اطبع هذه الصفحة


نقد الفهم الخلفي للعلم الشرعي

عبدالله بن فهد الخليفي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
 أما بعد :

فهذه كلمات في بيان معنى العلم الشرعي بالفهم السلفي وبيان ما يناقض ذلك أو ينغص بهاءه مما أحدثه الخلوف , وسأجعل كلامي مبنياً على بيان أسس مهمة في حقيقة العلم الشرعي عند السلف .


الأساس الأول :  العلم هو العمل .

قال الله تعالى
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }

أقول :
فمن لم يخشَ الله لم يكن عالماً , ولا تتم خشيته إلا بمعرفته سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته , ولا سبيل إلى ذلك إلا بدراسة العقيدة السلفية المستقاة من الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة . قال الترمذي  [ 2247 ]: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ سَعِيدٍ الطَّائِيِّ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ .
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
أقول :
فسمى العمل بالعلم علماً فتأمل .

قال عبد الله بن أحمد
[ في زوائد الزهد ص 327 ] : حدثنا يوسف بن يعقوب أبو يعقوب الصفار مولى بني أمية حدثنا أبو أسامة عن سفيان عن عمران القصير قال : جاء رجل إلى الحسن فسأله عن مسائل فأجابه فقال يا أبا سعيد إن الفقهاء يقولون كذا وكذا فقال له الحسن : وهل رأيت بعينك فقيهاً ؟ إنما الفقيه الزاهد فالدنيا الراغب في الآخرة البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه .

أقول :
إسناده صحيح وقد غلط محقق رسالة بيان فضل علم السلف على علم الخلف الأستاذ محمد بن ناصر العجمي حيث عزا هذا الأثر إلى الزهد لأحمد وإنما هو في زوائد ابنه عليه كما ترى وليس من الأصل الذي صنفه الإمام .

وقال الشاطبي في
[ الموافقات 1/ 103ط دار ابن عفان وإليها العزو في بقية المقال ]:" فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون ، وإذا لم يكونوا كذلك ، فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم ، وإنما هم رواة - والفقه فيما رووا أمرٌ آخر - أو ممن غلب عليهم هوىً غطى على القلوب والعياذ بالله , على أن المثابرة على طلب العلم ، والتفقه فيه ، وعدم الإجتزاء باليسير منه ، يجر إلى العمل ويلجيء إليه ، كما تقدم بيانه ، وهو معنى قول الحسن : - [ كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة ] "

قال شيخ الإسلام كما في
[ مجموع الفتاوى  14/290 ] " فَأَصْلُ مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِي السَّيِّئَاتِ : الْجَهْلُ ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا تَضُرُّهُمْ ضَرَرًا رَاجِحًا ، أَوْ ظَنُّ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ نَفْعًا رَاجِحًا . وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " وَفَسَّرُوا بِذَلِك قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } كَقَوْلِهِ { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَلِهَذَا يُسَمَّى حَالُ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ : الْجَاهِلِيَّةَ . فَإِنَّهُ يُصَاحِبُهَا حَالٌ مِنْ حَالٍ جَاهِلِيَّةٍ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ؟ { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } فَقَالُوا : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ . وَمَنْ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ : فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . وَعَنْ قتادة قَالَ " أَجْمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ فِي جَهَالَةٍ ، عَمْدًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " وَكَذَلِك قَالَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . قَالَ مُجَاهَدٌ : مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا - مِنْ شَيْخٍ ، أَوْ شَابٍّ - فَهُوَ بِجَهَالَةٍ . وَقَالَ : مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ . حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ . وَقَالَ أَيْضًا : هُوَ إعْطَاءُ الْجَهَالَةِ الْعَمْد . وَقَالَ مُجَاهَدٌ أَيْضًا : مَنْ عَمِلَ سُوءًا خَطَأً ، أَوْ إثْمًا عَمْدًا : فَهُوَ جَاهِلٌ . حَتَّى يَنْزِعَ مِنْهُ . رَوَاهُنَّ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ . ثُمَّ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ قتادة ، وَعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَنَحْوِ ذَلِك " خَطَأٌ ، أَوْ عَمْدًا " . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهَدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالَا : لَيْسَ مِنْ جَهَالَتِهِ أَنْ لَا يَعْلَمَ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا . وَلَكِنْ مِنْ جَهَالَتِهِ : حِينَ دَخَلَ فِيهِ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَعْلَمُوا مَا لَهُمْ مِمَّا عَلَيْهِمْ . قِيلَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا ؟ قَالَ : فَلْيَخْرُجُوا مِنْهَا . فَإِنَّهَا جَهَالَةٌ . قُلْت : وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِك : قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَكُلُّ مَنْ خَشِيَهُ ، وَأَطَاعَهُ ، وَتَرَكَ مَعْصِيَتَهُ : فَهُوَ عَالِمٌ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ : أَيُّهَا الْعَالِمُ . فَقَالَ : إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ . قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ . فَإِنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ . وَيَقْتَضِي أَيْضًا : أَنَّ الْعَالِمَ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ . كَمَا قَالَ السَّلَفُ . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا ، وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا " . انتهى كلامه رحمه الله

أقول :
بناءً على ما تقدم نقول أن أجهل أهل القبلة أهل البدع لأنهم واقعون في البدع التي هي شر من المعاصي الشهوانية شعروا أو لم يشعروا, وأعلم الناس هم أهل الإستقامة من أهل السنة ولا سبيل إلى نيل هذه الرتبة إلا بتعلم العلم الذي يعرف به الخير من الشر والسنة من البدعة , ثم العمل بذلك ولهذا فضلوا ضعيف الحديث على صاحب الرأي لسلامة منهجه .

قال عبد الله بن أحمد في مسائله  
[مسألة رقم 1585 ص 438ط المكتب الإسلامي ] :"  سألت أبي عن : الرجل يريد أن يسأل عن الشيء من أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره , وفي مصره من أصحاب الرأي , ومن أصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوي فلمن يسأل ؟ لأصحاب الرأي أو لهؤلاء ؟ - أعني أصحاب الحديث , على ما قد كان من قلة معرفتهم - ؟
قال : يسأل أصحاب الحديث . لا يسأل أصحاب الرأي : ضعيف الحديث , خيرٌ من رأي أبي حنيفة .
"
ومن مظاهر الخلفية في فهم العلم الشرعي مدح بعض الناس للصمت مطلقاً , وربما اجتزأوا من الأخبار ما يوافق هواهم زاعمين أن ذلك هو الورع !


قال ابن عبد البر في
[ جامع بيان العلم وفضله : 1 / 375 ] :"  الكلام بالخير غنيمة , وهو أفضل من السكوت , لأنه أرفع ما في السكوت السلامة , والكلام بالخير غنيمة , وقد قالوا : من تكلم بخير غنم ومن سكت سلم . والكلام في العلم أفضل من الأعمال , وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل ووجه الله عز وجل والوقوف على حقيقة المعاني أخبرنا عبد الوارث ، نا قاسم ، نا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، نا مسلم بن إبراهيم ، نا هشام ، نا قتادة قال : « مكتوب في الحكمة : طوبى لعالم ناطق أو لباغ مستمع » " .

أقول :
والخبر الذي أسنده عن قتادة رواه الطبري في التفسير [4/203 ط دار الفكر ] كما أفاد المحقق وإسناده قوي .
وبإزاء هؤلاء قوم زعموا أن كثرة الكلام تدل على العلم والفضل ولهذا تجد بعضهم تكثر من المؤلفات وبعضهم تكثر من الدروس وغير ذلك من غير تمام أهلية .
ولا يكون كثير الكلام دليلاً على علمٍ أو فضلٍ حتى ينظر في حقيقة هذا الكلام فإن كان حقاً وتحقيقاً كان دالاً على علمه وإن أمكنه الاستغناء بالقليل منه عن الكثير كان ذلك عياً منه إذا ما ركن إلى التكثير دونما حاجة , وإن كان إنما هو حكاية لعبارات الناس دونما تحقيق أو تدقيق أو اجتهادات فاسدة كان ذلك دالاً على جهل صاحبه وبعده عن العلم إذ من تمام علم المرء تركه للكلام فيما لا يحسن
.

وهذا من علمه إذ أن العمل هو غاية العلم وثمرته ومن ذلك عمله بقوله تعالى
{  وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
قال عفان بن مسلم في
[ حديثه  261 ] : " حدثنا بشر بن المفضل عن خالد الحذاء : كنا نأتي أبا قلابة فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث قال :- قد أكثرت . "
وقال أيضاً
[ 14 ] " حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس : أن بني أنس قالوا : ألا تحدثنا كما يحدث  
[
كذا ] غرباء الناس ؟ قال : فقال :- أي بني إنه من يكثر يهجر ."

أقول :
إسناده صحيح على شرط مسلم ، وقولهم [ يحدث غرباء الناس ] كذا في مطبوعة الدكتور حمزة الزين ولعل صوابه [ تحدث غرباء الناس ] ، وما أكثر من أكثر فهجر !
قال ابن عبد البر في
[ الجامع  1/288 ] : "ومن أدب العالم ترك الدعوى لما لا يحسنه , وترك الفخر بما يحسنه "

أقول :
مثال الفخر بما يحسن كفخر بعضهم بكثرة دروسه وربما افتخر بعضهم بكثرة الأعضاء في منتداه وإلى الله المشتكى من رجال عقولهم عقول الصبيان في أجساد الرجال وربما احتاج العالم لمثل ذلك لعلةٍ شرعية كمثل ثناء عثمان على نفسه يوم الدار وثناء ابن مسعود على نفسه بمعرفته للقرآن أو رده لبهتان نزل عليه كما لسعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة ولكنهم ما كانوا يفعلون ذلك بطراً للحق وغمطاً للناس وتعميةً للطلبة عن أغلاطه وسقطاته .

قال الآجري في
[ فرض العلم  50 ] : وفي [ أخلاق العلماء ص 81 ] : " حدثنا جعفر بن محمد الصندلي نا الفضل بن زياد , نا عبد الصمد بن يزيد سمعت الفضيل بن عياض يقول :- " إن الله عز وجل يحب العالم المتواضع , ويبغض العالم الجبار  ومن طلبه لله عز وجل ورثه الله عز وجل الحكمة " .

أقول :
والكبر المنافي للتواضع هو بطر الحق وغمط الناس فمن لم ينقد إلى الحق مع بيانه فهو متكبر , ولأهل الكبر حيل قبيحة يردون بها الحق ومن أدرجها هذه الأيام الطعن في شخص قائل الحق إذ لم يجدوا سبيلاً إلى الطعن في كلامه , فربما عيروه بما يعلمون من مسلك قديم له كأن يكون نشأ مع أهل الأهواء ولا ينبغي أن يعير بهذا بعدما رجع , وربما ثلبوهُ بما يصلح أن يكون منقبة له فإذا كان نابغاً وسابقاً لأقرانه قالوا : كيف يتكلم في كذا وكذا وأقرانه لا يفعلون ؟ ,  ويأتي الكلام على هذا مفصلاً تحت الأساس الثالث .

قال ابن أبي الدنيا في
[ التواضع 88 ] : " حدثنا محمد بن علي عن إبراهيم بن أشعث : سألت الفضيل بن عياض عن التواضع ؟ فقال : أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته , ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه ."

أقول :
أما المتكبرون اليوم  فيردون الحق بحجة أنه جاء ممن دونهم في العلم أو السن وربما قال بعضهم لا نقبل الردود إلا من عالم وحقيقة هذا أنه لا يقبل الحق إلا من مهاب وتتمة الكلام تأتي تحت الأساس الثالث .

قال ابن رجب في
[ فضل علم السلف على علم الخلف ] ص82 :" ومن علامات ذلك - يعني العلم غير النافع - عدم قبول الحق والانقياد إليه والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس. والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم واحتقارها على رؤوس الأشهاد ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون فيمدحون بذلك وهو من دقائق أبواب الرياء "

وقال أيضاً في
[ ص85 ] :" ومن علامات العلم النافع أن صاحبه لا يدعى العلم ولا يفخر به على أحد ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد.

وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأرداها.

وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها إحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيؤون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها
 "

ومن مظاهر الخلفية في فهم العلم الشرعي اشتغال بعضهم بتحسين الظاهر أكثر من إصلاح الباطن ، وبذلهم في ذلك الجهد الجهيد ، حتى إنك إذا رأيت أحدهم حسبت أنه من طلبة العلم المبرزين ، حتى إذا خاطبته علمت أنه ليس عنده من حال طلبة العلم إلا سمتهم وربما ازدروا من لم يعانِ معاناتهم في معالجة الظواهر على سنن أهل التصنع !
.

قال ابن عبد البر في
[  الجامع 1/291 ] : - " بلغني أن إسماعيل بن إسحاق قيل له لو ألفت كتاباً في أدب القضاء فقال وهل للقاضي أدب غير أدب الإسلام ثم قال إذا قضى القاضي بالحق فليقعد في مجلسه كيف شاء وبمد رجليه إن شاء "

وقال ابن أبي الدنيا في
[ الإخلاص والنية  38 ] "حدثنا خالد بن خداش حدثني مالك بن أنس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال : كان لا يعرف البر في عمر ولا ابن عمر حتى يقولا أو يعملا . "

أقول :
رجاله ثقات وعبيد الله أدرك ابن عمر ولم يدرك عمر فبعض الأثر صحيح وبعضه منقطع وهذه الحال التي حكاها عن الفاروق وابنه تعاكس تماماً حال كثيرٍ من الخلوف المنتسبين للعلم .

قال الإمام أحمد في
[ الزهد  ص320 ] : " حدثنا وكيع عن سفيان عن يونس عن الحسن قال : لقد أدركت أقواماً إن كان الرجل ليجلس مع القوم يرون أنه عيي وما به عي إنه لفقيه مسلم "
وقال ابن رجب في
[ فضل علم السلف على علم الخلف ص52- 53 ]:" وقال بعض السلف إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل.

وقال مالك
: أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم: يريد المسائل وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا ويقول يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا بهذر في كلامه وكان يكره الجواب في كثرة المسائل ويقول قال اللَهُ عز وجل {وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي } فلم يأته في ذلك جواب. وقيل له الرجل يكون عالماً بالسنن يجادل عنها ؟ قال لا ولكن يخبر بالسنة فان قبل منه وإلا سكت: وقال المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم وقال المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضعن: وكان يقول في المسائل التي يسئل عنها كثيراً لا أدري: وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.

وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل وعن المسائل قبل وقوع الحوادث وفي ذلك ما يطول ذكره: ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب : وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلا ولا عجزاً ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم ولكن حباً للكلام وقلة ورع
" انتهى كلامه رحمه الله تعالى

ومن مظاهر الخلفية في فهم العلم الشرعي , اعتقاد بعضهم أن ما ورد في فضل حملة القرآن يحصله من يحفظ حروفه فقط ولا يعرف معانيه , ولذلك تجدهم ينفقون الوقت الطويل ويفنون الأعمار في إقامة الحروف دون معرفة الحدود بل في ذلك مشابهون لأهل الكتاب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني يعني تلاوة , وقد كان الخوارج وهم شر قتلى تحت أديم السماء قد أقاموا حروفه وما أقاموا حدوده فتأمل
.

قال شيخ الإسلام كما في
[ مجموع الفتاوى  3/391 ] :" و " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " مَنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَلَمْ يُطِعْ أَمْرَهُ : كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً "

قال ابن القيم في مفتاح
[ دار السعادة  1/280ط دار ابن عفان ] : " ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها , وتعلم معانيه وتعليمها , وهو أشرف قسمي تعلمه وتعليمه , فإن المعنى هو المقصود , واللفظ وسيلة إليه , فتعلم المعنى وتعليمه الغاية وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه الوسيلة وبينهما كما بين الغايات والوسائل ". انتهى بتصرف يسير

ومن مظاهر الخلفية في فهم العلم الشرعي ، اشتغال بعضهم بعلوم الآلة دون تحقيق مقاصدها من إصلاح العلوم الأصلية ، وربما اشتغلوا ببعض بما لا طائل تحته من إدخالات المتكلمين وغيرهم ممن غلبت عليه العناية بالفضول دون الأصول مما لا ينبني عليه عمل وأما السلف لما كان مقصودهم عمل لم ينشغلوا بذلك انشغال كثيرٍ من الخلوف


قال الشاطبي في
[ الموافقات 1/ 112] :" تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها ، ولا يطلب التزامها ، كالأحاديث المسلسلة التي بها على وجوهٍ ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد ، فالتزمها المتأخرون بالقصد ، فصار تحملها على ذلك القصد تحرياً له ، بحيث يتعنى في استخراجها ، ويبحث عنها بخصوصها مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل ، وإن صاحبها عمل "

ثم قال :-
:" فطلب مثل هذا من فضول العلم لا من صلبه "

أقول
: وقد نقل السيوطي في تدريب الراوي أبياتاً حسنةً في وصف حال هذا الضرب من الناس

فمنها قوله :

 ومحدثٌ قد صار غاية همه *** أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانةٌ تروي حديثاً عالياً
*** وفلان يروي ذاك عن أسباط
والفرق بين عزيزهم وغريبهم
*** وافصح عن الخياط والحناط

إلى أن قال :

وعلوم دين الله نادت جهرةً *** هذا زمان فيه طي بساط

ولما ارتكز في ضمائرهم ، أن طلب العلم للعمل لم يملوا منه وثابروا عليه ، ولم يكتفوا منه بقدر كما فعل كثيرٌ من الخلوف ممن قنعوا بالألقاب العصرية التي يرمز لها بالأحرف التي تسبق أسماءهم ، فكان ذلك مدخلاً شيطانياً عليهم لترك الجد في الطلب إذ بلغوا ما يريدون من النوايا غير المشروعة ، وليس كل حملة الألقاب كذلك.

قال ابن القيم في
[ مفتاح دار السعادة /281 ط دار ابن عفان ] :" الوجه السادس والخمسون ما رواه الترمذي وغيره في نسخة عمرو ابن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وهذه نسخة معروفة رواها الناس وساق أحمد في المسند أكثرها أو كثيراً منها ولهذا الحديث شواهد فجعل النبي صلى الله عليه وسلم النهمة في العلم وعدم الشبع منه من لوازم الإيمان وأوصاف المؤمنين واخبر أن هذا لا يزال دأب المؤمن حتى دخوله الجنة ولهذا كان أئمة الإسلام إذا قيل لأحدهم إلى متى تطلب العلم ؟ فيقول إلى الممات قال نعيم بن حماد سمعت عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يقول وقد عابه قوم في كثرة طلبه للحديث فقالوا له إلى متى تسمع قال إلى الممات وقال الحسين بن منصور الخصاص قلت لأحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى متى يكتب الرجل الحديث قال إلى الموت وقال عبد الله بن محمد البغوي سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول إنما اطلب العلم إلى أن ادخل القبر وقال محمد بن إسماعيل الصائغ كنت أصوغ مع أبي ببغداد فمر بنا احمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في يديه فأخذ أبي بمجامع ثوبه فقال يا أبا عبد الله ألا تستحي إلى متى تعدو مع هؤلاء قال إلى الموت وقال عبد الله بن بشر الطالقاني أرجو أن يأتيني أمر ربي والمحبرة بين يدي ولم يفارقني العلم والمحبرة وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري جاء ابن بسطام الحافظ يسألني عن الحديث فقلت له ما اشد حرصك على الحديث فقال أو ما أحب أن أكون في قطار آل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل لبعض العلماء متى يحسن بالمرء أن يتعلم قال ما حسنت به الحياة وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة أيحسن أن يطلب العلم قال إن كان يحسن به أن يعيش " انتهى كلامه رحمه الله تعالى

قال ابن عبد البر في الجامع
:" ورأيت في كتاب جامع القرآن لأبي بكر بن مجاهد رحمه الله قال حدثنا أبو أحمد محمد بن موسى قال حدثنا الفضل بن محمد قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا ابن مناذر قال سألت أبا عمرو بن العلاء حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم فقال ما دام تحسن به الحياة ومن غر ذلك الكتاب سئل سفيان ابن عيينة من أحوج الناس إلى طلب العلم قال أعلمهم لأن الخطأ منه أقبح "

قال البخاري في الصحيح
:"  بَاب الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَقَالَ عُمَرُ تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا "

الأساس الثاني : العناية بالإسناد وطلب علوه روايةً ودرايةً .

قال الخطيب في
[ شرف أصحاب الحديث ص25 ] " حدثنا محمد بن يوسف القطان ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الله الضبي ، قال : سمعت حسان بن محمد الفقيه ، يقول : سمعت الحسن بن سفيان ، يقول : سمعت صالح بن حاتم بن وردان ، يقول سمعت يزيد بن زريع : لكل دين فرسان ، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد "

وقال الحاكم في
[ معرفة علوم الحديث ص3 ] " سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ يقول :- سمعت جعفر ابن محمد بن سنان الواسطي سمعت أحمد بن سنان القطان يقول :- ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث ، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه

سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى يقول سمعت أبا نصر أحمد بن سلام الفقيه يقول :" ليس شيءٌ أثقل على أهل الإلحاد من سماع الحديث وروايته بالإسناد
"

أقول :
ولذكر الإسناد والمحافظة على هذه السنة السلفية فوائد جمة .
منها :
تعريف القراء بأسماء رواة الحديث ورسوخ أسمائهم في أذهان الطلبة والمستفيدين على كثرة الترداد , فإنهم إن عرفوا ذلك سهل عليهم الإنتفاع بعلوم السلف الذين كانوا لا يصنفون في العقائد والأحكام والآداب إلا بالإسناد .

ومنها :
البعد عن  في الحكم على الأسانيد فالتقليد جهل بإجماع العلماء .

ومنها :
معرفة قوة الخلاف وضعفه في الحكم على الإسناد , فالأسانيد ليست على درجة واحدة وأحكام النقاد عليها ليست على درجةٍ واحدة ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بإلف الإسناد وفقهه .

روى الرامهرمزي في
[ المحدث الفاصل ص 320 ] :"  أنا محمد بن أحمد بن علي الدقاق ، نا أحمد بن إسحاق النهاوندي ، نا ابن خلاد ، نا زنجويه بن محمد النيسابوري ، بمكة نا محمد بن إسماعيل البخاري ، قال : سمعت علي بن المديني أنه قال :- التفقه في معاني الحديث نصف العلم , ومعرفة الرجال نصف العلم "

أقول
: قد أصاب حية الوادي في العلل كبد الحقيقة إذ أن كثيراً من الفقهاء قد تكلفوا الإستنباط من الأخبار المنكرة والضعيفة وربما حاولوا الجمع بينها وبين الأخبار الصحيحة وهم بذلك يجهدون أذهانهم فيما لا حاجة له ولا طائل تحته وإنما أتوا من جهلهم بفقه الإسناد , وقد حمى الله أهل الحديث من هذا الرهق , وكما أن التقليد في معرفة معاني الآثار مذموم فالتقليد في فقه الإسناد مذمومٌ أيضاً , وكما أن العلو مطلوبٌ في معرفة معاني الآثار فالعلو مطلوبٌ أيضاً في فقه الإسناد وكما أن من يقلد في معرفة معاني الآثار ليس بعالم بإجماع العلماء ولا يوثق بعلمه , فكذلك الذي يقلد في فقه الإسناد أعني التصحيح والتضعيف ومن قلد في ذلك فقد وتر نصف علمه  .

قال ابن القيم في
[ إعلام الموقعين  2/132] :" والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم "

وقد أجمعوا على أن المقلد ليس من أهل العلم كما نقله ابن عبد البر في الجامع وتابعه ابن القيم في الإعلام
[2/137]

واعلم أن المقلد لا ينطبق عليه شيء مما جاء في فضل العلم ، إذ أنه ليس من العلماء والتقليد ليس علماً .

قال ابن القيم في
[ الإعلام 1/139] :" وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في قوله ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض قال بالعلم وإذا كان المقلد ليس من العلماء باتفاق العلماء لم يدخل في شيء من هذه النصوص وبالله التوفيق"

وأما في بيان ما ينوب الفقهاء المبتعدين عن طريقة أهل الحديث من ضياع للأعمار والعقول


فاقرأ ما قال الشاطبي
في [ الموافقات 1/ 71] :" وأما إذا كان الطريق مرتباً على قياسات مركبة أو غير مركبة ، إلا أن إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل ، فليس هذا الطريق بشرعي ، ولا تجده في القرآن ، ولا في السنة ، ولا في كلام السلف الصالح ، فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود ، وهو بخلاف وضع التعليم "

وقال ابن رجب في
[ فضل علم السلف على علم الخلف ص41 ] :" وأما ما حدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوماً ، وظنوا أن من لم يكن عالماً فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة "

وكما اعتنوا بالإسناد وعلوه في الرواية فقد اعتنوا بعلو الإسناد الفقهي فاعتنوا بفتاوي الصحابة رضوان الله عليهم ، وما زال المتأخر منهم يعرف للمتقدم فضله


قال الدارمي في مسنده  
[162 ]:" أخبرنا إبراهيم بن موسى وعمرو بن زرارة عن عبد العزيز بن محمد عن أبي سهيل قال كان على امرأتي اعتكاف ثلاثة أيام في المسجد الحرام فسألت عمر بن عبد العزيز وعنده ابن شهاب قال قلت عليها صيام قال ابن شهاب لا يكون اعتكاف إلا بصيام فقال له عمر بن عبد العزيز عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا قال فعن أبي بكر قال لا قال فعن عمر قال لا قال فعن عثمان قال لا قال عمر ما أرى عليها صياما فخرجت فوجدت طاوسا وعطاء بن أبي رباح فسألتهما فقال طاوس كان بن عباس لا يرى عليها صياما إلا أن تجعله على نفسها قال وقال عطاء ذلك رأيي " .

قال الحافظ
[ الفتح  9/ 484] : " قوله [ وقال عثمان : ليس لمجنون ولا لسكران طلاق ] وصله ابن أبي شيبة عن شبابة , ورويناه في الجزء الرابع من تاريخ أبي زرعة الدمشقي عن آدم بن أبي إياس كلاهما عن بن أبي ذئب عن الزهري قال :- [ قال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز : طلقت امرأتي وأنا سكران ، فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا أن يجلده ويفرّق  بينه وبين امرأته , حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال : [ ليس على المجنون ولا على السكران طلاق ] فقال عمر : تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان فجلده ورد إليه امرأته "

أقول :
في الأثرين اعتداد عمر بن عبد العزيز بآثار الصحابة وكلاهما صحيح
قال عبد الرزاق
[ 2476- 11/256] " حدثنا معمر والثوري عن ابن أبجر : قال :- قال لي الشعبي : ما حدثوك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به ، وما قالوا فيه برأيهم فبل عليه " .

أقول :
هذا كلام الشعبي في آراء التابعين فكيف بآراء من بعدهم ؟!

وكما أننا ندعو إلى ترك القصاص ، ولزوم غرز العلماء ، ينبغي أن ندعو إلى لزوم غرز الأوائل من العلماء الذين بقيت تركتهم بيننا ، ولا يعني هذا إهدار جهود العلماء بل ينبغي الإعتناء بعلوم العلماء السلفيين المعاصرين لاسيما في النوازل ، ولكن الواجب أن تكون حصة الأسد من العناية لعلوم الأوائل
.

قال عبد الرزاق
[20487] " وأخبرنا معمر عن صالح بن كيسان قال :- اجتمعت أنا وابن شهاب ونحن نطلب العلم فاجتمعنا على أن نكتب السنن فكتبنا كل شيء سمعناه عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم كتبنا أيضا ما جاء عن أصحابه فقلت لا ليس بسنة وقال هو بلى هو سنة فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت."

أقول :
إسناده صحيح وهذا تنصيص من الزهري وصالح بن كيسان أن آثار الصحابة سنة .

وقال ابن عبد البر في
[ الجامع  2/66] :- " وذكر سنيد عن محمد بن كثير عن ابن شوذب عن أيوب عن ابن سيرين أنه سئل عن المتعة بالعمرة إلى الحج ؟ قال :- كرهها عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، فإن يكن علماً فهما أعلم مني ، وإن يكن رأياً فرأيهما أفضل "

أقول :
كلام ابن سيرين هذا أصل في الأخذ بأقوال الصحابة في المسائل التي لا يعلم فيها بنصٍ معارض ، ولا يقال :" هذا خلاف الأصول " ، فإن الصحابة أعلم بأصول الشريعة وبالقياس عليها من كل من جاء بعدهم ، فإذا كنا ننزه آحاد الفقهاء عن القول بما يخالف الأصول بغير بدليل فكيف يصح لنا أن نننسب ذلك إلى أفقه هذه الأمة بعد نبيها ، وأقبح من ذلك دعوى بعضهم أن بعض فتاوى الصحابة تخالف ظاهر القرآن ، سبحان الله ! ، إن الذي يظن في نفسه أنه أعلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن لمغرورٌ حقاً ، وقد يكون غره أنه رجل وهم رجال ، وما علم أن الرجال ليسوا كالرجال كما أن البحرين لا يسويان هذا عذبٌ فرات وذاك ملحٌ أجاج .

 قال ابن عبد البر في
[ جامع بيان العلم وفضله  2/65 ] :" أخبرنا أحمد بن فتح قال حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ناصح الفقيه الشافعي المعروف بابن المفسر في داره بمصر ، قال : قال حدثنا أبو الحسن محمد بن يزيد بن عبد الصمد قال حدثنا موسى بن أيوب النصيبي قال حدثنا بقية بن الوليد قال : قال لي الأوزاعي :" يا بقية ، العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وما لم يجيء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعلم حدثني خلف ابن القاسم قال حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ناصح المعروف بابن المفسر الدمشقي بمصر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي قال حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله عز وجل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق قال أصحاب محمد صلى الله عليه "

وقال ابن عبد البر في
[ الجامع  2/101 ] :- " وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم ، قال سئل مالك ، قيل له :- لمن تجوز الفتوى ؟ فقال : لا تجوز إلا لمن علم اختلاف الناس فيه ، قيل له اختلاف أهل الرأي ؟ قال :- لا ، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكذا يفتي "

أقول :  
وأما اليوم فكثيرٌ ممن يفتي ليس كبير خبرة بمعرفة مذاهب الصحابة ، وغاية أمره أن يعرف كم روايةً في المذهب في المسألة ، وربما تصدى لشرح بعض متون المذهب ، وهو لا يعرف فتاوى الصحابة التي بنى عليها صاحب المذهب أقواله ، فتجده يسفه من حلم هذا الإمام في بعض أقواله ويظهرها على أنها أقوال ضعيفة واهية لا تستند إلى ركن ركين ، وإنما أتي من جهله بتعظيم الأئمة لآثار الصحابة رضوان الله عليهم ، وبعضهم يصنف في أصول الفقه فيزعم جهلاً أن أقوال الصحابة ليست بحجةٍ مطلقاً ، حتى إذا صنف كتاباً في الفقه اضطره تمذهبه إلى الإحتجاج بآثار الصحابة لأن إمامه ليس كمثله يعرف قدر فقه الصحابة .

قال ابن عبد البر في
[ الإستذكار  5/160] :" وحجة الليث ومن قال بقوله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي ] رواه العرباض بن سارية
وقال عليه السلام :[ اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر ] رواه حذيفة عن النبي عليه السلام
"

أقول :
والليث بن سعد إمام أهل مصر في الفقه ، وفي هذا الرد على من زعم أن الإحتجاج بأقوال الراشدين بدعةٌ شامية ، وقد تقدم أقوال أئمة الفقهاء من التابعين ومن بعدهم في البصرة والكوفة والمدينة ، كلهم تأتلف كلمتهم على الإحتجاج بآثار الصحابة لاسيما الراشدين منهم .

قال ابن القيم في
[ الإعلام 1/98 ] :" َتَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ قَوْلُهُ يعني أبا حنيفة - وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ هُوَ الضَّعِيفُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ "

أقول :
وصدق الإمام فإن الرأي مع إيغالهم في القياس إلى حدٍ غير محمود ، إلى أن أنهم عرفوا للصحابة حقهم فقدموا فتاويهم على القياس .
قال محمد بن الحسن في
[ كتاب الأصل -  المخطوط لوح رقم 404 ] :" وعن عمر أنه قتل سبعة نفر برجلٍ واحد ثم قال :" فأخذ - يعني أبا حنيفة - في النفس بالأثر "   
 وهم يأخذون ببقية الجراحات بالقياس فيلزمون الجماعة بأرش الجناية ولا يقتصون منهم كل واحدٍ على حدة  ، وخالفوا قياسهم في القتل من أجل أثر عمر .

وقال المارودي في
[ الحاوي  2/291] :" قال الشافعي – رضي الله عنه – [ ولا يقنت في شهر رمضان إلا في النصف الأخير منه وكذلك كان يفعل ابن عمر ومعاذ القاري ] "

أقول :
انظر كيف بنى الإمام الشافعي هذا الفرع الفقهي المهم على أفعال الصحابة ، وهذا الكلام نقله الماوردي من مختصر المزني إذ أن الماوردي يشرحه في الحاوي ، وهو من الكتب الجديدة في مذهب الشافعي خلافاً لمن افتات على الإمام وزعم أنه لا يحتج بآثار الصحابة في الجديد وقد نقض ابن القيم هذه الدعوى نقضاً مبرماً في إعلام الموقعين وقد كتبت في ذلك مقالاً أسميته [  تثبيت القول بحجية سنة الخلفاء الراشدين ]  فأغنى ما كتبته هناك عن التطويل ها هنا .

غير أننا ها هنا لا نتكلم عن الآثار التي ثبتت مخالفتها للنصوص بوجهٍ لا يتطرق إليه شك ، وإنما نتحدث عن آثارهم فيما لم يخالف نصاً ، وما كان من فهمهم للنصوص فهو بمنزلة الحديث المرفوع عند أهل التحقيق كما نقله الحاكم صاحبي الصحيح .


قال شيخ الإسلام :
[مجموع الفتاوى 15/152 ] :" وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ وَيَنْظُرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ . فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ . وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - أُصُولُ السُّنَّةِ هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

أقول :
قول الإمام أحمد : أصول السنة عندنا  التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - [ ما ] هنا الموصولة بمعنى الذي وهي من ألفاظ العموم فيشمل ما كانوا عليه في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب .

الأساس الثالث : الأخذ بالحق دون النظر إلى قائله


قال الدارمي
[ 220 ]  " أخبرنا محمد بن عيينة ، أنبأنا علي هو ابن مسهر عن أبي إسحاق عن الشعبي عن زياد بن حدير قال :- قال لي عمر :- هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟
قال : قلت : لا قال :- يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين .
"
أقول :
إسناده قوي

وقال ابن القيم في
[ إعلام الموقعين 2/133] :" وقد تقدم أن معاذاً كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس الله حكم قسط هلك المرتابون الحديث وفيه وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قلت لمعاذ ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال لي اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً "

أقول :
هنا ثلاثة أصول مهمة في تحقيق هذا الأساس

الأصل الأول :
أن العالم مهما بلغ من العلم فإنه قد يزل كما في أثر عمر  .
الأصل الثاني :
أن المفضولوإن كان من أفجر الناسقد يقول كلمة الحق كما في أثر معاذ وقد تقدم كلام الفضيل في وجوب أخذ الحق الذي معه ، ولا يعني ذلك بالضرورة  الذهاب إليه والتتلمذ عليه ، ولكن إن بلغك الحق عنه أو سمعته منه فلا ترده شنآناً له .

الأصل الثالث :
أن الاجتهاد يتجزأ وقد يكون المفضول أمكن ببعض أبواب العلم ، من الفاضل له بمجموع العلم .
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة ، تفرع عليها وجوب قبول الحق من قائله كائناً من كان ، والنظر إلى القول دون القائل .

فلا يقال
[ من فلان حتى يرد على فلان ] و[ ومن فلان حتى يلزم فلانا] و [ ولا نقبل الكلام ممن صفته كذا وكذا ] [ ولماذا تكلم فلان وسكت فلان ] إلى آخر ذلك الركام الخلفي المنتن الذي أزكمت من رائحته الأنوف .

قال البخاري
[ 3141 ] "  حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ قُلْتُ نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ قُلْتُ أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُهُ فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ قَالَ مُحَمَّدٌ سَمِعَ يُوسُفُ صَالِحًا وَإِبْرَاهِيمَ أَبَاهُ ."

أقول :
هذان الشابان اللذان أحرزا هذا الإنجاز العظيم ، فقتلا عدو الله ورسوله ، وفي الجيش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فلم يردهما عبد الرحمن بن عوف بقوله :" في الجيش فلان وفلان فما تصنعان أنتما " ، بل أعانهما على ما أرادا ، وشرط الجهاد العملي القدرة البدنية ، وشرط الجهاد العلمي القدرة العلمية ولا تعلق لذلك بالسن .

وقال ابن عبد البر في
[ جامع بيان العلم وفضله 1/311 ] " بعد أن أسند حديث [ إن من أشراط الساعة ثلاثاً إحداهن أن يلمتس العلم عند الأصاغر ] قال : " قال نعيم :- قيل لابن المبارك ؟  قال : الذين يقولون برأيهم ، فأما صغير يروي عن كبير فليس بصغير .

 وذكر أبو عبيد في تأويل هذا الخبر عن ابن المبارك أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع ولا يذهب إلى السن ، قال أبو عبيد : وهذا وجه ، قال أبو عبيد : والذي أرى أنا في الأصاغر أن يؤخذ العلم عمن كان بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك أخذ العلم عن الأصاغر
"

أقول :
تأمل كلام أبي عبيد وما فيه من الحسن ، فقد اعتبر الصغير كل من سوى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفهم ، فكأنه اعتبر الأمر نسبياً .

وقال أيضاً في
[ 1/315] :" وقال بعض أهل العلم : إن الصغير المذكور في حديث عمر وما كان مثله من الأحاديث إنما يراد به الذي يستفتى ولا علم عنده وأن الكبير هو العالم في أي سن كان وقالوا : الجاهل صغير وإن كان شيخا ، والعالم كبير وإن كان حدثا ، واستشهد بقول الأول حيث قال : تعلم فليس المرء يولد عالما وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل واستشهد بعضهم بأن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يستفتى وهو صغير ، وأن معاذ بن جبل وعتاب بن أسيد كانا يفتيان وهما صغيرا السن ، وولاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم الولايات مع صغر أسنانهما ، ومثل هذا في العلماء كثير"

وقال في
[1/306] :" ومما يدل على أن الأصاغر ما لا علم عنده ما ذكره عبد الرزاق ، وغيره عن معمر ، عن الزهري قال : كان مجلس عمر مغتصاً من القراء شباباً وكهولاً فربما استشارهم ويقول : لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه ؛ فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه ، ولكن الله يضعه حيث يشاء  "

أقول :
أثر الزهري منقطع إذ لم يدرك عمر ، ولكن قد ثبت عن عمر نحوه .

قال البخاري
[ 4043 ] " حدثنا أبو النعمان: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم، لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذلك قولك؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة، فذاك علامة أجلك: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم."

أقول : أشياخ بدر أفضل من ابن عباس إجماعاً ، وذلك مبين في النصوص ، ومع ذلك خالفهم جمهورهم وكان الحق معه ، فكيف بمن يخالف من لا يعرف أيهما الأخير عند الله عز وجل ؟
هذا ما أردت بيانه ، والمقام يتسع لأكثر من هذا ، ونرجو  إفادات الإخوة في هذا الباب المهم .

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم


 

عبدالله الخليفي
  • مقالات
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية