اطبع هذه الصفحة


قراءة العقول

محمد جلال القصاص


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه . اللهم لا حول ولا قوة إلا بك .

مقدمة :

قراءة العقول وفهم الدوافع والخلفيات التي ينطلق منها المتكلم وكذا الأهداف التي يرمي إليها أمر في غاية الأهمية ، فأقل ما فيه هو أنه يجنبك إصدار حكم ظالم على من وقع في ذلل ، أو قبول من نطق بالحق مصادفة أو لغرض ما .

وهذا الأمر مشاهد بين المنتسبين للعمل الإسلامي اليوم ، فكثيرون يستمسكون بخطأ فرد معين ـــ أو جماعة ـــ في مسألة من مسائل العقيدة ويشتدون في ذلك ، ولا يرون للشخص ــ أو الجماعة إلا هذا الخطأ ، علما بأنهم لو أخذوا هذا الفرد ــ أو هذه الجماعة ــ بكليته لتَغيرَ قولهم ، وكثيرون على النقيض يقبلون المغرضين كونهم تكلموا مرة ـــ في مقال أو لقاء ــ بكلام حسن مقبول .!
وكله ميل وانحراف . وحسبك بهذا سببا لتهتم بقراء العقول وفهم الدوافع والخلفيات .

وإذا عرفت المرض وعرفت أعراضه التي تبدوا على المصاب به ، سهل عليك أن تعرف المريض من أعراض المرض الخارجية التي تبدوا عليه في كتاباته أو محاضراته أو فتاويه .

وبحول الله وقوته أحاول أن أعرض حالة ( العقلانيون ) كنموذج لضرورة فهم خلفية المتكلم ومعرفة دوافعه وأهدافه .

أقول : كثير من دعاة الفكر الشاذ المنحرف ـــ بإفراط أو تفريط ـــ أذكياء أعطاهم الله قدرة على البيان والمجادلة مع قلة في العلم .
ومَن هذا حاله تعظم عنده نفسه في الغالب ، ويتعامل من منطلق أنه يعرف كل شيء ، وأن العلم عنده كاملا غير منقوص ، فحين يُستفتى في شيء يُفتي بما عنده ــ وهو قليل لا يصلح للفتوى أصلا ــ ولا يرجع إلى العلماء الراسخين ليستبين منهم ، بل ربما يتهمهم ويُشَكِكْ في علمهم إن خالف رأيه حقهم .

تجده قد تصدر للفتوى والتوجيه في القضايا المصيرية ؛ ولو أنصف نفسه من نفسه لأمسك قلما وقرطاسا وتربع بين يدي العلماء . . . يسمع ويذاكر .

وحتى يتضح المقال أضرب الأمثال .

الجهم بن صفوان نموذجا لهذه النوعية من الضالين .
كان ذكيا لسنا مجادلا ... مجبولا على الاعتراض والمراء ــ هذه كل ثروته ــ لم يكن يُعرف بعباده حتى قيل أنه لم يحج البيت ، ولم يكن يجلس إلى العلماء بل إلى أصحاب البدع والمتفلسفة من الكفرة .

اتصل ذات يوم بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: "السمنية" وراح يجادلهم وهـو صِفْرٌ من العلم معتمدا فقط على عقله.
وابتدئوا الكلام معه بالسؤال عن مصدر المعرفة (وهي أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر عندهم) وكانت فلسفتهم تـقوم على أن المصدر للمعرفة هو الحواس الخمس.

ونحن نقول أن المصدر اليقيني في المعرفة هو الوحي، وصدق الخبر نستدل عليه بصدق المُخْبر إنْ كتابا وإنْ سنة، ونقول أن الحواس لا تدرك الأشياء على حقيقتها أحيانا بل غالبا، فللعين مدى في الرؤيا لا تتجاوزه، وللأذن مدى في السمع لا تتجاوزه... وهكذا ، وقد يبدوا للعين الشيء على غير حقيقته كما في ظاهرة السراب ، والنجوم في السماء فمما يقال أن ما نراه في السماء بأعيننا ارتحل منذ خمسين عاما . !!
والعلم التجريبي نظريات يكذب بعضها بعضا، فنظريات اليوم تعدل أو تكذب نظريات الأمس، في الكمياء وفي الصيدلة وفي الطب وفي الفلك... الخ. فكيف نضع ثقتنا في من يتغير كلامه أو يتعدل ؟!
ولما كان الجهم جاهلا سلم لهم بأصلهم الفاسد هذا، فسألوه سؤالا آخر مبنيا على هذا الأصل ، وهو : صف لنا ربك يا جهم؟ بأي حاسة أدركـتـه من الحواس، أرأيته أم لمسته - أم سمعته … الخ؟!
وسقـط في يد هـذا الضال المسكين ــ كما يقول الدكتور سفر الحوالي في الإرجاء ــ، وطـلـب منهم مهلة ليفكر في الأمر .
ولم يستطع أن يستـلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويـلـقـنوه. بل راح يبحث في عقله عن جواب ... وأنى !
وقادتـه الحيرة إلى الشك في دينه، فـتـرك الصلاة مدة، ثم استـغـرق في التـفكيـر والتأمل، حتى انـقـدح في ذهـنه جوابا خرج بـه عليهم قائلا: " هـو هـذا الهـواء مع كـل شيء وفي كـل شيء ولا يخـلو من شيء ". وهـذا الجواب الذي هـو أساس نـفي الصفات. فمن يبحث يجد أن نفي الصفات هو من قول طائفـة من زنادقة الهند .

ثم خطا الجهم خطوة أخرى وهي أنه نصَّب نفسه عالما وراح يُدلي بدلوه في القضايا التي كان الجدال محتدما حولها ومنها قضية الإيمان، واعتمادا على عقله أخذ يفكر ثم خرج بما قاله في الإيمان، وهو أن الإيمان المعرفة والكفر هو الجهل، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح ــ على حد قول الجهم وهو مخطأ ــ.
ثم خطا جهم خطوة أخرى أسوء من هذا كله، وهي أنه تعصب لمذهبه ، وأخذ يبحث في الشاذ والغريب من أقول العلماء، ولوازم الأقوال ليثبت مذهبه.

فهاتان خطوتان رئيستان:


الأولى: التكلم عن جهل، أو أن يعتقد الرجل أن العلم كله عنده فحين يُسأل يجيب بما عنده وهو قليل ولا يراجع أهل العلم، أو يعتمد على عقلة ويُنشأ أقيسه مَغْلوطة.
والثانية : وهي التعصب لهذا الرأي المنبثق أساسا من الجهل. ويذهب صاحبة للنصوص الشرعية ليحملها على القول بهذا الباطل.
وواصل بن عطاء ورؤوس علم الكلام وكذا الفلاسفة ، وكثير من المعاصرين الذين يدّعون ( العقلانية ) و ( الحداثة ) ، ليسوا ببعيدين عن هذا التشخيص .

ووجه الشبه بين هؤلاء جميعا ــ مع اختلاف ما يخرج منهم من دعاوى ــ هو : قلة العلم الشرعي مع القناعة الداخلية عند الشخص بأنه ليس في حاجة أن يراجع قبل الفتوى أو حين التفكير في أمر ما .
فتجد اليوم مثلا من يتصدر لقضايا الأمة المصيرية وهو لا يستطيع أن يقرأ كتاب الله بصورة صحيحة ، ولا يحفظ كثيرا ولا قليلا من سنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ، ومع ذلك يتكلم في الولاء والبراء ، وأحكام الديار ، ومصادر الأدلة ... الخ مما أحسب أنه لا يفهمه إن شُرح له .
ويقع نفر ممن نحسن الظن بهم في شيء من هذا ــ وأرجو أن تتسع الصدور فما أردت إلا الخير ـــ فمثلا شيخٌ ما . . . ممن لا نعلم عنه إلا الخير ــ ولا أعني أحدا بعينه علم الله ــ يشتهر بالكلام في الوعظ أو الأدب أو في فرع ما من فروع العلم ، ويكون فيه متخصصا ثم بعد أن يشتهر ويعرفه الناس ، يتصدر للكلام في غير تخصصه ، ويزدادُ الطين بله إذا ركب رأسه وتعصب لرأيه .
وهؤلاء بالتأكيد ليسوا مُضلين ، بل هم كرام أفاضل ، ولكن هو نوع من الخطأ يشترك في أُسِّه مع خطأ هذا النوع من المضلين الذي أتكلم عنه لذا وجب التنبيه عليه هنا . و " الدين النصيحة ".

الحالة الثانية : التوفيقيون .

حدث أن تأثر الفكر الإسلامي عدة مرات بالأفكار الوافدة عليه ، حين قوته في العصور الأولى ، وحين ضعفه في العصور المتأخرة مع الموجة الثانية من الحملات الصليبية المسماة تاريخيا بالاستعمار الأوربي للعالم الإسلامي .

في العصور الأولى حين التقى الفكر الإسلامي بالفكر الفلسفي الشرقي ـ اليوناني ـ خرج التوفيقيون علينا وحاولوا التوفيق بين الفلسفة والفكر الإسلامي وانتهى الأمر بما عرف بعلم الكلام ، والفلسفة الإسلامية .
وفي العصر الحديث ــ بعد أن اجتاح الصليبيون البلاد الإسلامية فيما عرف بالاستعمار الأوربي للعالم الإسلامي ــ برز فريق من المنهزمين للذّود عن الدين والنهوض بالأمة.. نهضوا بروح منهزمة منبهرة بعدوها، فالتفتوا إلى عدوهم ينظرون حاله.. ثم التفوا حول النصوص وحملوها وساروا بها على هوى الغرب تارة وعلى هوى الشرق تارة أخرى.

هالَهم هجوم الغرب الكافر والشرق الملحد على شرائع الإسلام وشعائره فراحوا يعيدون قراءة الدين من جديد كي يستقيم ومفاهيم القوم، وواضح هذا جدا في كتابات رفاعة الطهطاوي حيث قارن بين الدستور الفرنسي وقواعد الأحكام الشرعية عندنا وقال: إنهما سواء! ؛ وليسوا سواء .
وقارن بين الولاء والبراء عندنا وحب الوطن عند القوم وقال: إنهما سواء ؛ وليسوا سواء . ... الخ ما كتبه في رسائله.
ومن بعده جاء من (المنهزمين) من قال بأن الاشتراكية من الإسلام. وأن أول اشتراكيي عرفه التاريخ كان من الصحابة رضوان الله عليهم ـ يعني أبا ذر رضي الله عنه!! ــ وقال بوحدة الأديان وتكاملها!!
وكله جهل وكذب
ثم جاء من رفع راية الإصلاح، وصاحبَ المحتل، وأحل الربا في شكل صناديق التوفير، وأباح التشبه بالكفار في الفتوى الترنسفالية المشهورة، وهاجم الأزهر. وساهم في إنشاء جمعية مشبوهة للحوار بين الأديان،كل هذا بدعوى الإصلاح.
ثم في العقود الوسطى من القرن العشرين جاء بعض المنهزمين.. المنبهرين وعمد إلى كتاب الله يفسره بما يتفق مع (العلم الحديث) فزعم أن الطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل هي الطاعون، وأن آية الدم التي أرسلت على فرعون وقومه هي البلهارسيا!!
وبعد ما عرف تاريخيا بحقبة الثورات وظهور (القومية العربية) عاد المنهزمون ثانية ليكتبوا عن (اشتراكية الإسلام) وأن (الوطنية) من الإسلام.!!
وهم اليوم كُثر. وفقط أريد تشخيص الداء ولا يعنيني الأشخاص في هذا المقام.
قضيتهم الأولى هي تحسين صورة الإسلام أمام (الآخر) و(تيسير) الأحكام الشرعية ليتقبلها الناس، وذلك بتبني خطاب (ليبرالي) يتماشى ومتطلبات العصر بزعمهم، .
ولم أقصد هنا تتبع الخط التاريخي لهذا الفكر، وإنما أردت أن أشخص هذه الحالة لعلاجها أو كشفها ومن ثم عزلها.إن أبت تناول العلاج.
أنا لا أتكلم عن علماء السلطان، ولا مثقفي البلاط الذين يبحثون عن لقمة عيشهم في التحليل والتحريم بالتأويل للسلطان وتنتهي صلاحيتهم بمجرد خروجهم من البِلاط، وإنما عنيت من تصدوا لتوجيه الأمة وترشيدها بزعمهم. وظهروا للناس بمظهر الناصح الأمين ، وظني أنهم صادقون ، ولكن كم من مريد للخير لا يبلغه .
هي نفوس تريد الإصلاح وتريد الخير للأمة ـ كما يبدوا لي من تتبع أحوالهم ـــ إلا أنها نظرت إلى حال الأمة الإسلامية اليوم وكيف وهَنُهَا وانحرافها، ونظرت إلى حال العدو وكيف قوته وتقدمه المادي فراحت تقرب وتألف وتخط طريقا وسطا بين الطريقين.
وفي كل الأحوال فإن هذا الطريق الجديد ليس هو صراط الله المستقيم. إذ أن (حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق) .
وقل نفس الكلام على كتاب الصحف والمجلات اليوم الذين يدعون الاعتدال في الطرح فيتخذون خطا بين الصحوة والعلمانيين مدعين الاعتدال والحرص على مصلحة الناس، و ( العقلانية ) و ( الليبرالية الإسلامية ) . .. الخ.
وقل مثل هذا على التجمعات (أو الجماعات) العاملة في مجال الدعوة التي تمسك العصى من المنتصف بدعوى السياسة والكياسة... الخ.
أقول قد تكفي حسن النية لرفع العقوبة أو تخفيفها عن الفاعل، ولكنها لا تكفي أبدا لتبرير الخطأ وتمريره، فإذا سلمنا ـــ جدلا ـــ أن الأشخاص معذورون، وأنهم كانوا يريدون الخير لأمتهم فهذا لا يعني أبدا تحسين فعالهم، فمهما قيل من تأويلات فليس هناك ما يسمح لنا بزحزحة الشريعة ليتقبلها (الآخر) ويرضى عنا، وليس لنا أصلا أن ننظر للآخر ونرى ما يريد ثم ننظر للدين فهذا منطلق أهل الهوى . مهما قيل فليس لنا أن نُعْمِل مِشْرَط التأويل لتجميل الدين كي يتقبله المتفلتون من التكاليف المنشغلون بدنياهم.
وليس لنا أن ننزل على النصوص ونفهمها من تلقاء أنفسنا، فنحن ملزمون ليس فقط بالوحيين ــ القرآن والسنة ـــ وإنما أيضا بما فهمه الصحابة من الخطاب القرآني. " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا "
وهذا النوع لا يقل خطورة عن النوع الأول ــ العقلانيين ــ، بل هو أشد خطرا منه، لأنه يرفع شعارات براقة تخدع العامة، ويدّعي التسامح والرفق بالناس. وهو في حقيقة الأمر يعدل المفاهيم الإسلامية نزولا على رغبة الجماهير أو استرضاءً للغير أو هروبا من تكاليف لا يحصيها لكسله وخوره، وهو خطير لأنه يتكلم من الداخل، والرد عليه يبدوا عند كثيرين نوع من (التشدد) والانشغال بالداخل على حساب الخارج.
لا أريد الاسترسال ، فقط أردت لفت النظر إلى قراءة العقول وفهم الدوافع والخلفيات . والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي ، وأن ينفع بها .

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية