اطبع هذه الصفحة


الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية في مسألة الاستثناء في الايمان

عبدالله بن فهد الخليفي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد:

فإن من المعلوم عند المشتغلين بدراسة العقيدة أن الأشاعرة _ مع إرجائهم _ يقولون بجواز الإستثناء في الإيمان

ويخالفهم الماتردية القائلون بمنعه _ كعامة المرجئة _

فما سبب هذا الخلاف بينهم وما ترتب عليه ؟

لنبدأ بما ترتب عليه ثم ننظر من خلاله سبب وقوع هذا الخلاف

ترتب على هذا الخلاف تكفير بعض الماتردية ( الحنفية ) للأشاعرة ( الشافعية ) والإفتاء بمنع مناكحتهم وذلك أن الإيمان عند المرجئة شيء واحد والشك في بعضه شكٌ في كله والشك في الإيمان كفر _ كذا يؤصلون ويخالفهم أهل السنة القائلون بأن الإيمان حقيقة مركبة _

قال ابن الهمام في فتح القدير (3/397) :" وقال الرستغفني : لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال والفضلي
ولا من قال أنا مؤمن إن شاء الله لأنه كافر ، ومقتضاه منع مناكحة الشافعية ، واختلف فيها هكذا ، قيل يجوز ، وقيل يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته .

ولا يخفى أن من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فإنما يريد إيمان الموافاة صرحوا به : يعنون الذي يقبض عليه العبد لأنه إخبار عن نفسه بفعل في المستقبل أو استصحابه إليه فيتعلق به قوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وعلى هذا فيكون قوله إن شاء الله شرطا لا كما يقال إنه لمجرد التبرك ، وكيف كان لا يقتضي ذلك كفره غير أنه عندنا خلاف الأولى ، لأن تعويد النفس بالجزم في مثله ليصير ملكة خير من إدخال أداة التردد في أنه هل يكون مؤمنا عند الموافاة أو لا ؟"

قلت : ها أنت ترى الخلاف واقعاً بين الحنفية في إسلام الأشاعرة فذهب الرستغفني إلى كفرهم لقولهم بالإستثناء

ورد عليه ابن الهمام بأنهم إنما يعنون الموافاة وهذا لا يتناقض مع إرجاء الفريقين

فمعنى الموافاة ما يوافي به المرء ربه من إسلام أو كفر فالكلام واقعٌ على ما يقع في المستقبل لا حاله الآن ، والمرجئة لا ينكرون امكانية ارتداد المسلم ولكنهم ينكرون نقصان الإيمان وتبعضه

وعليه فإن مأخذ الأشاعرة في الإستثناء لا يتنافى مع إرجائهم ولهذا عذرهم متأخري الحنفية مع ذهابهم إلى هذا لفظ يوهم الكفر

ولكن السؤال هنا ما هو مأخذ السلف في الإستثناء وهل موافق لمأخذ الأشاعرة ؟

الجواب :


قال الخلال في السنة
1054- وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ , أَنَّ حُبَيْشَ بْنَ سِنْدِيٍّ حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ . فَقَالَ : (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ) , وَقَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ وَفِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ : (عَلَيْهِ حَيِيتُ , وَعَلَيْهِ مُتُّ , وَعَلَيْهِ نُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) , وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي , وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَحَدُنَا يُصْبِحُ جُنُبًا يَصُومُ ؟ فَقَالَ : إِنِّي لأَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ أَصُومُ فَقَالَ : إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا , أَنْتَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ

مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ) , وَهَذَا كَثِيرٌ , وَأَشْبَاهُهُ عَلَى الْيَقِينِ , قَالَ : وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ فَسَأَلَهُ عَنِ الإِيمَانِ ؟ فَقَالَ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ . فَقَالَ لَهُ : يَزِيدُ ؟ فَقَالَ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ , فَقَالَ لَهُ : أَقُولُ مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ لَهُ : إِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي : إِنَّكَ شَاكٍ . قَالَ : بِئْسَ مَا قَالُوا . ثُمَّ خَرَجَ , فَقَالَ : رُدُّوهُ , فَقَالَ : أَلَيْسَ يَقُولُونَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : هَؤُلاَءِ مُسْتَثْنُونَ قَالَ لَهُ : كَيْفَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُلْ لَهُمْ : زَعَمْتُمْ أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . فَالْقَوْلُ قَدْ أَتَيْتُمْ بِهِ , وَالْعَمَلُ فَلَمْ تَأْتُوا بِهِ , فَهَذَا الاِسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْعَمَلِ , فَقِيلَ لَهُ : فَيُسْتَثْنَى فِي الإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , أَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ , أَسْتَثْنِي عَلَى الْيَقِينِ , لاَ عَلَى الشَّكِّ , ثُمَّ قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} , فَقَدْ عَلِمَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
1055- أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ , قَالَ : حَدَّثَنَا الأَثْرَمُ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ)


, فَقَالَ : هَذَا أَيْضًا أَرْجُو , أَيْ : هُوَ حُجَّةٌ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الإِيمَانِ , أَيْ إِنَّهُ قَدْ قَالَ : أَرْجُو , وَهُوَ أَخْشَاهُمْ.

1056- أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , أَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُعْجِبُهُ الاِسْتِثْنَاءَ فِي الإِيمَانِ , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ , وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ لَهُ رَجُلٌ , وَهَذَا لَفْظُ سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَتَمُّ : قِيلَ لِي : أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ , فَغَضِبَ أَحْمَدُ , وَقَالَ : هَذَا كَلاَمُ الإِرْجَاءِ , وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} , مَنْ هَؤُلاَءِ ؟ ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ : أَلَيْسَ الإِيمَانُ قَوْلاً وَعَمَلاً ؟ قَالَ الرَّجُلُ : بَلَى , قَالَ : فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ,
قَالَ : فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ ؟ قَالَ : لاَ , قَالَ : فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي ؟ . زَادَ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ , فَنَحْنُ مُسْتَثْنُونَ بِالْعَمَلِ , زَادَ الْفَضْلُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَمَلَ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ , يَقُولُ : نَحْنُ نَعْمَلُ وَلاَ نَدْرِي يُتَقَبَّلُ مِنَّا أَمْ لاَ"

وقال الخلال 1066- وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ , أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ فِي : مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ , وَمُؤْمِنٌ أَرْجُو , لأَنَّهُ لاَ يُدْرَى كَيْفَ أَدَاؤُهُ لِلأَعْمَالِ , عَلَى مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ , أَمْ لاَ ؟.

قلت :فمأخذ السلف في الإستثناء مختلف تماماً عن مأخذ الأشاعرة فالسلف يستثنون لأنهم يعتبرون العمل من الإيمان فيوقعون الإستثناء عليه

وهذا المأخذ يثير حفيظة مرجئة الماتردية ويكفرون القائل به ومع ذلك ينعون على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تكفيره لعباد القبور وهم يحكمون على الأخيار من علماء السلف أنهم واقعون في الكفر

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه
 


 

عبدالله الخليفي
  • مقالات
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية