اطبع هذه الصفحة


المعرفة والقبول والإذعان

محمد جلال القصاص

 
معرفة الحق شيء وقبوله شيء آخر ، والإذعان له أمر ثالث . الأول ( المعرفة ) عمل ذهني بحت ، والثاني ( القبول ) عمل القلب ، والثالث ( الإذعان ) هو عمل الجوارح ومنها اللسان .
وكثير من الناس يعرفون ثم ينكرون . كثيرون لا يزدادون على سماع الحق إلا ضلالا .
لا تعجب . قال الله تعالى " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم ذادته هذه إيمانا ، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " [ التوبة :125،124 ] ، وقال تعالى " وليزيدن كثرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا "[ المائدة : 68]
والله عز وجل ينزل من الآيات ويُشرع من الأحكام مايفضح به أصحاب هذه القلوب المريضة قال الله " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جلعنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " [ المدثر : 31 ] وقال الله " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم " [ الحج : 53 ]
وهذا الصنف من الناس ـ الذين في قلوبهم مرض ـ حين النقاش تجده يقف عند المتشابه حقيقة الذي لا سبيل إلى الوقوف على معناه أو المتشابه حكما إن كان من يحاوره ليس من أهل الاستنباط أو قليل العلم لا يستطيع الجمع بين أطراف الأدلة ؛ وهم من عنى الله في قوله تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " [ العمران : 7 ] وجاء في الأثر عن بن مسعود رضى الله عنه أنه قال : إذا رأيتم الذين يخوضون فيه ـ المتشابه حقيقة ـ فأولئك الذين عنى الله فاحذروهم .

وهناك من لا تتجاوز أذنه الكلمات . تقول مهما تقول وقلبه في أكنَّة مما تقول .. أولئك أصحاب القلوب المُغَلَّفة المربوط على غلافها ـ كما جاء وصفهم في الحديث ـ .فهم لا يسمعون ولا يبصرون ، وإن أبصروا أو سمعوا لا يفقهون كما قال الله عنهم " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون " [ فصلت : 5 ]. " وقالوا مهما تأتنا به من آيةلتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " [ الأعراف : 132 ] " قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين "[ الشعراء : 136 ] " وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين " [ هود : 53 ] " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ماتبعوا قبلتك " [ البقرة : 145 ]
وهناك من أقاموا الوزن على الربح والخسارة المادية ، قَناعتُهم الفكرية شيء وسُلوكهم العملي شيء آخر ، وهؤلاء لهم نوع من الجدل يعرفه من يمارس الدعوة بين الناس ، فهم يدفعون بنوع من الحجج كي يصوغون لأنفسهم ما هم فيه، وعلى ألسنتهم تجرى كلمات حق يراد بها باطل مثل : " العمل عباده " وأمثال هذا .
وهناك من لا يسمع . هناك من لا تشكل الفكرة عنده شيء .. بل هو مع من غلب . فهو يقيم الوزن على الغلبة المادية . وهؤلاء يدفعون النصوص دفعا ... يجادلون كي لا يلتزمون .

والدعوة في مكة لم تستطع أن تجتذب أيا من هؤلاء . لم يستجبْ لها إلا أصحاب القلوب النقية . أما هؤلاء فدخلوا في الإسلام بعد أن استقرت الغلبة للمسلمين يوم الفتح وصارت في أيديهم الغنائم .
والمقصود أن : ليس كل من يعرف يقر ويتبع ؛ بل هنا من يعرف ويعاند . ويذهب يجادل.
بكلمات أخر : إن (الكثرة الغالبة من المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة . ولا رغبةً في المعرفة ، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة . والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول معهم في معركة جدلية ولو أفحمهم الرد في لحظتهم !
إنما الرد الحقيقي يكون بإخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة ، يراه الناس فيحبونه ويسعون إلى الإكثار منه وتوسيع رقعته في واقع الحياة . هذا هو الذي ( ينفع الناس فيمكث في الأرض ) .[ محمد قطب مقدمة شبهات حول الإسلام بتصرف يسير ]

وهذا هو أسلوب القرآن ، فالقرآن العظيم ما كان يقف مع شبهات الآخرين إلا في سياق بيان الحق ، وغالبا ما تجد بعد سرد شبهات الكفار آية تعجب أو تذكير بالعذاب دون الخوض في تفاصيل الشبهات .مثلا في سورة الفرقان " وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " هذه هي الشبهات والرد : " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " ثم بدأ يُذكِّر بالثواب والعقاب ليقرع هذه الرؤوس العنيدة البليدة التي استدارت للحق وهي تعلم أنه الحق .." إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا القو منها مكانا ضيقا مقرنين دعو هنالك ثبورا . لا تدعو اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ... الآيات "
ومثله في أول سورة ( ص ) : " ... فقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحد إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق . أانزل عليه الذكر من بيننا " هذه شبهات يلقيها الملأ الذين استكبروا على أتباعهم ، وانظر الرد " بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب
ثم بدأ يتكلم في موجبات توحيد الألوهية وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات . وهذه لي معها وقفه ثانية إن شاء الله .

وقد ابتليت الأمة الإسلامية من يوم أخرجت للناس بمن يرميها بحجج العقول الواهية يريد هدم البنيان ـ وأنَّى له ـ أو إحداث دوامات فكرية تستقطب الجهد وتقعد البعض عن جادة الطريق . فقديما كانوا يقولون " إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين . فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " [ الدخان :35 ، 36 ] وقد تميزت موجة الحملات الصليبية الثانية والحالية على الأمة الإسلامية بأنها ليست عسكرية فقط بل صحبها هجوم على ثوابت الإسلام العقدية ، فمما يذكر أن الإنجليز ( وهم يومها كأمريكا اليوم ) برروا حملتهم على مصر بأنهم جاؤوا لنصرة الأقباط المضطهدين في مصر !!. وانخدع شيخ الأزهر بمنطق القوم فانجرَّ ورائهم وبعث برسالة إلى مؤتمر الأديان العالمي يدَّعي فيها أن الإسلام نزع الكراهية من قلوب أتباعه تجاه أصحاب الديانات الأخرى وأن الإسلام أمر بالتعايش السلمي بين الأديان . ولم تُجد كلمات شيخ الأزهر شيئا .

والحال اليوم أشد فنحن نرى نتيجة ضغط ( الآخر ) علينا وهجومه الشرس على شرائعنا مثل ( الحدود ) و ( والولاء والبراء ) و ( الحجاب ) و ( التعدد في الزواج ) ... الخ . نرى تكون تيارات إسلامية تدعي ( الليبرالية ) وتريد قراءة الشريعة من جديد لتنطق بما قد يقبله ( الآخر ) . ولا أريد التعريض بأحد فقط أريد عرض ما عندي . وقد قدمت أنه ليس كل من يجادل يطلب الحق ، وبالتالي لا ينبغي الانشغال بالآخر على حساب بيان الحق الذي أمرنا به ، وإذا كانت الهدف العام هو هداية هذا الآخر إلى الطريق المستقيم فالأولى أن نكلمه كما كلمه القرآن ، وهذا ما سأحاول بيانه إن شاء الله في مقال قادم تحت عنوان هكذا خاطبهم القرآن .

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية