اطبع هذه الصفحة


توجيهات رمضانية (6)

لعلكم تتقون

خالد بن علي الجريش

 
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونثني عليه الخير كله، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه والتابعين وبعد:
يقول الله تبارك وتعالى (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ففي هذه الآية الكريمة يتضح بجلاء ووضوح بأن من غايات الصيام الكبرى التقوى، وهذا يحتاج منا إلى استشعار هذا المقصد العظيم واستصحابه في حركاتنا وسكناتنا، فما أعظمه وأجلّه حينما تُتوّج صيامك بهذا المقصد العظيم، وثمة ارتباطٌ كبيرٌ بين الصيام والتقوى، فهي أثر من آثار الصيام، وبهذا يتبين خلل صيام من ضعُفت تقواه فيه، فتركك للمآكل والمشارب وسائر المفطّرات ابتغاء وجه الله تعالى قطعًا سيكون له أثر إيجابي على جوارحك، فسيتبع هذا الصيام صيام العين عن النظر إلى الحرام، وصيام الأذن عن سماع الحرام، وصيام اليد عن البطش في الحرام، وصيام القدم عن الخطوة إلى الحرام، وصيام اللسان عن الكلام في الحرام، ونحو هذا، وهذا ما يسميه أهل السلوك والتربية (تقوى الجوارح) الناتجة عن الصيام فالصيام له مفهوم هو أعمّ مما يفهمه بعض الناس، ولهذا قال تعالى مبينًا علة من علل الصيام (لعلكم تتقون) فمن افتقدها فقد افتقد جزءًا كبيرًا من مقاصد الصيام وهي "التقوى" وما أعظم أن يكون الإنسان تقيًا وما أكبره حين يستطيع أن يُحصّل مراد الله تعالى ووصيته للأولين والآخرين وهي "التقوى"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الصيام جُنة) أي وقاية من المعاصي لأن الصيام يميت الشهوات التي تدفع إليها، وعندما تريد هذا المقصد العظيم من الصيام فاجعل صيامك كاملًا وذلك بتنزيهه عن القوادح الحسية والمعنوية فلا يصح أن تفهم عن الصيام أن تتوقف عن المآكل والمشارب، لكنك تُطلق جوارحك تخوض في محارم الله، فإن هذا الصوم المجرد قد لا يورث التقوى لديك، فالصيام ميدان التسابق إلى تحصيل التقوى، والله تعالى بيّن للعباد طريق اكتسابهم الخير كثرة وقلة، فإذا علمت أن مثاقيل الذر أنت مُحاسب عليها من الخير والشر فلك موقف بينك وبين الله تعالى يُحاسبك ويُناجيك ويقررك فتذكرك لمثل هذه المواقف والمواطن، يجعلك تبحث عن التقوى بأي سبيل، فلا تحقرن شيئًا من الخير أن تعمله ولا شيئًا من الشر أن تتركه، وليس كثيرًا على نفسك أن تعمل جاهدًا لإنقاذها وإسعادها، أن تحاسبها بين الفينة والأخرى على طوال العام عمومًا وفي شهر رمضان خصوصًا، وقد عرّف العلماء التقوى، فقال طلق بن حبيب الرضى الله عنه: (هي أن تعمل ما أمر الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله) فلاحظ في هذا التعريف الارتباط بين ثلاثة أمور في الطاعة وهي (العمل والعلم والرجاء) وأيضًا ثلاثة أمور في المعصية وهي (العلم و الترك والخوف) فحاول استشعارها في كل فعل للطاعة وترك للمعصية فهذا الاستشعار هو وقود بإذن الله تعالى بمزيد التقوى، وسُئل أبو هريرة رضي الله عنه عن التقوى فقال للسائل: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال نعم، قال فكيف صنعت؟ قال إذا رأيت الشوك عدلت عنه وجاوزته أو قصُرت عنه، قال: ذاك التقوى، أي افعل في النواهي كما فعلت مع الشوك فلا تقارفها، ونحن تعترضنا أشواك في طريقنا إلى الله تعالى، فلا بد من العدول عنها ومجاوزتها، وثمة ارتباط وثيق بين التقوى والمراقبة فالمتقون دائمًا يراقبون تصرفاتهم، فما كان لله مضوا فيه وما كان لغيره رجعوا عنه، ومما تكمن فيه المراقبة مراقبة الجوارح، قال تعالى (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وأيضًا مراقبة البقاع، قال تعالى (يومئذ تحدث أخبارها) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال أخبارها أنها تشهد على كل عبد أو أمه عمل عليها ما عمل من خير أو شر) فكل بقعة تقع عليها قدمك حاول أن تُقدم فيها عملًا أو قولًا صالحًا حتى تشهد لك تلك البقعة بالخير، واحذر فعل الشرعليها فهي ستشهد كذلك، وأيضًا مراقبة الملائكة قال الله تعالى (وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين) فالارتباط بين التقوى و المراقبة وثيق، ويفرح المتقون بمثل هذه المواسم الخيّرة كشهر رمضان المبارك حتى يتزودوا فيه من الخير العظيم، وكذلك من صفات هؤلاء المتقين أعمال الخبايا، بحيث لا يعلم بها إلا الله، فهي سر بينهم وبينه، سواءً في الصدقات أو الأعمال أو الأذكار ونحو ذلك، فإذا ذكرت الله وحدك فهذه خبيئة وإذا تصدقت على فقير بينك وبينه فهذه خبيئة وإذا دخلت غرفتك وصليت فلم يرك أحد فهذه خبيئة، وخبايا الأعمال هي من صفات المتقين، وهذه الخبايا إخوتي الكرام يُعتبر شهر رمضان موسمها الأكبر لأن النفوس تذللت أكثر في حال صيامها وقيامها، وتصفيد الشياطين فيها، ومن صفات المتقين، أنهم إذا وقعوا في المعصية فسريعًا ما يفيئون ويرجعون مستغفرين تائبين، قال الله تعالى عنهم (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون) فالاستغفار وعدم الإصرار من أبرز صفاتهم، ومن صفات المتقين المجاهدة على فعل الخير وترك الشر، فإذا رأوا ثُقل العمل علموا أن معه أجرًا عظيمًا فجاهدوا أنفسهم على الفعل تحصيلًا لهذا الأجر العظيم، بخلاف غيرهم فقد يردّه ثُقل العمل عن عظيم الأجر، فبذل الجهد له مشقة متعبة لكن صاحبها إذا تذكر أن تلك المشقة ستزول عن قريب، لكن أثرها ونتيجتها باقية تقرّ بها عينه وتسعد بها نفسه دنيا وأخرى، فمثل هذا يجده الصائم والقائم والمعتكف والمعتمر والمتصدق ودائم الذكر والقراءة، فهؤلاء سيزول تعبهم، لكن بقاء أجرهم هو قرة أعينهم، ومن صفات المتقين محاذرة المال الحرام ومحاصرته بأن لا يدخل إلى جيوبهم، لأنهم يعلمون أنه سُحت غير مبارك، ومهما كثُر فإنه قليل ممحوق البركة، ومما يتعلق بالمال، زكاته والصدقة منه، وهي من أهم أسباب بركته، وحيث إن كثيرًا من الناس يُخرج زكاته في شهر رمضان، فينبغي أن تكون الزكاة في محلها، ولأهلها أيضًا، بخلاف ما يفعله بعض الناس، فيُعطيها لشخص كان يُعطيها له سنين عديدة، وربما حسُنت حال هذا الفقير فخرج من كونه من أهل الزكاة، وما زال صاحبنا يدفعها إليه، فليُنتبه لهذا.

وإن من أسباب تحصيل المال الحلال صفتين عظيمتين في كل عمل وهما القوة والأمانة، قال تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين) ومن صفات المتقين التربية والرعاية لمن تحت أيديهم على التقوى وسلوك طريق المتقين، فهم من كسبهم ويُرجى أن يكون للآباء مثل أجر الأبناء من الأعمال الصالحة، حيث ربوهم على ذلك وإن شهر رمضان وأمثاله من مواسم الخير فرصة عظيمة للتربية الصالحة على العديد من الطاعات التي قد تنطلق في رمضان، وتستمر معهم طيلة أعمارهم، مع ما يصحب هذا من دعائهم لهم بالصلاح والإصلاح، كل هذه الصفات وأمثالها إنما ينالها أصحابها بعد توفيق الله تعالى بصبرهم وجدّهم في تحصيل الخير فلا يصدّنك عن الطاعة تعبها، فالقاعدة تقول: فكر في المكاسب قبل أن تُفكر في المتاعب، لعلك أخي الكريم في قراءتك للقرآن كلما قرأت صفات للمتقين أن تقف عندها وتتأمل نصيبك منها، فإن كان وافرًا فاحمد الله تعالى يزدك من الخير، وإن كان قليلًا فابذل الجهد في التحصيل لها وهذا جزء من المحاسبة التي هي من صفات المتقين، واعلم أن كل جارحة لها نصيبها من التقوى فهو من شكر الله تعالى عليها، فشهر رمضان هو مما يتزود به المتقون قربًا من ربهم ويحاسبون أنفسهم، فلا حظ لنفوسهم فيما يعارض أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعلوا ما يُخالف ذلك فسريعًا ما يفيئون ويرجعون ويستغفرون، فأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم، وإذا فاؤوا إلى الخير صارت فيئتهم ثباتًا واستقرارًا على الطاعة والصلاح والإصلاح.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

خالد الجريش
  • مقالات موسمية
  • توجيهات أسرية
  • الصفحة الرئيسية