اطبع هذه الصفحة


هامش الحريات في زمن المدينة

محمد جلال القصاص


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
هامش الحريات في زمن المدينة


يتحدث قومٌ بأن المنافقين كانوا في المجتمع المسلم يكذبون على الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ، ويتطاولون على شخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ ، ويظهرون لهم البغضاء ، ويحرضون الكفار على حرب المسلمين ، ويرجفون بين المسلمين . ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، يقولون قد كانوا حرباً على مجتمعهم ، ومع ذلك أوصت الشريعة بتركهم والإعراض عنهم ، ولم تقم لهم بعقوبة أي عقوبة . بل لم تحاول إسكاتهم قسراً ، ولو شاءت فعلت .

يجاهر هؤلاء بأن علينا أن نترك من يتطاولون على الدين والمتدينين تأسياً بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .فقد ترك المنافقين يتمتعون بكامل الحرية في المدينة المنورة .

هذا الكلام باطل .. كله باطل .

الشريعة أمرت بجهاد المنافقين ، قال تعالى في موضوعين : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }التوبة73 ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربعة أسياف ، سيف للكافرين وسيف للمنافقين وسيف لأهل الكتاب وسيف للبغاة كما جاء عن علي رضي الله عنه [ انظر معارج القبول 2/1087 ، وعند ابن كثير في تفسير الآية 6 من سورة التوبة ، وغيرهما ]

ولم يكن الواقع في المدينة المنورة أن المنافقين يقيمون مؤسسات وأندية يتطاولون فيها على الدين وسيد المرسلين وعامة المتدينين ، ولم يكن لهم كيان مستقل أو شعارات يجتمعون تحتها كما الحال اليوم نجد أحزاب ونجد توجهات ، ونجد فعاليات للأولي كرهوا ما أنزل الله .
الصورة على العكس تماماً مما يروج هؤلاء .

فضح المنافقين هو الثابت في الشريعة .

كان الوحي لهم بالمرصاد يفضحهم في كل نازلة . يحكي مواقفهم ، ويحكي أحاديثهم الخاصة ، بل وما تكن صدورهم . وهذا كله مثبت في كتاب الله ، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،وهذه نماذج :
أولُ ظهورٍ للنفاق كان يوم بني قينقاع ، حين أمسك عبد الله ابن أبي بجيب درع النبي صلى الله عليه وسلم ، يشفع فيهم بوقاحة ، فنزل القرآن {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }المائدة52
يصفه ـ وهو كبير قومه يومها وسيد من سادات يثرب ـ بأنه في قلبه مرض ن ويسفه رأيه ويوصي الناس بأن لا تتبعه ، ويثني على من خالفه .
ثم جاء يوم أحد ورجعوا من الطريق ونزل القرآن يصفهم بالنفاق ، مَن رجع منهم ومَن دخل المعركة ، لم يستثن منهم أحد ، مع أن كثيراً من هؤلاء لم يكن يعلم منهم النفاق قبل ذلك كما يقول شيخ الإسلام بن تميمية في الفتاوى :{وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }آل عمران167 {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }آل عمران168 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }آل عمران156 .
هؤلاء الذين رجعوا ، والذين دخلوا المعركة جاء فيهم {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }آل عمران154
وفي يوم الأحزاب حدّث القرآن بما تكن صدورهم وبأحاديثهم الخاصة . ولك أن تراجعي الآيات ( 12 إلى 20 ) من سورة الأحزاب .
وفي يوم بني المصطلق نزلت سورة ( المنافقون ) كاملة .
ونزلت فيهم سورة التوبة ( ويقال لها الفاضحة ) ـ سترنا الله وإياكم بستره ـ تفضح حالهم ، تقول : ومنهم الذين .. ومنهم الذين .. حتى كادت تسميهم بأسمائهم . كما يقول الرواة .

فالثابت هو فضيحة المنافقين والتحذير من كل ما يصدر منهم ، مهما كان صغيراً ، ومهما كان عدد الفاعلين قليلاً ، فإن تتبعت الآيات التي نزلت في المنافقين وجدتها تحكي حديث رجلٍ مع نفسه كالذي قال يوم أحد لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا أو كالذي قال يوم الأحزاب ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ) ، أو رجل مع ابن زوجته ، أو رجلين أو ثلاث يتحدثون في خلوة .
كله حديث سر لم يجاهر المنافقون بشيء منه . بل حين شيد المنافقون مسجداً كواجهة شرعية يحاربون من خلالها الدين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لم يتركوا ، أحرق مسجدهم . لاحظ : لم ينزع منهم المسجد ويصلي في المؤمنين ، بل قوض بنيانهم . مع أنهم أقسموا أنهم ما أرادوا إلا الحسنى .
وكثيراً ما تجد في الآيات التي تعرضت للنفاق تسفيهاً لهؤلاء وتعريضاً بعقولهم وتهديداً لهم ، مثل { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }التوبة87َ { صرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون }التوبة127{ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً }الفتح15 { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ }المنافقون7 { وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }التوبة93 {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }النساء145

وهؤلاء يقولون ترك المنافقون يبدون بآرائهم ، ويتحركون كما يحلوا لهم .
إنهم مخطئون .. أو يكذبون !!

فقط تركت الشريعة عقوبة المنافقين .. تركت قتلهم .وذلك لعلة ذكرت في الأحاديث ( حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) . وحين أمن المنافقون العقوبة تمادوا فجاء التهديد بالعقوبة ، وذلك قول الله تعالى : {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً }الأحزاب61}الأحزاب60

فتتبُعِ المنافقين وفضحهم أمر ثابت وعقوبتهم تخضع للمصالح والمفاسد بعد ذلك .

والأمر ليس خاصاً بالمنافقين فقط، بل إن الشريعة الإسلامية تعلن موقفها من الآخر .. كل الآخر من أول يوم ، فقد تحدثت عن عيسى بن مريم في مكة ، حديثاً مفصلاً ، ولم يكن بمكة يومها نصارى إلا نفراً أو نفرين لا يكاد يسمع بهما أحد . فالوضوح المعرفي من الآخر كل الآخر هو ما نعرفه في شريعتنا ، والتعامل مع الآخر هو الذي يخضع لعوامل أخرى ، ما يقال عنه فقه الواقع .
وأمر المنافقين شديد ، يقول تعالى في شأنهم {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }المنافقون4


أبو جلال / محمد جلال
صباح الأربعاء، 12 /4 / 2010

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية