اطبع هذه الصفحة


تعديل مرمى الجمرات كشَفَهُمْ

محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com


يتداعى لرمي الجمرات يوم الثاني عشر من ذي الحجة ـ ثاني أيام التشريق وهو يوم التعجيل ـ الأقوياءُ ، وترفع على رؤوس كثيرٍ الرايات وتتعالى تحتها الصيحات ، كأنه يوم من أيام العرب ، فتسمع عند الجمرات الصيحات والنداءات وترى إرساليات ( تقاتل ) مجتمعة من أجل الوصول إلى الحوض والرمي من قريب ، وقد حدث أن مات فريق من الحجيج في هذا الموقف .
 
وبعد موت الحجيج من أثر التدافع يومَ التعجيل تكلم ثلاثة  من الناس . طيبون وانتهازيون مجرمون وغافلون . وأنا هنا لا أبحث المسألة من ناحية فقهية ، وإنما أقرأ العقول وأنظر في الدوافع والمآلات .
 
الطيِّبون هالهم موت إخوانهم وراحوا يبحثون عن الأسباب فقائل من حَمْلِ البعض للأمتعة حين الرمي ، وقائل من تواجد الضعفاء والنساء ، وقائل من ضيق المكان . . الخ ، وطالبَ بعضُ هؤلاء ـ في هذا السياق ـ بإعادة النظر في توقيت الرمي والإذن به قبل الزوال للضعفاء وذوي الحاجات . كما هو الحال في الدفع من ( جَمْع ) [1] . هؤلاء هم الطيبون .
 
أما الخبثاء المجرمون ، فهم القاعدون للشريعة بكل طريق ، رموا بسهامهم  علماءَ الملة والدين
فحصروا الأمر في أن سبب هذا التدافع هو التشدد في تحديد الرمي بما بعد الزوال ، وتكلموا بضرورة تطوير الفتوى فقد تطور الزمان ولم يعد الأمر على ما كان ، وهو تفريع على أصل يستمسكون به ويدعون إليه ، وهو أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان ـ هكذا بإطلاق  ـ وهو كلام يستبطن بل يدعوا صراحة إلى تغيير الثوابت لتسير على هوى الناس في هذا الزمان[2] . وكأنها فرصة لتشويه منهج السلف الصالح ـ الصحابة والتابعين ـ من خلال الغارة على العلماء الربانيين .
والعجب أن هؤلاء يدَّعون العقلانية في أطروحاتهم ، والعقل يقول أن دفع علماء الأمة للإجماع على جواز الرمي قبل الزوال ليس حلا للمشكلة ، بل هو زحزحةٌ لها ، فبدل أن يكون التدافع ظهرا سيكون فجرا .
 
والغافلون هم من راحوا  ينظرون لمشهد التدافع وقت الزوال يوم الثاني عشر دون سياقه العام وهالَهُم موت الناس من التدافع ، وبعَجَلَة وسطحية في التفكير انقلبوا إلى الشريعة واستحضروا قاعدة فقهية ( المشقة تجلب التيسير )[3] وراحوا يعملونها ويطالبون غيرهم بإعمالها وصولا لإجماع على الرمي في كل حين قبل الزوال وبعده .

وهم غافلون .
غافلون عن أن السبب في التدافع ليس هو وقت الرمي ، فالوقت ممتد حتى للمتعجل إلى الغروب ومن نوى التعجيل لا يضره إن أتى عليه الليل وهو في مِنى قد حبسه عذر ، والتزاحم ينحصر في ساعتين فقط أو أقل بعد الزوال  وبعدها يصير الأمر مقبولا ومحتملا حتى للضعفاء وذوي الأعذار ، وغافلون عن أن زحزحة وقت الرمي لما قبل الزوال هي زحزحة لوقت التزاحم وليس حلا لها ، وهم غافلون عن أن هناك حلولا أخرى بديلة يجب أن نسير إليها قبل القول بتغير الفتوى أو تعديلها .
وهم غافلون عن أن دعواهم تتوافق مع المجرمين . في التوقيت وفي الثمرة وإن اختلفوا في المنطلق ، فهم وإن لم يتكلموا بتسفيه العلماء الذين لم يُعملوا هذه القاعدة الفقهية ( المشقة تجلب التيسير ) لكن كلامهم يشير من قريب إلى أن علمائنا دون مستوى الفتوى وتغيب عنهم القواعد البسيطة التي فطن إليها هؤلاء ، ومن المعلوم بالضرورة عند الأصوليين أن الحرام نوعان ، حرام لذاته وحرام لغيره ، فقد يعتري الأمرَ أمرٌ فيقلب حكمه الشرعي ، وهو أمر مسلم به ، فالنوازل تحتاج للتروي والتدقيق في المآلات والأهداف .ليرى هل السؤال على ظاهرة أم أنه مطية لشيء آخر؟[4] .  
وهم غافلون عن أنهم ليس لهم أن يتحدثوا لعوام الناس دون الرجوع لأشياخهم من الربانيين وبحث الفتوى معهم أو بالأحرى ترك الفتوى لهم . وهذه أم المصائب التي ابتلينا بها اليوم ، صحفيون وكَتبَة وصغارٌ من طلبة العلم يتكلمون فيما يتوقف فيه أمثال ابن باز وابن عثيمين[5] .
وأعظهم بواحدة أن لا يعودوا للتحدث للعامة في المذكرات والبرامج والمقالات في أمر كهذا  دون الرجوع للعلماء الربانيين ، فالأمر دين ويتسبب في إثارة العامة وتجريئها على ولاة أمرها من العلماء  .وقد قال الله { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] ، وأحسب أن كثيرين ممن يتكلمون ليسوا من الذين يستنبطونه منا.
 
وتعديل الجمرات كشفهم جميعا
 
حدث في هذا العام حسن تدبير وإدارة لموقع الرمي فقد اتسع المكان وزالت كثير من أسباب التدافع المفضي للموت ، ويتكلم أهل الشأن بأن هذه مرحلة أولى تتبعها مراحل .فقد كشف تعديل الجمرات أنه لم تكن هناك ضرورة تقتضي تعديل الفتوى ـ وتعديل الفتوى ليس حلا حتى وإن لم يحدث هذا التطوير في الجمرات كما قدمتُ ـ ، وكشفَ أن الذين في قلوبهم مرض متربصون بعلمائنا وأئمتنا ينتهزون أي فرصة للانقضاض على الشريعة في شخص هؤلاء ـ حفظهم الله ـ .
وكشفَ تعديل الجمرات بأننا في حاجة لخطوات أخر في اتجاه مساكن منى والمزدلفة وتطوير وسائل التنقل بين المشاعر ، لإقامة محطات مترو وبناية عمائر وغير ذلك مما قد يساهم في زيادة عدد الحجاج والمتسبب في الفعل كالفاعل ، وما نراه أن هناك كرما في النفقة على المشاعر .
  
وكشفَ تعديل المرمى صغار المفتين من طلبة العلم فقد أبان سطحيتهم وعجلتهم ، وأنهم لم يزيدوا على الشوشرة على العلماء وبلبلة أفكار العامة ومساندة المجرمين من حيث لا يشعرون ، وأنا أرشدهم لما هو خير لهم من هذا ، وهو التواجد بين الحملات وإلقاء الدروس ، وليس فقط إلقاء الدروس وإنما مدارستها مع الناس . ويستطيع كل فرد أن يزور في اليوم الواحد خمسا أو ستا من مخيمات الوافدين ( حجاج الداخل فئة 1500إلى 200 ريال وكذا كثير من مخيمات حجاج الخارج ) ويعرفهم بربهم سبحانه وتعالى ،وأن لا يكتفوا بتوزيع المنشورات ، فما شاهدته بعيني أن كثيرا من الحجاج يتلقى بضعا من المنشورات التي تشرح الحج لجهات خيرية مختلفة ، وكثيرون لا يقرءون أيا منها وإنما يبحثون عن من يحدثهم بما فيها ، فمعروف ومسلم به أننا أمة لا تقرأ ، ولو اعتمدت الجهات الخيرية مشكورة هذا المبدأ ، حتى ولو كان بالأجر بأن تتكفل بحج عدد من طلاب العلم وتوزعهم بين الحجيج ، وقبل ذلك تعطيهم دورة تدربيهم على يد العلماء الربانيين حتى يتفقوا جملة على ما سيقولونه للناس ، فهذا من وجهة نظري ـ وأنا مطلع على حال الحجاج وعيني ترقب جيدا ـ أرجى لهم ، وأحسب أنه لا توجد عواقب رسميه أمام هذا المطلب ، وأحسب أنه أوفر ماديا من هذا الكم الكبير من المطبوعات . وأحسب أن كثيرين من طلبة العلم يتطوعون دون أجر . فهل من مشمر ؟  
   
--------------------------------
[1] في جواز الدفع من جمع ـ مزدلفة ـ نص صريح ، وهو إذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض ذوي الحاجات وفعل نفر من الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو ما لا نجده في الرمي قبل الزوال فقد كانوا جميعهم ملتزمين بالزوال كبداية للرمي ، وذوي الحجات يوكلون أو يتأخرون .
[2] وهذا الكلام يتعارض مع صحيح العقل فمن المسلم به أن المفاهيم والتصورات هي التي تُشَكِل الواقع وليس الواقع هو الذي يشكل المفاهيم والتصورات .
[3] نص على هذه القاعدة الشيخ بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في ( القواعد الفقهية ) .
[4] مما يذكر هنا كنموذج معاصر على ذكاء المفتي أن الشيخ بن عثيمين ـ رحمه الله سأله أحدهم سؤالا: ما قولكم فيمن لا يرى حجية حديث الآحاد وهو يتكلم بالحلول والاتحاد ويتطاول على بعض الصحابة والتابعين بل والأنبياء . ففطن الشيخ للمراد وأجاب عن شيء آخر غير المسئول عنه أخرس به وساوس الشيطان في صدر السائل ومن يتبعه ، تكلم بأن الاختلاف في بعض الأمور العقدية بين علماء السلف موجود من زمن فمنهم من قال بتأويل الأسماء والصفات كابن الجوزي والنووي ـ رحمهم الله ـ ومنهم من تكلم في وجود الجنة والنار ..الى آخر ما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ .  
[5] ذكر الشيخ ناصر العمر ـ حفظه الله ـ في محاضرة له أن احد الناس سأل بن باز سؤالا في الحج ، فأجاب بأن هذه المسألة تحتاج لنظر ، يقول الشيخ ناصر العمر فالتفت إلى صاحبي وقال لي ( متعجبا من جهالته وجرئته على الفتوى قياسا بالشيخ ابن باز رحمه الله ) : ابن باز يحتاج لنظر في مثل هذه المسألة وأنا لو سألت فيها لأفتيت من فوري !!

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية