اطبع هذه الصفحة


تأملات شرعية (2) : ليس التأويل نوعاً  واحدا بل أنواع

محمد جلال القصاص

 
مما لا شك فيه أن قناعة المرء بالشيء ليست أمارة على صحته .قال تعالى " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "[ الكهف :103 ]  وقال تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "[ البقرة :12،11 ] وقال تعالى " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " [ الأعراف : 30]
ومما لا شك فيه أيضا أن عُلُوُّ الصوتِ وغلبته لا يعني أبدا انه صوت حق . بل وكثرة المعتنقين لا تعني أبدا صحة ما يعتنقون ، وفي التنزيل " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم "[ص : 24 ]
 
والحاصل أن كل ذي منهج ـ فكر ـ يدَّعي أنه على الجادة ، وأنه على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتا ، ويٌمْناه يقف المتطرفون المتشددون ، وأيسر منه تراجع المفرطون المنهزمون . وهو بينهم ، يدعوا كلا إلى طريقته .
وكأدعياء الوسطية أهل اليمين  وأهل الشمال ، يدَّعون كما يدَّعون ، وينادون القوم إلى طريقتهم كما ينادون .
        
فلا أحد يقول [1] بعدم القبول لشرع الله .. ولا أحد يجاهر برَد الشرع ..بل الكل يتأول . ولهذا أردت في هذا المقال  بيان أن التأويل ينقسم  من حيث ما يتعلق به من الصواب والخطأ إلى أربعة أقسام :
 
1ـ  نطاق الصواب وفيه يتكلم المجتهد بعلم وعدل وبكلام راجح ؛ وفي هذه الحالة له أجران .. أجر لاجتهاده وآخر لصوابه .
2- يتكلم المجتهد بعلم وعدل وبكلام مرجوح ؛ وفي هذه الحالة يكون له أجر واحد.. لاجتهاده .
3- نطاق العفو وفيه : يتكلم المجتهد بعلم وعدل وبكلام باطل وهو ذلة العالم .
4ـ نطاق الوزر وفيه :يكون الكلام بلا علم ولا عدل وصاحبه موزور غير مأجور ، وهم أهل البدعة إذ أن كل بدعة لها دليل فاسد ، وغالب هذا من فاسد التأويل .
     
ولكن هل كل من دخل في نطاق الذم والعقاب دخل في نطاق الكفر ؟
لا.ليس كل من دخل في نطاق الذم والعقاب دخل في نطاق الكفر .وذلك لأن البدعة درجات فمنها ما يخرج من الملة باتفاق ، ومنها مالا يخرج من الملة باتفاق , ومنها ما هو متردد بين ذلك لذا يجب التفريق .
ما أريد قوله هو أن : ليس كل تأويل يُقبل ، أو أن ليس كل متأول صاحب أجر أو أجران . أو معفو عنه في أسوء الحالات . فهناك من يحمل وزرا على تأويله .

أقول : وقضية عدم قبول تأويل كل متأول قضية يقينية لا يجهلها من له أدنى دراية بالدين . وتدبر هذه الأدلة :
 
ــ  أراد قوم ـ يزعمون الإيمان  ـ أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا  أن يكفروا به متأولين : إن أردنا إلا إ حسانا وتوفيقاً ، فرُدّ عليهم زعمهم  ، ولم  يلتفت إلى صدق تأويلهم أو كذبه ؛  بل جاء الحكم بنفي الإيمان عنهم حتى يحكِّموا بصدور منشرحة ونفوس مستسلمة ، ولم يلتفت إلى تأويلهم .قال الله :" ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً  ....إلى قوله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما "  [النساء  60 -65]
يقول بن كثير - بعد أن أورد ما ذكر من سبب في نزول هذه الآيات - : والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا . ولشمس الدين بن القيم في كتابه القيم ذاد المهاجر إلى ربه ( الرسالة التبوكية ) على هذ الآية كلام قيم مذكور في أول الرسالة فليرجع إليه من شاء .
 
ــ ويوم بدر ... يوم الفرقان يوم التقى الجمعان خرج العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ مع جند الشيطان يقاتل أولياء الرحمن فعامله الرسول معاملة الكفار في المال والأسر ، ولم يقبل منه دعوى الإكراه وقال له- صلى الله عليه وسلم - : :" أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله " ، فحكم عليه بظاهرة .
 
ـــ وكالعباس أولئك النفر- من المسلمين - الذين قاتلوا تحت لواء الشيطان بدعوى الاستضعاف فقتلوا ونزل فيهم قول الرحيم المنان ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض . قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) [ النساء 97 ] .
 
ــ وشهد الصحابة رضوان الله عليهم على قتلى المرتدين – جملة أو على العموم – بأنهم في النار ، [2] مع علمهم بأن بعضهم شارك حمية وليس بغضاً في الإسلام ولا من أجل  مسيلمة بل حمية ونخوة .
وظاهر المنافقون اليهودَ متأويلين : " نخشى أن تصيبنا دائرة " . وما تقبل منهم ، وما التفت إلى تأويلهم .
ونذر قوم وذبحوا متأولين " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ". فردّ عليهم تأويلهم ودعوا إلى الإسلام ، وقوتلوا حين أبوا .
 
فليس كل متأول يقبل تأويله بل لا بد من مناقشة التأويل لنرى أيقبل أم يرد


------------------------------------------
[1] أتكلم عن المنتسبين للدين . وإلا فهناك الملا حدة  يجهرون  بالكفر .
[2] لا ينبغي أن يفهم من رفض دعوى الإكراه عند العباس بن عبد المطلب  - رضى الله عنه - وعند أولئك النفر من (المسلمين).الذين قتلوا تحت راية الكفر ونزلت فيهم الآية . أن دعوى الإكراه غير مقبولة بالكلية  إذ أن الإكراه منه ما هو معتبر شرعاً كمن استثنت الآية التي بعد هذه " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً " ، ومنه- أي الإكراه - ما ليس بمعتبر شرعا كالعباس وهؤلاء النفر. فقد كانوا يستطيعون حيلة ويهتدون سبيلاً ، وفرق بين أن ينزل الإكراه بك من دون إرادتك .. وبين أن ينزل بك الإكراه بإرادتك واستشراف منك .
كما لا ينبغي أن يفهم أن قتال الصحابة للمرتدين ، وشهودهم على قتلاهم جميعهم بأنهم في النار  أن الصحابة قد أجمعوا على تكفير أعيانهم  بما في ذلك المكره والجاهل فهذا غير معروف ومن يدعي الإجماع فليأتي به .

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية