفاؤليةً لنا بأن يكون لي ولك مع كتاب الله جدولة وبرمجة تسير معنا طِوال عمرنا، وحينها كم سنكسب من الحسنات العظيمة وكم ستتيسر الأمور وتنفتح المغاليق، ابدأ في يومك هذا مبرمجًا ومجدولًا، لعل التوفيق أن يكون حليفك.

النموذج الثاني:
إن قطيعة الرحم من الأعمال السيئة المتوعّد صاحبها باللعنة والعمى والصمم، وإن الصلة من أسباب بسط الرزق وطول العمر، فهل سيكون شهر رمضان فرصة وانطلاقة لنا في تصحيح هذا المسار طيلة حياتنا صلةً مرتبة غير مقتصرة على المكافأة فقط، فنصل من وصلنا ومن قطعنا كلاهما، فاحرص على تلافي هذا الوعيد الشديد من خلال الصلة، فإن الأجور متتابعة عليك.

النموذج الثالث:
عقوق الوالدين من أبشع الأعمال وأسوئها، والوالدان هما باب الجنة وإن برهما مفتاح لكل خير وإغلاق لكل شر وأيضًا برهما سعادة وأنس وسكينة واطمئنان، فهل سيكون هذا الابن أو تلك البنت مع والديهم على مسار آخر من البر بدلًا من العقوق؟ وينطلقون في هذا الشهر المبارك بروح عالية ومعاملة طيبة مع والديهم فلربما وُفقوا بدعوة صادقة فسعدوا في الدارين.

النموذج الرابع:
إن الجفاف العاطفي بين الآباء والأبناء سلبية في التربية وله آثاره السيئة في حصول الفجوة بينهم، فلا يعلم أحدهم ما عند الآخر والمعاملة بينهم على الضرورات فقط، ولا شك أن كلا الجانبين لحقه نسبة من الضرر ولكن هل سيكون شهر رمضان انطلاقةً لفتح صفحة جديدة في إذكاء الجانب العاطفي والاندماج الروحي ولو بالتدرج، فحينها سيسعد الجميع.

النموذج الخامس:
إن جمود اللسان عن الذكر إلا قليلًا خسارة على صاحبه، فإن ذكر الله تعالى من أوسع الأبواب في تحصيل الثواب، ويُهيّئ النفس للتحمل للمشاق بأنواعها، فهل سننطلق في هذا الشهر المبارك بأذكار كانت غائبة عن ألسنتنا قبل ذلك ونستمر عليها طوال عمرنا، إنك أخي الكريم حينما تتامل ذلك ستجد أرباحًا عظيمة هي ضائعة فابحث عنها واثبت عليها.

النموذج السادس:
التدخين صفة ذميمة منبوذة، والمدخن يحمل بين جنبيه كلمة التوحيد العظيمة فهل أثّرت تلك الكلمة العظيمة على تلك الصفة الذميمة بتركها والبعد عنها، فيا أخي المدخن الكريم أنت كريم وغالٍ بعقيدتك وإيمانك فهل سيكون هذا الشهر المبارك انطلاقة لك بترك التدخين فقد كُفيت النهار بالصيام فاعزم أنت على الليل، وحينها يسلم لك دينك ومالك وصحتك، وفي حديث مع أحدهم، قال: إن السبب الرئيسي في الإقلاع بعد توفيق الله تعالى هو العزيمة والإصرار، ويا أخي الكريم المدخن إن لجان المكافحة أبوابها مُشرعة مفتوحة فسارع ما دمت في زمن الإمكان.

النموذج السابع:
الغيبة آفة عظيمة وهي توزيع حسناتك على الآخرين في يومٍ أحوج ما تكون إليه، فما أسهلها قولًا وما أعظمها أثرًا سيئًا، فهل سننطلق في رمضان في عقود مع أنفسنا بتركها والبعد عنها والتحذير منها، وحينها ستختفي مشاكل لا تحصى كثرةً هنا وهناك.

النموذج الثامن:
يقول أهل التربية عن الجليس بأن الصاحب ساحب، وهو كذلك، فستكون أنت نسخةً منه، فهل سيكون شهر رمضان انطلاقةً لنا في تحديث قائمة الجلساء لدينا وترك ما لا تحسُن مجالسته؟ فبهذا سنسلم من سلبيات كثيرة نحن في غِنى عنها.

النموذج التاسع:
إن العُبوس في وجه الآخرين من الأخلاق السيئة، وإن البشاشة والابتسامة تفتح لك المغاليق عند الآخرين وهي فرصة لجمع الأجر العظيم مع تَكرارها، فهل سننطلق في شهرنا المبارك بواقعٍ من الانبساط وطلاقة الوجه عند لقاء غيرنا، فإن النفس إذا اعتادته صار سجيةً لها فكُن كذلك.

النموذج العاشر:
الصيام عمل عظيم وجميل غير أن بعض الناس قد يقتصر طيلة دهره على الواجب منه فقط، فهل سننطلق في شهرنا هذا بقرار بأننا سنصوم عددًا من أيام النفل، لعلها أن تُرقّع الخلل الحاصل في الفرض، فهي سُويعات محدودة تتذوق خلالها لذة التقرب إلى الله تعالى فيا بشراك.

النموذج الحادي عشر:
نحن أمة أول ما نزل من كتابها كلمة (اقرأ) لكننا لا نقرأ، فهل سيكون شهرنا نقطة انطلاق لنا في جدولة للقراءة الثقافية ففيها العمق في التفكير وطلب العلم ومعرفة ما عند الآخرين وتفتيح الأذهان وغير ذلك كثير فارسم لك منهجًا في ذلك ولو كان قليلًا فهو يتبارك.

النموذج الثاني عشر:
الصدقة تُطفئ غضب الرب، وتدفع البلاء وتُبارك المال وتزيده، فانطلق في شهرك المبارك بقرار يجعلك تُحدد نسبةً مئويةً من دخلك الشهري للفقراء والمشاريع الخيرية، فهي مخلوفة عليك، وهي نقل لمالك من حسابك الدنيوي إلى حسابك الأخروي.

فهذه عدة نماذج تحتاج نقاشًا في التغيير وغيرها كثير، فشهر رمضان فرصتك فلا تضيّعها.

وإلى حلقة أخرى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


 

خالد الجريش
  • مقالات موسمية
  • توجيهات أسرية
  • الصفحة الرئيسية