اطبع هذه الصفحة


السلفية وفخ الاستبداد والحزبية

محمد جلال القصاص


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

السلفية وفخ الاستبداد والحزبية


ليس في هذا المقال حديثٌ عن هذا أو ذاك، ولا في هذا المقال تعدٍ جليٍ أو من طرفٍ خفي على هذا أو ذاك، وإنما تقديم وجهة نظرٍ مبنية على أسس علمية (النظرية الإمبريقية)، لمحاولة فهم أسباب اضطراب المشهد السلفي، وإلى أين يسير؟!

النظام المستبد لا يتواجد إلا على مجتمعٍ مقسمٍ إلى دوائر متفرقة ـ متناحرة أو غير متناحرة ـ، يسود هذه الدوائر الصغيرة حالة من الاستبداد أيضاً. وهذا واضح في حالة المجتمع المصري في ظل حكم الاستبداد، فقد كان تجمعات على هويات مختلفة، بعضها سياسي، وبعضها ديني، وبعضها مذهبي. وكل دائرة يسود فيها أحد المستبدين أو عصبة من المستبدين. ولك أن تتدبر الحالة النصرانية؛ بل والحالة السياسية "المعارضة" للنظام السابق (أحزاب المعارضة)، ستجد أن ثمة استبداد داخل هذه الدوائر.

ولم تنج الحالة السلفية من "طبائع الاستبداد"، فقد كانت مقسمة إلى دوائر، يوجد بداخل هذه الدوائر استبداد ـ ولو بحسن نية ـ. بيد أن عوامل التقسيم وسيادة مستبدين في الحالة السلفية لا يسأل عنها فقط النظام القديم، بل إن العامل الأكبر (بعد الرصد العريض للظاهرة في عامة مشاهدها، والتفكير العميق في المشاهد) هو الخطاب السلفي نفسه!!

الدين كامل، والشريعة محكمة، فلا نقص يحتاج لتكميل، ولا خطأ يحتاج لتصويب، قال الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". وقد انتقل هذا الكمال للنموذج الرباني .. محمدٍ صلى الله عليه وسلم . وبغير قصد تسرب هذا الكمال للدعاة في واقعنا المعاصر، فظن بعضُ من اشتهر عرفه الناس أن بوسعه أن ينزل كلَّ ميدان.. وأن يتحدث بالصواب في كل شان، ذلك أنه "يعرف" الدين. ولذا نظر لمن يدعوهم بنظرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأتباعه، فرأى أن الصواب عنده ، وأن مَن خلفه ليس لهم إلا الاتباع. !!

من هنا جاء الاستبداد ، ومن هنا جاء الاضطراب.!!

تحول "الدعاة" إلى قادة سياسيين، ومصلحين اجتماعيين، بدافع أنهم "يعرفون" الدين، والدين كامل، والشريعة محكمة. وهي ظاهرة أفاد منها أعداء الملة في التأثير على الرأي العام (الجماهير)، لتفتيته ثم توجيهه وإرباك الصف المتدين... .فحين تدقق في المشهد سترى أن "المخالف" هو الذي أفسح للدعاة "الجدد" و"التقليديين" بالنزول في ميدان الإصلاح الاجتماعي والعمل السياسي ومعرفتهم بهذه الميادين قليلة لا ترق لمستوى الدور المطلوب منهم.
وهذا عندنا (السلفيين)، وعند غيرنا (النصارى)، و(الفنانيين) و (لاعبي الكورة). وكانت الثمرة إربكاك المشهد الاجتماعي بغير المختصين، ومن ثم تفتيت الكتلة الجماهيرية.. وهو ما سهل إعاقة حركتها والتحكم في توجيهها، ولو مرحلياً.

اتكاءً على أن "الداعية" قد صُبغ بكمال الشريعة وعصمتها فَقَدَ الصف السلفي النقد الذاتي، فقد أصبح النقد الذاتي نوع من "التعدي" على الفهم الصحيح للدين، وخاصة حين استعمل هؤلاء قاعدة "لحوم العلماء مسمومة"، وهي حق حين يراد التشهير والإسقاط، لا حين يكون الحال رداً بالتي هي أحسن، فما خلا عالم من ردٍ. بل طال الرد فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم.

إن خطر رفض النقد التي تستبطن "العصمة" تظهر في الانشقاقات، فكلما استعص النقد داخل الدائرة خرج منها الناقدون (أو طردوا) وأسسوا دائرة أخرى مناوئة، لا همَّ لها سوى التغلب على إخوانها، وذات الملاحظة موجودة في الحالة النصرانية: لا يسمح بالنقد، فتكون النتيجة انشطارات متتالية.. تؤدي إلى كيانات صغيرة متفرقة.. وفي أغلب الأحوال متناحرة.

ولذا على الحالة السلفية أن تفيق، وتعلم أن لا عصمة لأحد، وأن مبدأ الشريعة هو أن المهام تسند للأكفأ لا للأشيخ ولا للأتبع، وأن تكميم الأفواه يعني مزيد انقسام وتفرق،وبالتالي ذهاب القوة.

وانعكس سيادة غير المختصين، ممن لا يقبلون النقد، ولا يحترمون التخصص، على الآداء السلفي في المشهد العام، فاتسم الآداء السلفي بأمرين رئيسيين:
الأول: التبعية والتأخر، وقلة الابتكار. فنلاحظ دائماً، أن "رؤوس" السلفية التقليديين يأتون في آخر المشهد، ولا يستقلون برأي؛ بل يتبنون خطاً يتقدمهم فيه غيرهم. وغالباً يفضلون تبعية مَن يسود.
والثاني: الاضطراب، نتيجة الانشقاقات داخل الصف السلفي، وتفعيل الأتباع في تصفية الحسابات، ونصرة "الرؤوس".
وازداد الأمر سوءاً بدخول السلفية في" لعبة الأحزاب"، إذ قد جمعت بين الاستبداد والتحزب!

والمنتظر من السلفية؟
العلم عند الله، فقط ننظر في المعطيات، ونستحضر التجارب التاريخية وطبيعة الظرف الراهن والفاعلين فيه، ونقدم رؤية لما نريد مستقبلاً، أو لما نتمنى أن يكون مستقبلاً، على أن بعض الأطروحات تخرج من إطار التحليل إلى الضغط والتوجيه.

السلفية ـ كمنهج ـ هي النجاة مما نحن فيه، فحقيقتها تعني توحيد المجتمع وتفاضله على التقوى، ونشر أواصر المحبة والإخاء بين أبنائه، وتثقيف المجتمع ضد الظلم والاستبداد، وهذا هو العامل الأهم في تحقيق "الأمن القومي": جماهير متماسكة واعية ـ وقد كتبت عن هذا من قبل تحت عنوان: الأهم في قضية الإصلاح والفساد ـ، وقبل ذلك تعبيد الناس لله، وإن عبد الناس ربهم رضي عنهم وأرضاهم، فآمنهم من جوعٍ وآمنهم من خوف، قال الله تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض".

فقط تتخلص السلفية من رواسب الاستبداد، بتبني النقد الذاتي، وتبني التخصصية في العمل، وتُقديم الأصلح ، وتنتهي حالة "القداسة" التي يرتديها "المستبدون"، الذين سادوا فقط لعامل خارجي وهو سيادة الاستبداد على الناس، وعندئذ فالسلفية هي الحل.

والواقع يبشر، فابستحضار السياق العام للمشهد السلفي في العشر سنوات الأخيرة، نجد أن الفاعل الحقيقي في المشهد هم الشباب، وأنهم خليون من الاستبداد.. أو يكاد، وأن الأكفأ يتقدم الصف، وأن حالة ذوبان مع الناس تسود بين شباب السلفية.

إن واجب المرحلة هو إكمال الثورة على الاستبداد ... فك دوائر الاستبداد التي أبقاها النظام .. وإن أخوف ما يخافه عاقل على الصف السلفي أن يجمع بين الاستبداد والتحزب.
محمد جلال القصاص
mgelkassas@hotmail.com

محمد جلال القصاص
السبت 10/3/ 2012

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية