اطبع هذه الصفحة


منهج الاشاعرة في الاستدالال في مسائل العقيدة

عبدالله بن فهد الخليفي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد :

فإن مما ينبغي عند دراسة عقائد أي فرقة النظر في منهجها في الإستدلال وساعتئذِ سيعرف الباحث قربهم وبعدهم من أهل السنة ، ويعرف أيضاً سبب تورطهم ببعض المقالات وكيفية الرد عليهم


ومن العجائب في هذا العصر دعوى بعضهم أن الأشاعرة من أهل السنة مع مباينتهم لمنهج أهل السنة في الإستدلال ، وياليت شعري كيف نتفق مع تبايننا معهم في المنهج في الإستدلال وهذا المقال لإظهار هذا التباين


أولاً : اعتبارهم علم الكلام الأصل في معرفة العقائد

الأشاعرة يعترفون بأنهم فرقة كلامية فتجدهم يقولون في تراجم علمائهم :" المتكلم على مذهب الأشعري "

قال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (7/44) :" زيد بن نصر بن تميم الحموي
فقيه متكلم على مذهب الأشعري وقد ولى حسبة دمشق ومصر"

فما هو علم الكلام ؟

قال ابن خلدون في مقدمته ص458 :" علم الكلام علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية "

قلت : فعلم الكلام علمٌ عقلي بحت فعمدتهم في تقرير عقائدهم هو ( العقل ) فلا كبير عبرةٍ عندهم بالنصوص وهذا يظهر لمن طالع كتبهم ، فإنك إن طالعت كتبهم لرأيت الكلام في الجواهر والأعراض وغيرها من الكلاميات التي تصيبك بالصداع

والعجيب أن جماعةً منهم أوجبوا على المسلمين إقامة الأدلة العقلية على العقائد الإيمانية وسموا من لا يفعل ذلك ( مقلداً ) ثم اختلفوا في إسلام المقلد وقد شرحت ذلك في مقال مستقل بعنوان ( الغلو في التكفير عند الأشاعرة )


قال أبو إسماعيل الأنصاري في ذم الكلام ( 5/140) واصفاً حال الأشاعرة :" وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف "

قلت : هذا مع اعتراف أفاضلهم بأن العامة لا يفهمون عقائدهم


قال في الإحياء (4 / 434) : " أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الاقطار والجهات وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل به ولا هو منفصل عنه ، قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته "

وقال العز بن عبد السلام قوله في القواعد ص (201) (( أن من جملة العقائد التي لا تستطيع العامة فهمها هو أنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا منفصل عن العالم ولا متصل به ))



ولو كانت عقيدتهم مستقاة من الكتاب والسنة لفهمها العامة

قال الله تعالى :" ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر "

وذهب العز بن عبد السلام إلى أبعد من هذا فنسب بعض الصحابة إلى التجسيم واعترف بأن التجسيم مما تعم به البلوى ، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أن الأشاعرة أكثر الأمة وهل تفهم الأمة عقائدهم حتى تعتقدها ؟!!

قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ( 1/202 ):" وكل ذلك مما لايمكن تصويب للمجتهدين فيه بل الحق مع واحد منهم , والباقون مخطئون خطأ معفوا عنهلمشقة الخروج منه والانفكاك عنه , ولا سيما قول معتقد الجهة فإن اعتقاد موجود ليسبمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به , ولا داخل فيه ولا خارج عنه لايهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة , ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد الوقوف علىأدلة صعبة المدرك عسرة الفهم فلأجل هذه المشقة عفا الله عنها في حق العامي ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يلزم أحدا ممن أسلم على البحث عن ذلك بل كان يقرهم على ما يعلم أنه لا انفكاك لهم عنه, وما زال الخلفاء الراشدون والعلماء المهتدون يقرون على ذلك مع علمهمبأن العامة لم يقفوا على الحق فيه ولم يهتدوا إليه, وأجرواعليهم أحكام الإسلام من جواز المناكحات والتوارث والصلاة عليهم إذا ماتواوتغسيلهم وتكفينهم وحملهم ودفنهم في مقابر المسلمين , ولولا أن الله قد سامحهم بذلكوعفا عنه لعسر الانفصال منه ولما أجريت عليهم أحكام المسلمين بإجماع المسلمين , ومنزعم أن الإله يحل في شيء من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافرلأن الشرع إنما عفاعن المجسمة لغلبة التجسم على الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة بخلاف الحلولفإنه لا يعم الابتلاء به ولا يخطر على قلب عاقل ولا يعفى عنه"

وقد تواتر عن أئمة السلف ذم علم الكلام ومن أشهر من ورد عنه ذلك الإمام أحمد والإمام الشافعي ،

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/29)
:" وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الكَلاَمِ، حُكْمُ عُمَرَ فِي صَبِيْغٍ.
الزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ: سَمِعْنَا الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الكَلاَمِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالجَرِيْدِ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الإِبِلِ، وَيُطَافُ بِهِم فِي العَشَائِرِ، يُنَادَى عَلَيْهِم: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الكَلاَمِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَشْعَرِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَذْهَبِي فِي أَهْلِ الكَلاَمِ تَقْنِيعُ رُؤُوْسِهِم بِالسِّيَاطِ، وَتَشْرِيدُهُمْ فِي البِلاَدِ.
قُلْتُ: لَعَلَّ هَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنِ الإِمَامِ" ، وأما أحمد فكلامه فكثير وأشهر من أن يذكر


وقد حاول الأشاعرة الخروج من هذا المأزق بتقسيم علم الكلام إلى سني وبدعي


ويجابون على قولهم بأن الأئمة أطلقوا القول بذم علم الكلام ولم يفصلوا وتخصيص كلامهم لا يكون إلا بكلامهم لا بأهواء الأشاعرة بل إن الأئمة نصصوا على الإكتفاء بالكتاب والسنة في العقيدة وعلم الكلام علمٌ عقلي بحت باعتراف القوم


ثم هل تكلم الأئمة هم في علم الكلام السني الذي تزعمونه وقرروا عقائدكم ؟

الجواب : لا ، ومع ما تواتر عن الإمام الشافعي من ذم علم الكلام لم يستح عبد القاهر البغدادي الأشعري من نسبة الشافعي إلى المتكلمين في كتابه الفرق بين الفرق ص363

فإن قلت : نجد في كلام بعض الأئمة الإستدلال بالأدلة العقلية على إثبات بعض العقائد

قلنا : هذا إنما يقع على سبيل الإلزام لا على سبيل الإعتماد كما يحتج المحتج بنصوص الكتاب المقدس على النصارى وبنصوص الكافي على الرافضة

وأخيراً يطيب لي نقل ما رواه أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام ( 4/393) عن أبي سهل الإسفراييني أن رجلاً قال له :" إنما أتعلم الكلام لأعرف به الدين ، فغضب أبو سهل وقال : أوكان السلف من علمائنا كفاراً "


ثانياً : اعتبارهم للنصوص موهمةً للتشبيه

مما يشتهر عند الأشاعرة بيت اللقاني في جوهرته التي أسماها جوهرة التوحيد

وكل نصٍ أوهم التشبيها *** فأوله أو فوضه ورم تنزيها

قلت : فاعتبر أدلة الكتاب والسنة المتكاثرة على إثبات الصفات موهمةً للكفر الصريح الذي هو التشبيه ، فهذا هو قدر النصوص عندهم !!

والتنزيه والتوحيد في علم الكلام !! والله المستعان

فالقرآن الذي قال الله عز وجل فيه :" قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء " ، والسنة المفسرة للقرآن ظاهرهما يوهم التشبيه والله المستعان

وقد بلغت الوقاحة في الصاوي الأشعري إلى قال في حاشيته على تفسير الجلالين (3/9) :" الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر "


وقال أبو الحسن الآمدي في غاية المرام ص138:" واعلم أن هذه الظواهر وإن وقع الاغترار بها بحيث يقال بمدلولاتها ظاهر من جهة الوضع اللغوى والعرف الاصطلاحى فذلك لا محالة انخراط في سلك نظام التجسيم ودخول في طرف دائرة التشبيه وسنبين مافي ذلك من الضلال وفي طيه من المحال إن شاء الله"

قال سعيد فودة الأشعري المعاصر في "نقض التدمرية" (ص83): فهذه هي أصول الكفر على حسب ما وضحه الإمام السنوسي, وكلامه فيها في غاية الإتقان, وما يهمنا الكلام عليه ههنا هو الأصل الأخير, وهو التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة .. إلخ"

قال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في ذم الكلام (5/140) واصفاً حال الأشاعرة :" وسموا الإثبات تشبيهاً فعابوا القرآن وضللوا الرسول "

قلت : إي والله لقد ضللوا الرسول إذ نسبوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما ينزهون أنفسهم عنه من أنه قضى عمره يتكلم فيما ظاهره التجسيم والتشبيه ، وما بين للناس الإعتقاد السليم في رب العالمين إلا على سبيل الإجمال ، بل نسبوا له أنه أقر بعض الناس على التجسيم كما تقدم في كلام العز بن عبد السلام

ثالثاً: تنصيصهم على أن أخبار الآحاد تفيد الظن سواء احتفت القرائن به أو لم تحتف

نص جماعة من أساطين الأشاعرة على أن أخبار الآحاد تفيد الظن مطلقاً منهم الباقلاني في تمهيد الدلائل ص44 ، وعبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق ص325 ، وابن فورك في مشكل الحديث ص5 ، والرازي في أساس التقديس _ هذه النقول مستفادة من كتاب موقف المتكلمين من الإستدلال بالنصوص للغصن _

رابعاً : تنصيصهم على أن أخبار الآحاد لا تصلح للإحتجاج في مسائل الإعتقاد

قال الجويني في الإرشاد ص161 :" وأما الأحاديث التي يتمسكون بها ، فآحاد لا تفضي إلى العلم ، ولو أضربنا عن جميعها كان سائغاً "

قلت : هذا قدر السنة عند القوم ومع ذلك يأتي من يجعلهم أهل سنة ، ولا أدري أي سنة يقصد هذه التي لو ضرب عنها الجويني صفحاً لكان سائغاً !!

ونصر القول برد أخبار الآحاد في العقيدة الرازي في أساس التقديس ص215 ومن المعاصرين البوطي في كبرى اليقينيات ص35

وقال التفتازاني الماتردي في شرح النسفية ص138 :" إن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط المذكورة في أصول الفقه ، لا يفيد إلا الظن ولا عبرة بالظن في باب الإعتقادات "

وقال الملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر :" فإنأخبار الآحاد لا تفيد الإعتماد في الإعتقاد " _ هذان النقلان مستفادان من كتاب عداء الماتردية للعقيدة السلفية للأفغاني _


فهذا قدر الأحاديث عند القوم ، لا تفيد إلا الظن ولا يحتج بها في مسائل العقيدة وما ثبت من النصوص وكان حجة من جهة النقل فإن ظاهره يفيد التشبيه أو التجسيم فيجب فيه التأويل أو التفويض والله المستعان


وقد نتج عن هذا المنهج الفاسد إعراض أساطين الأشاعرة عن التعمق بدراسة الحديث وعلوم السنة

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (3/99) واصفاً حال أبي المعالي الجويني :" وكان قليل الرواية معرضاً عن الحديث "

وقال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (6/ 249) :" والغزالي معترفٌ بأنه لم تكن له في الحديث يدٌ باسطة "

ولي مقال في بيان مخالفة الأشاعرة لسبيل في مسألة أخبار الآحاد بعنوان ( احتجاج السلف بأخبار الآحاد في مسائل الإعتقاد ) من أراده فليراجعه ، فالمراد هنا بيان التباين المنهجي في الإستدلال في مسائل الإعتقاد بين أهل السنة والأشاعرة

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 


 

عبدالله الخليفي
  • مقالات
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية