اطبع هذه الصفحة


البعد الغائب في الطرح المتطرف

محمد جلال القصاص
 @mgelkassas


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

البعد الغائب في الطرح المتطرف

ليس لك أن تمر على غرائب الأشياء دون أن تبحث عن تفسير لها، وقبل التفسير لابد أن تعيد النظر مرة بعد مرة حتى ترى بوضوح، فالوصف الجيد يساعد على إيجاد تفسير جيد!

حال دراسة ما قدمه عباس العقاد في إسلامياته شاهدتُ ظاهرةً غريبة، وهي أنه محل ثناءٍ من الأضداد، فنفر من أهل اليمين يثنون عليه، وعامة أهل الشِّمال يبالغون في الثناء عليه، كزكريا بطرس، وسيد القمني.

ووجدت ظاهرة أخرى أكثر غرابة عند الناشطين في مجال "التنصير" الإلكتروني والفضائي كزكريا بطرس ومرقص عزيز، وهي جموح وبذاءة الخطاب. وحين أعدت النظر مرة بعد مرة في حال زكريا بطرس تحديدًا، وجدت أنه كان واعظًا ذائع الصيت، يأتيه الناس من كل مكان ليسمعوا عظته، وطبعي أن العظة يغلب عليها التذكير بالله وما أعد للمتقين وما توعد به العاصين. فلماذا انقلب بطرس هكذا؟.. من "الأدب" الجم في مرحلة الشباب والكهولة إلى البذاءة الشديدة بعد أن شاب رأسه وجاوز السبعين من عمره؟! ولماذا اختلف الناس في عباس العقاد إلى هذا الحد من التضاد؟!

التفسير في حالة عباس العقاد مختلف عن التفسير في حالة بطرس ومرقص وإخوانهم في البذاءة والتطرف الفكري. وكلا التفسيرين يكشف عن بعدٍ غائب في الأطروحات والمواقف المتطرفة. وإليك بيان بما يناسب مقال:

تواجد عباس العقاد بين عصبة (شلة) من الإعلاميين والسياسيين والمثقفين، وكان التناصر بينهم على مبدأ "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" ولم يكن على أساس التحقيق والتدقيق في الأقوال والمواقف، ولذا لم يعترضوا على دفاعه عن بولس (شاؤول الطرسوسي)، ودفاعه عن الكتاب "المقدس"، وعقيدة الصلب من أجل الفداء، ودفاعًا في وقتٍ كانت حملات التنصير تترا على مصر والأمة الإسلامية؛ ولم يعترضوا على دعمه لمصدر المعلومات العلماني (الآثار والوثائق المكتوبة)، وأنه ظلّ مستمسكًا بنظرية التطور العضوي والتطور المعرفي، وظلّ يردد القول بأن البيئة والعامل الوراثي هما المؤثر الأكبر في صياغة الشخصية، كأن كل شيء نبت من الأرض وتطور بعوامل أرضية مادية، وليس أن الله هدى البشرية وأصلح دنياهم وأخراهم بما أنزل على محمد، يقول الله تعالى: (وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ) (النحل:89).
وإكثاره في التأليف جعله يهيم في أوديةٍ كثيرة، فكتب عن رسول الله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه، وكتب عن عبد البقرة غاندي، وكتب عن الحلاج، وابن عربي، وابن سينا، وابن رشد، وسعد زغلول، ومحمد عبده. كان يهيم خلف كل مؤثر في حياة الناس بغض النظر عن دينه ومذهبه، فانتصر "للعبقرية" أيًا كان دين العبقري ومذهبه. وكتب ضد الاشتراكية وضد النازية، وانتصر للديمقراطية الغربية. هذا التيه في الدروب المختلفة جعل له من كل ضرب نصير، وجعل ذكره حاضرًا في المجالس "بخيرٍ" أو شر.
كما أن عباس العقاد، وخاصة في إسلامياته، وقف وسطًا بين الخير والشر الصريح، ففي الوقت الذي تنكر فيه طه حسين لإبراهيم، عليه السلام، وكان إنكار طه حسين للخليل إبراهيم إنكارًا للقرآن الكريم كمصدر للمعرفة.. كانت هذه هي القضية في الحقيقة، وكانت قضية ثائرة في الساحة الفكرية وقتها.. ولا زالت. أعني قضية مصدر المعرفة: هل تصلح الكتب السماوية مصدرًا للمعرفة؟!
 وجاء عباس العقاد لهذه القضية الثائرة.. ووقف وسطًا، فمن ناحية أثبت وجود الخليل ومن ناحية أخرى اتكئ على مصادر المعلومات الغربية، ولم يأت منتصرًا لكلام الله. بمعنى أنه انطلق من ذات المنطقة (الوثائق والشواهد المادية[الأثار] كمصدر للمعرفة) وكأن القضية هي وجود الخليل إبراهيم من عدمه!! فكان وسطًا بين طه حسين وبين ما أنزل الله على محمد، صلى الله عليه وسلم. وفي التفاصيل أتى بمنكر من القول وزورا، يقول: صلاح حال الناس بالأنبياء والكهان، الأنبياء لمدن القوافل (ثلاثة مدن أو أربعة)، والكهان للحضارات والمدن الكبرى! والله يقول: (وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ)(فاطر:24)، ويقول: لم تكن نبوة قبل الخليل إبراهيم، وفي صحيح السنة أن أبا البشرية آدم كان نبيًا مكلمًا، وفي القرآن الكريم إدريس ونوح، وكأنه لم يقرأ قرآنًا ولم يدر سنةً!!

 وأظهر المتطرفون من النصارى إنكارًا لرسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، ووصفوه بأوصاف يعلمون هم قبل غيرهم كذبها (وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ)(النمل:14)، (فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُون) (الأنعام:33)، وجاء العقاد وتحدث عن محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، كعبقري وَعَى عن الله بعبقريته، لا كرسول أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ)(آل عمران:144)، وبهذا وقف وسطًا بين المؤمنين والكافرين، فامتدحه الضالون المكذبون لنزعه وصف الرسالة، أو تقليله من تأثير الرسالة فيما كتب الله من إصلاح على يد رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، وامتدحه بعض الطيبين لأنه عظم النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يتطاول عليه كما تطاول غيره من النصارى وغلاة الملحدين.

والنتيجة: أن المواقف والأفكار المتطرفة (كطه حسين عن الخليل إبراهيم) أدت إلى تمرير الأفكار الأقل تطرفًا (أفكار عباس العقاد التي ظهرت في كتابه عن إبراهيم عليه السلام).كأن طه حسين جاء محللًا.. مبررًا.. ممررًا، لانحرافات عباس العقاد ليس إلا.

ولكم تأملتُ في حال بطرس ومرقص وهما يتحدثان بحديث شديد الغرابة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والقرآن الكريم، والشعائر (كالحج) والناسخ والمنسوخ، وأقول: هل يصدقهما أحد؟ هل يظن أحدهما أن أحدًا يصدقه ويؤمن بما يقول؟!
وتبين لي أن هذا الطرح المتطرف لا يراد لذاته، وإنما يراد لتمرير الطرح الأقل تطرفًا كأطروحة عباس العقاد التي تتحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعبقري، وأطروح "جوزيف قزِّي" و"وول ديورانت" التي تتحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كمصلح اجتماعي.

وإن المتدبر في حال الصراعات الفكرية وما يحدث بعدها من تحولات وتغيرات يجد أن التغيير يأتي غالبًا من الوسط. يحتدم الصراع بين طرفين، وحين يطول الصراع يخرج ثالث وسطًا بين الطرفين، وعامة الناس يميلون لمن يتوسط المشهد في الغالب، ولذا يستقر الوسط، ويكأن المتطرف يعمل فقط من أجل تمرير المتوسط بين الحق والباطل. وعلى سبيل المثال: اشتد الخلاف في مسألة الإيمان بين التابعين من ناحية والخوارج، والمرجئة من ناحية أخرى فجاء المعتزلة وأهل الكلام وتوسطوا المشهد، وبالتالي استقر مذهبهم إلى اليوم. واشتد الخلاف بين أتباع المسيح -عليه السلام- والوثنيين فنبشوا عن (بولس) وأخرجوه من تحت ركام الأيام، واستقر بولس والمؤمنين ببولس وسطًا بين الكفر والإيمان؛ واستقر الحديث عن رسول الله كعبقري ذو إمكانات ذاتية كبيرة، وكمصلح اجتماعي بعد أن اشتد الخلاف بين الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ودعاة "التنصير" والإلحاد. وإن كل وسط بين باطل وحق ما هو إلا باطل جديد.

فالساحة دائمًا ثلاثية: طرفان ووسط. وفي الماضي كانت هذه الثلاثية تتكون بشكل تلقائي، والآن تصنع هذه الثلاثية عمدًا، بأدوات الإعلام والسلطة.. يخرجون من يتبنى طرحًا متطرفًا من أجل تمرير الأقل تطرفًا، ثم يكون متطرف اليوم وسطًا غدًا، وهكذا.. حتى ينحدر المجتمع ويستقر في غائطٍ الكفر والرذيلة. ولك أن تتأمل حال الناس قبل خمسين، أو عشرين، عامًا وحالهم اليوم.

محمد جلال القصاص
ذو القعدة 1443هـ
يونيو 2022م

 

 
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية