اطبع هذه الصفحة


مهلا أيها  الإستراتيجيون

محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com


ما هي رؤيتكم للمستقبل ؟ كيف سيكون الحال إن صار الأمر بأيديكم ؟ هناك ملفات ساخنة على الساحة كيف ستتعاملون معها ؟ ما هي ( أجندتكم ) لكذا وكذا ...؟
أسئلة قديمة حديثة تُلقى علينا كل يوم . . . ثرثرة يُدندن بها المنافقون وبعض الطيبين ، أسئلة تستبطن إظهار عجز الإسلاميين وبيان أنهم  لا يعرفون شيئا خارج يومهم ، وبالتالي لا يصلحون لقيادة الأمة .

ويذهب بعض الإستراتيجيون  يعرض أفكارا ( إسلامية ) للتعامل مع القضايا الحالية والمستقبلية ، وكلامهم ـ أعني  إستراتيجيو اليوم  ـ  إسلامي الأطر غربي المحتوى . يتعامل مع الواقع بنظريات وأفكار غربية غير أنها ترتدي مسوحا إسلامية . وسبب هذا كله هو أننا بعد لم نزل داخل دائرة الحصر الوهمي ، لم تزل التصورات الإسلامية عند البعض مغبَّشة ، تحتاج من يجليها .
 
إن المجتمع المسلم ينشأ ويتعامل مع غيره ومع أفراده بآلية تختلف تماما عما هو عند كل الأمم الأخرى .
 
وليستبين قولي دعني ألقي الضوء على ( ورطة ) تاريخية أكبر مما نحن فيه اليوم وكيف تعامل الإسلام معها .
 
فتح مكة وما تلاه من أحداث  . كان ورطة بكل المقاييس  العقلانية . . الإستراتيجية ، فمعلوم أن قريشا لم تكن ذات ثقل عسكري بالنسبة لباقي الجزيرة العربية .. لم تكن تمثل واحد بالألف  من القوى العسكرية الموجودة بالجزيرة العربية ، فضلا عن الفرس في الشرق وموالهم من العرب ـ المناذرة ـ والروم في الغرب والشمال ومواليهم من العرب ـ الغساسنة ـ ، والأحباش في الجنوب . وكان الصراع من بعيد يبدوا وكأنه بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقريش ، وكانت كل هذه القوى  ينتظرون ماذا سيحصل بينه وبين قومه .
وانظر ما ذا جرى
أقدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فتح مكة ـ وأنهى الصراع بينه وبين قريش بضم قريش للإسلام ، وأرسل رسولُ الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ  أبا بكر  ومن بعده علي بن أبي طالب  إلى الناس يوم الحج   ليُعْلموا الناس أن  الله بريء من عهود [1] المشركين  ورسوله  ، وأنها أربعة أشهر وبعدها الإسلام أو السيف .
 
وبهذا أصبح الناس في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية إما مسلمون وإما محاربون ،  وهذا يعني ــ  بلا أي تكلف ـــ إعلان الحرب على جميع مَن بأقطارها حتى يدخلوا في الإسلام  إن كانوا مشركين أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ــ إن كانوا ممن أباح الإسلام أخذ الجزية منهم ــ  .
وأنا أطالب كل ( استراتيجي ) أن يجلس مع نفسه ويدرس خريطة القبائل العربية ـ وهي متاحة في اسطوانة شركة حرف للسيرة النبوية ـ  والقوى المحيطة بالجزيرة ، وقوة المسلمين  مع الأخذ في الاعتبار أن معظمهم كان حديث عهد بإسلام  ثم ينظر هل كان هناك في قرار إعلان الحرب على كل مَن بأقطارها عقلانية ؟!
  
حدث نوع من الاعتراض  ( العقلي ) على هذا القرار . وانظر كيف عالجت البعثة المحمدية هذه الأحاجيج  العقلية .
 
 استحضر  بعض الطيبين ــ ( الواقعيين ) ــ عدد قوات العدو  ، وكيف أنهم كالسِّوار حول المعصم و المدينة المنورة   بلا أسوار ولا حصون ولا عدد  ولا عتاد  ، خافوا وتحدثوا يتمنونَ  نوعُ سياسة حتى تقوى الشوكة وتكون قوة تواجه هذه القوى ، فجاء القران يُُذكرهم بأن العدد ــ يوم حُنَين ــ  لم يغن عنهم شيئا . قال الله تعالى : { لََقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة: 25] .
فما هم إلا ستارا لقدر الله ، فقط يبذلوا ما يستطيعون من أسباب والله يُسدد رميهم ويَجبر كسرهم : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ  }[ التوبة : 14].
والسياق يفيد بأن هزيمتهم وعذابهم وخذيهم  متوقف فقط على مجرد الشروع في  قتالهم  بطريقة الشرط وجواب الشرط ، فالمعنى كما يقول القرطبي في تفسيره ( إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين )[2] ؛ ولهذا المعنى شاهدٌ صريح في السنة الصحيحة ، فعند مسلم من حديث  عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ  أن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال : (  وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عصاك )[3] .
وهو ما كان ، فقد كَسَحُوا البر الأصفر وركبوا البحر الأخضر  وذبحوا كسرى وحَصَروا قيصر  في بضع سنين ، ولم يمض قرن من الزمان إلا وهم يركعون ويسجدون على أبواب باريس والقسطنطينية والصين وفي أعماق أفريقيا . فمن كان يصدق ومن كان يتصور ؟!
  
واستحضرت بعض النفوس حال المنطقة بعد إعلان حالة الحرب الشاملة على مَن بأقطارها ، وكيف أنها ربما تكون كارثة اقتصادية ، فإعلان النفير العام على المشركين ومنعهم من القدوم إلى الحج ــ وفيه كانت تعقد أسواق التجارة ــ  يعني وقف حركة الملاحة البرية مما يؤدي إلا تعطيل التجارة و خراب  الأسواق وهذا يعني ــ ولا شك ــ توقف الحياة الاقتصادية .
ووسوس الشيطان يُخوف النفوس الضعيفة التي لم تتخلص كُلَّيةً من أغلال الأسباب المادية الظاهرة من الفقر ويصور  لها حالَها وقد حلّ بها الفقر وجاع الولد ونفقت الدواب وكسدت البضاعة وبارت التجارة .
 
 فأتى الجواب بأن هذه كلها من أسباب الرزق ، وليس كل أسباب الرزق ، وأن الله هو وحده مسبب الأسباب ، هو الذي يقبض ويبسط ، إن شاء أغنى وأقنى[4] وإن شاء قبض المال وحلّ الفقر ــ ولا يظلم ربك أحدا ــ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  }[ التوبة: 28]
وقد كان . فقد أسلم العرب وجاءوا إلى الحج ببضائعهم وتجارتهم مسلمين ، وأُخذت خزائن الفرس ، وذُلَّتْ الروم ودفعت الجزية فكان مصدر ُ  رزق وسيع لعباد الله الذين آمنوا بالغيب واتبعوا ما أمرهم الله به .
 
وقد فهم أبو بكر الصديق الدرس ، فلم تُرهبه العرب حين ارتدت جميعها إلا قريتين أو ثلاث ، ولم يجلس يحسب ما عندهم من عدد وعتاد وما عند المسلمين من عدد وعتاد ويبحث عن حلول استراتيجية ... ( ذكية ) للخروج من الورطة  ، بل قالها صريحة مدوية  "  وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ "[5]
 
لم يصغ لأقوال ( العقلانيين ) بل قاتل بمن أطاعه من عصاه . متبعا سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ . ولم يمض عامين إلا والمسلمون في المدائن وعلى أبواب أوروبا ، وأفريقيا . وحقا (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[ التوبة : 14].
 
إن أجندة الإسلام لا تحمل سوى شيئا واحدا وهو تعبيد الناس لله ، حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله ، هذا كل ما نعرفه . وكيف سيتم إدارة  شئون العباد والبلاد فيما بعد ؟ تنبثق كلها من العقيدة وهي فروع على ثوابت محكمات في شريعتنا . والمنهج الذي جعل الأميين يقودون العالم ويؤسسون أعظم دولة في التاريخ يجعل نسلهم اليوم يفعلون فعالهم ، فالمنهج واحد إن وجد من يحمله .
 
ولكنها عقول كبلتها أغلال الثقافات الغربية  . وليتها تدبرت وتأملت في سيرة نبيها وفي مسيرة دينها عبر التاريخ .
 

-----------------------
[1] انظر تفسير الطبري للآية الثانية من سورة التوبة .
[2] راجع ــ إن شئت ـ تفسير القرطبي للآية 14 من سورة التوبة .
[3] مسلم . كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها / 5109 ، ويثلغوا رأسي أي أَيْ : يَشْدَخُوهُ وَيَشُجُّوهُ , كَمَا يُشْدَخ الْخُبْز , أَيْ : يُكْسَر . وقوله تعالى : { وَاغْزُهُمْ نُغْزِك } بضم النون  أَيْ : نُعِينك . راجع ــ إن شئت ـــ شرح النووي للحديث .
[4] أقنى تعني وفرة المال مع عدم الحاجة لبيعه ، أي يقيم عند صاحبه ، وهذا من تمام النعمة . 
[5] البخاري . كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / 6741، واللفظ له ، وعند مسلم كتاب الإيمان / 29 وغيرهما .

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية