اطبع هذه الصفحة


لو أن العقلاء من تكلموا ؟!

محمد جلال القصاص

 
منذ ظهر الشرك في بني آدم ـ في عهد نوح عليه السلام ـ والحق والباطل يعتركان ، والأيام دول .. جولة للحق وجولة للباطل ، والطيور تطير بأرزاقها ، فَمُجِدٌ رابح ومُجدٌّ خاسر ( كل الناس يغدوا فبائع لنفسه فمُعْتِقُها أو موبقها ) . وجاءت رسالة محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلقة في هذا الصراع ، وما انتهى القرن الأول الهجري إلا والمسلمون على أبواب باريس غربا وحول أسوار القسطنطينية شرقا ....وانحسر الكفر وكاد يقضى عليه . فَفَترت الهمم وركن الناس إلى الدنيا ، وتخلوا عن أسباب النصر المادية والمعنوية ، وعلى الجانب الآخر ، استمسك الباطل بباطله ووحد الشيطان جنده ، ورفعت راية الصليب ، فكانت الحملات الصليبية على أرض الإسلام ، وظلت قرابة قرنين من الزمان . انهزم بعدها الصليب وعاد أدراجه إلى بلاده .
عادوا يتساءلون كيف انهزموا ؟ ... كيف أخرجوا من هذه الديار ؟! وكيف السبيل إلى العودة إليها ؟!
وانتهوا إلى أنهم حين رفعوا الصليب أشعلوا جذوة الإيمان في قلوب المسلمين . وقالوا لا يُـأْتى هؤلاء القومُ من قبل دينهم .. انظروا راية أخرى تقاتلونهم تحتها .
ومضت سنون طويلة ، عادت جيوش الكفر بعدها بذات القلوب الحاقدة ، وذات الثارات القديمة ولكنها لا تحمل الصليب . وكانت أول حملة قدمت أرض الإسلام بعد الحملات الصليبية هي حملة نابليون بونابرت ... جاء إلى مصر ، وأصدر منشورا يخاطب فيه شعب مصر كَتب في أعلاه : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وزعم أنه جاء مرسولا من قبل الخليفة العثماني ... خليفة المسلمين آنذاك .وأنه يحب الإسلام ونبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم ادعى الإسلام وسمى نفسه الشيخ محمد ـ وقد لا تصدقني ولكنها حقيقة في بطون الكتب واقرأ تاريخ مصر للجابرتي ـ ، وسمح لأهل التصوف بممارسة بدعهم الموسمية المسماه بـ ( الموالد ) . وترأس هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف ... وأخذ الخبيث يهدم في الإسلام ، فاصدر فرمانات ( وهي القوانين بلغة عصرنا الحالي ) تضاد الشريعة الإسلامية، وأجبر الناس على اتباعها . وسمح لنسائه العاريات المائلات المميلات بالمشي في الشوارع ، كي يفتتن أصحاب القلوب المريضة ، وتشيع الفاحشة في اللذين آمنوا ، ونقب عن الفراعنة وضخَّمَ في أمرهم ، يريد الخبيث أن يُشعل نعرة القومية ويفتخر الناس بآبائهم وأجدادهم ويضيع الفخر بالإسلام ... وقد كان .
. وحين كُشف أمره ، ووقف على حاله وبانت طويته الخبيثة خلع النقاب عن وجهه ، فدنس المقدسات الإسلامية ، إذ أنه دخل الأزهر بالخيول واحرق الكتب .. وبال وغاط ..وأعمل سيفه في عوام الناس .
ومما يذكر أن نابليون وهو على فراش الموت قال : أردت أن أهدم إمبراطورية محمد ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ولكنني لم أستطع ، واعترف أن محمد اعظم شخصية في التاريخ .
وكانت السنون قد تطاولت على هذه الأمة وبعدت عن مصدري عزتها ( الكتاب والسنة ) ، ونسيت حظا مما ذكرت به ، بل نسيت جُلَّ ما ذكرت به . فانبهرت بالفرنسيس وذهبت ورائهم تقلدهم وتقتفي أثرهم ، فكانت البعثات العلمية إلى فرنسا ... ذهبت فئة من هذه الأمة إليهم وشربت من مائهم الكدر الآسن ، وعادت إلينا تريد سقيانا مما ارتوت به . ومن هنا كانت البداية ... بداية الحداثة والتغريب .
عادت هذه الطليعة تعالج أمةً مريضةً موحلةً في طين الإرجاء ، موغلةً في ظلمات الجهل والبعد عن شرع الله . فبدَلَ أن يأتوها بالنور المبين ، وتنشط الهمم للتنقيب عن آثار السلف الصالحين من الصحابة والتابعين . أخذوا بأيديها من ظلمة الجهل البسيط إلى ظلمات الجهل المركب ، لتنقاد إلى طاغوت العلم الحديث بدعوى التقدم والرقي والنهوض كمن نهضوا .
وكلها دعاوى كاذبة فقد مضى مائة وخمسون عاما أو يزيد وما زلنا في زيل القافلة لم ندرك شيئا . ولكن أين من يعقل ؟
وحلّت الأمة في مستنقع الغرب الآسن تحسبه المرتع الذكي ، وسارت في ظلمات الحضارة الغربية تحسبها النور الوضيئ .يحدو الركب نصارى الشام والمنهزمين من أبناء الأمة ، وخلف الركب جند (الاستعمار) يزجره إن تباطأ أو تململ .

مكمن الداء
ومكمن الداء في الإرجاء . نعم ... في الإرجاء . إذ أن جرثومة الإرجاء عملت عملها في عقيدة الأمة ، فأخرجت العمل من مسمى الإيمان ليكون شرط كمال لا شرط صحة واقتضاء ، فانحسر الإيمان في ذهن العوام إلى نطق بالشهادتين ، وإقرار باللسان ، وانتساب في الجملة إلى الإسلام . واحتضر الولاء واحتضر البراء .وبدأ المخاض تحت ظل شجرة ( الاستعمار ) لينذر عن ميلاد فصيل جديد هو فصيل الوطنية .
ولولاه ـ أعني الإرجاء ـ ما انبهر بهم الشعب ولا من ذهبوا مبعوثين عن الشعب . لولاه ما ذهبت النخبة من أبناء الأمة بل من طلبة العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، إلى هذه البلدان الكافرة تتلمذ على يد أبنائها ، وتثني عليهم ، وتريد منا تقليدهم والسير في ركابهم .
لولا الخلل العقدي الذي أحدثته جرثومة الإرجاء في المفاهيم الإسلامية ، والتصورات العقدية عند هذه النخبة ، لوقفوا في ديارهم حين رأوا حالهم يقولون لهم : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ." قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " "
ولعادوا إلينا يقولون لنا : إنهم أهل دياسة ، لا يغار الرجل على عرضه ، وأهل كفر لا يتحاكمون إلى شرع الله ...ولكن شيئا من هذا لم يحدث . بل أشربت قلوبهم الفسق بضلالهم وبُعدهم عن منهج الله الصحيح ، فعادوا يريدون من الأمة أن تسير في ركاب الضالين ... وان تقتفي أثر باريس وبرلين ، وأن تحمل على أعناقها الفسقة والمجرمين .

هكذا خاطبوا الأمة
استحضروا للأمة صورة أوروبا التي ارتقت وتحضرت ـ بزعمهم ـ وركبت البحر والجو ومشت في بطن الأرض وارتقت السماء حين تخلصت من سلطان الدين وجعلته في الكنائس والمعابد بعيداً عن الحياة ... وقالوا للامة : إن شئت التقدمَ فلا بد أن نحذوا حذوا القوم ... فننزع غلّ الدين عن أعناقنا كما فعلت أوروبا ، وان نحرر المرأة كما فعلت أوروبا ، وأن نعتنق الديمقراطية كما فعلت أوروبا .. إننا تخلفنا حين حكمنا بسلطان الدين ، وكذا كانت أوروبا ... وإننا تخلفنا لأننا نعطل نصف المجتمع ـ يعنون المرأة ـ ، وكذا كانت أوروبا . وتم الربط ـ ظلما وعدوانا ـ بين تحسين أوضاع الناس ماديا وبين التخلي عن الدين في التعامل والتحاكم .
وقد جاءوا ظلما وزورا .فالحال غير الحال .
أوروبا كان يحكمها دين منحرف أعاق كل جهد بناء ، فقد قتل العلماء باسم الدين ، وجمع الأموال باسم الدين ، واستعبد الناس باسم الدين . وأوروبا قبل أن يأتيها دين بولس ـ المسيحية المحرفة اليوم ـ يوم كانت مشركة بربها تعبد الأصنام من دون الله كان عندها شيء من الرقي والتمدن وسعة في الرزق ، ثم حين اجتاح البربر ( القوط والنورمانديون ) أوروبا واعتنقوا دين ( بولس ) إنْغَطَّتْ أوروبا في ظلمات الجهل ، والتخلف المدني ، وحين تخلصت من هذا الدين المنحرف الذي لا يقاس عليه تقدمت ، فارتبط في عقل الأوربيين أن الدين والتخلف قرينان لا يفترقان ... وهذا تفسير لا تبرير .
أما عندنا فلم يكن الحال هو الحال .. (( كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأت الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف )) ، فجاء الإسلام فذكى النفوس ، وألف بين القلوب وأخرج للناس أمة هي خير أمة ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . وانتشر العدل والأمان بين الناس ... وصار بأيدينا كل شيء ، ثم حين غيرنا غيَّر الله علينا ." وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا كثير " ، " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم "
فكان الطريق الصحيح هو أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم لنتقدم ونرتقي ماديا ومعنويا وسياسيا وعسكريا كما تقدموا رضوان الله عليهم . نُرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة ، والقرآن بين أيدينا يرشدنا " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
وندعوا أوروبا وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها ، أن تنبذه وراء ظهرها ، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر ، ونقول لهم ما امرنا الله بتبليغه " يا أهل الكتاب قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " " ... تعالوا إلى كلمات سواء بيننا وبينكم ، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا ....."
ولكن برز فريق من الذين أعمى الله بصرهم وبصيرتهم ، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم فانزل الله رجسا على هذه الأمة . فلو أن العقلاء هم من تكلموا لقالوا : نعود إلى ما كان عليه سلفنا وندعوا أوروبا . ولكن هذا ما حدث . ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية