اطبع هذه الصفحة


تحتاج إلى جهدٍ جماعي

محمد جلال القصاص

 
بقصدٍِ واضح بدأ خطاب التغريب من المؤسسة الدينية ( الأزهر آنذاك ) ، إذْ أن الخطاب الديني هو الخطاب المقبول لدى الشعب ، وتم ( تلميع ) مجموعة من علماء الأزهر ممن يتفق هواهم مع هوى الغرب ، وخُلعت عليهم الألقاب ، وأسندت إليهم المناصب ،ومكنوا من المنابر ، وكممت أفواه المخالفين ، وأبرزوا للأمة على أنهم علماء جهابذة ، حملة مشعل الحضارة والرقي ، فكان رفاعة الطهطاوي وكان جمال الدين الأسد أبادي (الإيراني ) ، وكان محمد عبده ... وكلها أسماء براقة ... وكلهم كانوا معاول هدم في كيان الأمة الإسلامية ... جسرا عبر عليه الغرب إلى ثوابتنا الإسلامية فكان ما كان . وبين يدي كثير من النصوص من قول محبيهم التي تثبت ما أصفهم به وتبين ضررهم على الأمة ، ولكن ليس هذا مقصودي .
تكلم هؤلاء( الشيوخ ) بأشياء لم تسمعها الأمة من قبل .
رفاعة الطهطاوي في كتابيه ( المرشد الأمين للبنات والبنين ) و ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) . امتدح المجتمع الغربي .. أسلوب حياته وثقافته ، وأثنى على الدستور الفرنسي ـ الشرطة ـ ويرى أنها ( عدلاً وإنصافا ًأدى إلى تعمير الممالك وراحة العباد وارتياح القلوب حتى أنه ما عاد يسمع عندهم من يشكو ظلماً أبدا ) وحاول أن يحصر الأمر فقط في اختلاف المسميات [ تخليص لإبريز : 542].
و( الشيخ ) رفاعة الطهطاوي كان المشرف على مدرسة الألسن التي يتحدث عنها المستشرق (جب ) فيقول : وكانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوروبي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا ويُذكر أن منها مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العَلَمْ الفذ رفاعة الطهطاوي ) [ نقلاً عن العلمانية : 592 ]
ثم جمال الدين الأسد أبادي المشهور بالأفغاني والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة ،كان منبهراً هو الآخر بالغرب وقوانينهم فنادى بان الأمة هي مصدر الحكم ، ووحدة الأديان ، والسلام العالمي ،وأن الاشتراكية من الإسلام . ورحل إلى أمريكا مستنصرا . ومن أراد أن يستيقن أو يستزيد فليقرأ خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182

ثم جاء محمد عبده .وتحت مسمى الإصلاح أباح التشبه بالخواجات في الفتوى الترنسفالية ، وأباح الربا في شكل صناديق التوفير ، ونادى بتحريم تعدد الزوجات ، وكان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة " ، وصاحَبَ المندوب السامي البريطاني . وقد أفردت له مقال من قبل على صفحات المحايد .
والسؤال : ماذا فعل هؤلاء ؟
تكلموا بحاجات الغرب على أنها مطالب شرعية . نعم نقلوا الأمة هذه النقلة النوعية . ثم دارت عليهم عجلة التاريخ ومضوا إلى ربهم بما قدمت أيديهم ولا يظلم ربك أحدا . " ومن سَنَّ سُنّة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ... "
كانت هذه الفترة هي مرحلة تسليم الراية من الغرب لبعض أبناء الأمة .. وهذا ما كان فقد بدأت مطالب الغرب كلها تظهر على لسان بعض أبناء الأمة , وهم يستندون في دعواهم هذه إلى الشرع , ويرفعون شعارات براقة خداعة فـ " إصلاح " , وتجديد " و " تقدم " , و " رقي " و " حرية " ... إلخ .

ونزل الميدان فريق آخر هم ( الوطنيون ) ، فقد علم الاحتلال أنه يوما ما سيخرج من هذه البلاد , ولابد أن ستكون مقاومة ، فعمل على إنشاء مقاومة أخرى تحمل شعارات غير إسلامية ، فأسس الأحزاب , وبدأت المقاومة للمحتل تأخذ منحى آخر ليس فيه الجهاد , وبدأت شعارات الوطنية ـ " مصر للمصريين " مثلا ـ تخرج .
وهذا التيار أيضا كان معول هدم في الشريعة الإسلامية , ودرب من دروب التيه الذي دخلته الأمة .
فإن كان الأُول (المشايخ ) عموا على الأمة وجه الاحتلال الصليبي وزينوا لهم حاله , وقالوا للناس إن شريعة المحتل هي شريعة الله , أو تكاد ، فهؤلاء أكملوا المشوار , إذ أنهم تعاملوا مع المحتل من وجهة سياسية فقط , ومن منطلق وطني , بهذا أعملوا فَأْسَهم في جدار الولاء والبراء حتى كادوا يهدموه , فقد غاب عن الساحة الجهاد , وظهر " النضال " و " المقاومة " و " المظاهرات " وقاد الركب ثلة من الوطنيين لا المجاهدين , وانتظم وراءهم صف من أبناء الوطن باختلاف انتماءاتهم الدينية , والعجيب أن قادة المقاومة كانوا على علاقة طيبة بالمحتل ‍‍.وراجع إن شئت مذكرات سعد زغلول ، ولطفي السيد .
وبعد أن كثرت جعجعة العمائم والوطنيين , تشجع أصحاب القلوب ( الرقيقة ) أعني الأدباء , والشعراء , ونزلوا الميدان ، وابتدأ نصارى الشام النزال فأعملوا أقلامهم في فكر الأمة حتى حرَّفوه .ولم يكن هؤلاء أقل أثرا من المشايخ والسياسيين . وإن من البيان لسحرا . كما جاء في الحديث . فقد أخذ هؤلاء يطرحون طروحات تصطدم مباشرة بالعقيدة الإسلامية في أشعارهم وقصصهم وصحفهم .ويحضر في ذهني كثيرا إيليا أبو ماضي لعذوبة لفظه وخبث طويته ، ومن شعره أضرب مثلين أوضح بهما قولي .
هذا الحوار الذي يرويه بين شجرة تين وجيرانها يعترض فيه على قضاء الله وقدره في قصيدته الشهيرة التي مطلعها :
وتينة غضة الأغصان باسقة .. قالت لأصحابها والصيف يحتضر

وفي قصيدة أخرى :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ...وسأبقى ماشيا شئت هذا أم أبيت ...
وأصدروا عدة مجلات يتكلمون فيها عن " حرية المرأة " و " قبول الآخر " , و" الوحدة الوطنية " , وقد وجدوا أذانا تسمع .
ثم كان حبل ممدودا ظل إلى اليوم . فهم من ينافحون عن ( حرية المرأة ) ، وهم ( البنياويون ) الذين قالوا بموت المؤلف وعدم قداسة النص ... وهم طه حسين ، ونجيب محفوظ ، وقاسم أمين ، وجابر عصفور ، ونصر أبو زيد ، وحيدر حيدر ... الخ .
وبعد حين انتشر الغناء وأقبل المخنثون ... أهل الرقص والزمر " الفن" ولم تسلم منهم شريعة الرحمن وفقط أشير إشارات .
كان في طرحهم هجوم مباشر على ثوابت الشريعة الإسلامية ، مثل تعدد الزوجات ، وترسيخ مفهوم الولاء على الوطن لا الدين . والسخرية من اللغة العربية ومن مدرسي اللغة العربية ، ومن رجال الدين ( ويحضر في ذهني شخص المأذون ) ، وتقديم النموذج الغربي للشباب على أنه هو النموذج المثالي . هذا بجانب نشر الرذيلة .واليوم ينقلبون على التراث الإسلامي يرّونه بطريقتهم .. ففي ( الناصر صلاح الدين ) كان تحرير الأقصى حربا وطنية ذراع الناصر صلاح الدين الأيمن فيها صليبي ، وسيف الدين قطز حليق يحب ويعشق ويقاتل حمية ، وبن حزم يحل الغناء ويستمع إليه ، هذا بجانب نبشهم عن أهل الجاهلية الأولى من الفراعنة ، ومن العرب ( الزير سالم ) .
ربما لم يكن هؤلاء ( الفنانون ) يدرون بم يفعلون ... ربما . ولكن هناك يد أخرى هي التي أوجدتهم وأفسحت لهم المجال وكبَّلت غيرهم ممن لو خَطَبَ في جماهيرهم ووعظهم لنفضٌّوا من حولهم ...
أريد أن أقف هنا لأقول :
حين تنظر مليا في الخلفيات ( الدوافع ) التي تقبع وراء الأحداث .ترى بوضوحٍ تام أن الكل يهدم في الإسلام وإن اختلفت معاول الهدم .فـ ( الأئمة ) يؤولون النصوص ، والكتَّاب يخاطبون العامة في رواياتهم وقصصهم ، ويفتحون دوامات فكرية للخاصة تستقطب جهدهم ، وأهل الفن يُثبِّتون الفكرة بوجوههم الحسنة وأجسادهم العارية ، وأهل السلطان يسوقون القطيع إلى هلاكه .. يزجرون من يتباطأ ، ويردون كل من يحاول أن يأخذ بزمام الأمة إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتا . فهو عمل جماعي إذا . له من يسوسه ويقوم عليه وإن لم يتفق أحاده على تفاصيل ما يفعلون .
والصورة العكسية صحيحة ، وهي أن أمةً ما لا تستطيع النهوض بفئة قليلة وإن كانت هذه الفئة هي النخبة من أبنائها ، فلا بد أن تشترك الأمة بما يناسبها وأن تكون موجودة تُخاطَب بما يقتضيه المقام وتفهمه العقول ... أي يكون العمل على محاور شتى يقوم به فئات شتى .
وهذا الأمر يحتاج إلى مناقشة أوسع من ذلك وإنما فقط أردت أن أشير بما يناسب المقام .
وشيئا آخر أريد الوقوف عليه من هذا العرض وهو : تعدد طرق التغريب وانتشاره أدى إلى صعوبة اجتثاثه . فلن يزاح هذا الركام الهائل الموجود في المفاهيم والتصورات وفي السلوك بخطبة أو خطيب ، أو معلم هنا ومعلم هناك ، وإنما يحتاج إلى جهد جماعي .
 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية