اطبع هذه الصفحة


علَّمَني ناصر العمر

محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com


 في شتاء 1998م ( 1418 هـ )  ، قدمتُ لأحدهم مذكرةً بعنوان : لماذا التوحيد ؟ ، سجَّلتُ فيها المحاور الرئيسية التي أُنَظِّرُ بها في حواراتي بين السياسيين والعقلانيين عن ضرورة التوحيد ، فأرشدني إلى سماع شريط للشيخ ناصر العمر بعنوان ( لماذا التوحيد ؟ ) . فأجبته من جهلي : وهل سيأتي بجديد ؟!
قال لي هو ذكي عقله فوق علمه ونحسبه من المخلصين والله حسيبه ولا نذكي على الله أحدا من خلقه. . . يُنْشَرُ له في العام مرة أو مرتين ولكن  .... اسمعه ولا بد أنك ستستفيد .

وتعجب حين تعلم أنني استفدت من الشريط جملة واحدة صارت قطب رحى كل ما أدندن حوله اليوم في مقالاتي ومحاوراتي ، وهي آخيتي التي أشد إليها خيامي  حيثما حللت ، واستفيد منها جدا في تشخيص حال من أتعامل معه في أمر ديني أو دنياي ، ، هي أن العمل ـ أي عمل ـ  يمر بثلاث مراحل ، مرحلتين في القلب وثالثة في الجوارح . فوجدت الأمر كله يستقيم على هذه الملحوظة العجيبة التي تلقيتها من هذا الشيخ العاقل .
مسائلُ الإيمان يتيسرُ فهمها جدا حين تفهم أن للقول والعمل مرحلتين بالداخل ،  معرفةٌ وتفاعلٌ بالوجدان ، أو ما يقال له تصديق ويقين  ، وكذا مسائل الولاء والبراء والحكم العام والحكم على المعين يستقيم فهمها جدا ـ ومن ثم تطبيقها ـ حين تفهم أن هناك مرحلتين في الداخل ومرحلة في الخارج ( قول أو عمل ) ، وكذا مسائل ارتباط الظاهر بالباطن [1] .
 بل وأظهر ما يقال فيه هذا الكلام  المجال التربوي . . ضبط السلوك من أين ؟ وكيف يكون بأيسر الطرق ؟ وخطأ المدارس التربوية الحديثة التي انصرفت للسلوك ولم تبدأ من النقطة الحقيقة المتحكمة في السلوك وهي الداخل ( القلب ) . . المفاهيم والتصورات .
 بل والتاريخ . كنتُ قد انتهيت من قراءة ( البداية والنهاية )والسيرة النبوية لا بن هشام قبل السادسة عشر من عمري ، وقرأت غيرها بعد واستمعت باهتمام إلى كل من حاضر في التاريخ تقريبا من المختصين وغير المختصين ولم يثبت في ذهني إلا الأحداث ـ وهو حال أكثر من يقرأ أو يعرض التاريخ ـ . . . وحين عُدتُ أتدبر على ضوء ما تعلمت من هذا العاقل الفاضل وجدتُ أن التاريخ له قصة أخرى ، رأيت كيف تقوم الدول وكيف تسقط . ورأيت كيف تنتشر الأفكار الضالة وكيف تَنْكَبِتْ[2] . انحرافٌ في المفاهيم والتصورات يعقبه ـ بعد حين ـ انحراف في الواقع . وكل هذا من بركة كلماتٍ معدودة لشيخي حفظه الله وثبته [3].
والتالية أعجب من سابقتها .
 
المستحيل عند ناصر العمر له تعريف آخر .
 
حاولت مرارا أن أعثر على شرائط أخرى للشيخ ناصر العمر ومدة من الزمن وأنا أبحث ولم أجد إلا محاضرة مكتوبة قرأت فيها هذه الكلمات للشيخ حفظه الله ((  وجدتُ بعد تدبر أن الاستحالة نوعان استحالة قدرية كأن يصير الواحد أكثر من الاثنين أو أن يجتمع الشمس والقمر في رابعة النهار واستحالة شرعية كأن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع من ذي الحجة ، وما عدا ذلك ـ والكلام للشيخ حفظه الله ـ فليس بمستحيل . فلو عزم أحدهم على نقل جبل لنقله  . .  )[4]  
ولا تعلم ماذا حدث بداخلي من هذه الكلمات ، لم أكن أعرف الفاعل من المفعول ، ولا أهتم ، وأرى أن أقصى ما أستطيعه هو تزكية نفسي ودلالة غيري ، وما أسجله بيدي ما هو إلا كلمات أستعين بها حين التحدث بالعامية ، وفجَّرَتْ كلماتُ الشيخ ناصر العمر ـ حفظه الله ـ  في صدري براكين من العزم في مجالات شتى ، ولم أعد أستصعب شيئا بل حين أعجز أستعين بربي وأعلم أن الخلل عندي ولا بد أن هناك  طريقٌ للمراد ، وهاأنذا من أكثرهم ـ إن لم أكن أكثرهم ـ  تواجدا على الشبكة العنكبوتية في المواقع الجادة والمواضيع العلمية الجادة ، وخطوت خطوات سبقت بها رفقاء الدرب ، كل ذلك أحمل كلمات الشيخ شعلة أستضيء بها حين تشتد الظلمات ، وأحرق بها وجه كل كذوب مخذول يحاول أن يقطع علي طريقي .
 
وحين يكون طبعك حادا ـ مثلي ـ  وإقصائيا لا تعرف إلا الأبيض والأسود . . . حين تكون عجولا  تَثُورُ مع أول مثير ، تكثر زلاتك ، ويقل أصدقائك ، وتعض بنان الندم كل يوم من فِعالك ، وقد ينهدم بيتك وتعقُّ أبيك وأمك وتخسر جيرانك من سوء طبعك ، وفقط خمسون دقيقة تسمعها للشيخ ناصر العمر يتحدث فيها عن الاستغراق تذهب بكل هذا من صدرك ، يشخص لك الداء ويعطيك الدواء  . . وأي دواء . فقد علمني ناصر العمر أن أكون حذرا من الاستغراق وأن أتمهل في أخذ القرار . ودونك المحاضرة فلا أستطيع تلخيصها هنا .
 
وأضاءت كلماتٌ لناصر العمر لي ظلمات بعضها فوق بعض كادت أن تذهب بصبري . وتُقعدني أو تُرْجعني ، تلك الكلمات التي تحدث فيها عن ( حقيقة الانتصار ) وهي محاضرة تاريخية في الفكر الإسلامي  . فالانتصار انتصار المبادئ ، وعلى مدى أجيال وليس جيل واحد .
 
أقول : وربما هذا التصور للمستحيل ، وهذه النظرة للنصر والهزيمة هي التي جعلت الروح العامة للشيخ ناصر العمر ـ حفظه الله ـ هي البشر والتبشير بالخير ، والاستعلاء عن الخلافات الداخلية الرخيصة بين الصف الإسلامي ، . فتجده في أحلك الظروف يقول : أبشروا ....
 
وإن كنتَ عذبا تريد بيتا صالحا أو كنتا متزوجا تراكمت الهموم في بيتك وكادت أن تفسد البيت على ساكنيه ، فقط ثلاث ساعات تسمعها للشيخ ناصر العمر ليصبح بيتك بيتا مطمئنا [5]. إنها ( بيوت مطمئنة ) . لا بد منها لكل من ينشد الراحة في بيته ، والعزب قبل المتزوج .
 
وعلَّمني ناصر العمر الثبات على المبادئ ، فهو يهتف دائما ( وما بدّلوا تبديلا ) فأخذتُ بما أستطيع الثبات عليه وتركت التشدد في  البدايات وحملُ الثقيل الذي قد يجلسني عن المسير .
 
ومن عام تحدثت للشيخ بالهاتف الثابت في أمر يتعلق بالنشر في الموقع ، تحدثت معه سبعة عشر دقيقة أعدها عدا  فإذا بي أجد متواضعا عطوفا كأنه يعرفني من سنين ، قريب هين ، وبعضهم تسمع له أو تقرأ فتحبه وحين تلقاه تجده خشنا يقذف بك ، أما الشيخ ناصر العمر فودود كأنه أخوك أو أبوك ، كريم يَعْزِمُ بالزيارة ، وقريب ينادي بالأخوة ،  فرحم الله شيخنا ناصر العمر رحمة واسعة . وإذا بي  أتعلم منه في هذه الدقائق أ، أكون أكثر تركيزا وأقل طرحا ، وأن احترم رأي الآخر وإن كان يعمل تحت إدارتي .
وإذا بي أتعلم منه أن لا أكون مركزيا أمسك بكل شيء في يدي ، بل أنتقي رجالي . وأفوضهم ولا أبخسهم حقهم[6] .
وتعلمت ، وتعلمت من الشيخ ناصر العمر ، وما زلت أبحث عن جديد في كل جديد من أقواله ومواقفه حفظه الله .
 
وبعد : ـ
من لا يشكر الناس لا يشكر الله ، وقد كتبت هذه الكلمات عرفانا للشيخ بفضله ، فهو نموذج من الثبات والأدب مع المخالف ، ونفس ذكيه ـ نحسبها والله حسيبهاـ متهللة فرحة مسرورة في كل حال  .أحتسب الأجر على الله ، وما بي حاجة إلى الشيخ أو غيره فربي عنده خزائن كل شيء { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [ الحجر:21] وقد أغناني الله من فضله . فله الحمد والمنّة ،   ويبقى أن أقول أين تلاميذ الشيخ الذين جلسوا إليه وخالطوه ، شاب الشيخ ولم نرى من يحمل علمه ويسير بأدبه بين الناس . أو أنني لا أرى ؟
ربما .
إن أخاف أن يكون الشيخ كالليث ابن سعد ضيعه طلبته رغم كثرتهم حوله .

   
--------------------------------
[1] اقرأ مثلا ـ للكاتب ـ ( المعرفة والقبول والإذعان ) بالصفحة الخاصة بصيد الفوائد ، وركن المقالات الشرعية بموقع المسلم والمختار الإسلام . فهو تطبيق لهذا الفهم .
[2] اقرأ مثلا للكاتب ( المشروع التغريبي الجديد إذ يحمله الصحويون ) بالصفحة الخاصة بموقع صيد الفوائد وموقع إمام المسجد وموقع المسلم المقالات الشرعية .
[3] ومما أثمره هذا الأمر بحث للكاتب بعنوان ( مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية ) راجعة الدكتور محمد صامل السلمي ، وهو منشور في مكتبة صيد الفوائد ، وفي مكتبة موقع المسلم ، وملتقى أهل الحديث . وموقع النصرة وغيرهم  .
[4] أكتب من حفظي ولم أطلع عليها منذ 2000م
[5] أعني بذلك شرائط بيوت مطمئنة . للشيخ وهي مجموعة من ثلاث شرائط وليست في موقع الشيخ !!
[6] وهي أفضل الطرق للإدارة وهي التي جاء بها الإسلام ، حين أمر بأن تدار شئون البلد من خلافات قضائية وجمع أموال الزكاة وتقسيمها وإدارة الجيش إلى أمير تلك البلد والخليفة يتابع من بعيد فيعزل أو يثبت  ، ولها ثمار طيبة فهي تلغي المركزية التي تكدس العواصم بالسكان وتشق على أصحاب الحجات حين لا يجدون قضاءً لحوائجهم إلا في العواصم ، إلا أن آفة هذه الطريقة هي استبداد أمراء الأمصار ـ المفوضون ـ بالأمر والتطاول على الإدارة المركزية ، وذلك حين تضعف أو تنشغل  ، وقد رأينا كيف استقلت دولا عن الخلافة  العباسية في المغرب العربي والأندلس رغم قوتها مستغلين انشغالهم في ثورات الطالبين كدولة بني الأغلب في المغرب الأدنى بتونس ، وكيف نشأت دولا أخرى في الديلم ( الأفغان اليوم ) ومصر والمغرب الأقصى والبحرين  بعد ضعف الخلافة . ورأينا ظهور البرامكة الذين استبدوا بالحكم مع وجود الخليفة القوي مستغلين ثقتهم فيه . ورأينا استبداد العسكر في جيش العباسيين ومن بعدهم . فهي تحتاج لإدارة قوية يقظة تتابع حتى من تثق فيهم كما كان عمر رضي الله عنه . ونسأل الله العظيم أن يعافي الشيخ من فعال العسكر والبرامكة وأن يرزقه بطلبة يعرفون قدره ويسيرون بعلمه بين الناس .  

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية