اطبع هذه الصفحة


تأملات شرعية (1) :  بالأفعال لا بالأقوال !

محمد جلال القصاص

 
 الفعلُ أقوى في الدلالة على المراد من القول . وإن اختلف قول وفعل فلا عبرة بأقوالٍ كذبتها الأفعال .
 
 فمن قبل ادعى قوم المحبة فجُعل الإتباع شرطاً لصحة دعواهم ." قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " [ العمران : 31 ]  ، "ونطقت نفوس مريضة بالإيمان فكُذبت ، قال تعالى :" ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين "[ البقرة : 8 ]  .ونطق لسانهم بالصلاح ، ونطق فعالهم بالفساد فكان القول قول الفعال لا قول اللسان . قال الله :" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون .ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "[ البقر : 11 ، 12 ]
وفي الدنيا تتنزل الأحكام على الأعمال الظاهرة ، فلم نأمر بشق الصدور لنعرف هل هذا الذي يعمل صادقا أم منافقا ؟ ولم نأمر بشق الصدور لنعلم أن هذا الذي لا يأتي بشيء من الإسلام سوى الإدعاء كسول أم معاند ؟  
 لنا الظاهر والله يتولى السرائر .  في كلا الحالتين .
هذا هو ما فهمناه من شرع ربنا .فقد جاء الحكم على القول والفعل لا على ما في القلوب . قال الله تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " [ المائدة : 17 ] وقال تعالى : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا.. "[ المائدة : 64 ]
فالحكم بالكفر في الآية الأولى واللعن في الآية الثانية جاء على القول وليس على ما تكنه الصدور[1]
وقال تعالى " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ..." [ البقرة : 84 ] . فالميثاق مأخوذ على التزام عملي . لا على تصديق قلبي . ثم انظر بما نقضوا الميثاق ." ... ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون  عليهم بالإثم والعدوان  "  [ البقرة : 85 ] بأفعالٍ وليست معانٍ قلبية .
وفي الآخرة الأعمال بما في القلوب . فيذهب هباءً عَمَلُ من عَمِلَ نفاقاً ، وتذهب هباءً أماني من تمنوا ولم يعملوا .. من ادعوا صلاح القلب واكتفوا بذلك . وينتفع الصادقون المخلصون .. مَن حسنت سريرتهم وعلانيتهم .. جعلني الله وإياكم منهم بفضله وكرمه ومنته .
 
 وإن دققت وحققت وجدت قولي حقاً ، إذ أن أخذ الناس بما في قلوبهم طريق يسير بك يُمنة أو يُسرة . إلى إفراط لا تقبل فيه ما يبدوا على الفاعل من قرائن تحول دون القصد إلى ما يفعل .كتأويلٍ مقبول شرعا أو جهل معتبر أو إكراه مُلجئ. نهج الخوارج المفْرِطين  . أو  يسير بك إلى تفريط تقبل فيه كل منتسبٍ وإن سب الدين ، وبدل شرع أحكم الحاكمين ، وسخر من هدي الرسول الأمين ، وقاتل عباد الله الموحدين منفرداً أو تحت إمرة الصليبيين ... فعل المرجئة المُفَرطين .
فهناك إذا  مناطان :                                                                                                   
    مناط الحكم  ويسمى الإسلام الحكمي  .                                                                             
ومناط الانتفاع  ويسمى الإسلام الحقيقي . 
                                                    
وأعني بمناط الحكم  ما نحكم به على ظاهر الشخص من إيمان أو كفر ونتعامل معه على أساس هذا الحكم .  ولا يستلزم بالضرورة المطابقة لما عليه حقيقة المحكوم عليه . ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمن يرسله في جيش أو سرية "... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلُوهُمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا " .[2] ومن هذا - أيضاً- قول الصديق رضي الله عنه حين سئل عن الكلالة قال : أقول فيها برأي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان " .    
 
ولهذا مَن أبدى لنا الإيمان- كما عرّفه سلفنا الصالح : اعتقادا في القلب وقولا باللسان وعملا بالجوارح - .حكمنا له بالإسلام وحسابه على الله . ومن أبدى لنا الكفر ـ بمناطه الغائي ـ اعتقاداً أو قولاً أو فعلاً أبدينا له التكفير وعاملناه على أساسه وحسابه على الله .
 ومن هذا حديث " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله "[ متفق عليه ].
            قال ابن تيمية في الصارم : معناه أني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام، وأَكِل بواطنهم إلى الله ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت موجب للحد ببينة أو إقرار ..ا- هـ.                                       
    ( قلتٌ : فما بال أقوامٍ يقيمون أحكامهم على الآخرين ـ بخاصة منها مسائل الكفر والردة  بالظن والشبهات، والمحتملات .. وأقوامٍ آخرين على نقيضهم وضدهم تأتيهم البينة الظاهرة بإقرار أو فعل صريح، فيأبون إلا أن يشقوا عن القلوب والبطون ـ وأنى لهم بذلك ـ ليعلموا هل صدر الكفر من جهة البطون والقلوب أم لا ..؟!!)

ثانياً : مناط الانتفاع أو الإسلام الحقيقي  : وهو ما ينتفع به المرء من إيمان أو إسلام عند الله ، وهذه مردها إلى الله ، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . والكلام فيها يكون من باب التبليغ عن الله سبحانه وتعالى فنقول : " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار "[3] [
    " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل " [4]
فإذا كانت الأحكام في الدنيا تقوم على أساس الظاهر فإن الأحكام يوم القيامة وكذلك الجزاء يكون على أساس الباطن والظاهر، والمرء لا ينجو من العذاب في الآخرة إلا إذا تحقق له إسلام الباطن والظاهر معاً.
 
------------------------------
[1] مع اليقين بأن هناك تلازم بين الظاهر والباطن ، وأن الأحكام منها ما هو غائي ومنها ما دون ذلك
[2] سنن الترمذي . كتاب السير حديث رقم 1542 . وسنن أبي داود كتاب الجهاد حديث رقم 2245 .واللفظ للترمذي .
[3] [ صحيح البخاري/ كتاب العلم ج 1/ 226  ]
[4] [ مسلم كتاب المساجد 1/452 ]

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية