اطبع هذه الصفحة


الإساءة من جديد ... لماذا ؟!
22 / 2 / 1429 هـ

عامر بن عيسى اللهو

 
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة المؤمنون :
يقول الله جل وعلا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ{112} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ{113} يقول تعالى - مسلياً رسوله محمد صلى الله عليه وسلم- وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك، ويحاربونك، ويحسدونك، فهذه سنتنا، أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء، من شياطين الإنس والجن، يقومون بضد ما جاءت به الرسل { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } أي: يُزيّن بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويُزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق،ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة، فيعتقدون الحق باطلا والباطل حقا، ولهذا قال تعالى: { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة، يحملهم على ذلك {وَلِيَرّضَوْهُ} بعد أن يصغوا إليه، فيصغون إليه أولاً فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة، رضوه، وزُيّن في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة وصفة لازمة، ثم ينتج من ذلك، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون، أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة، فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن، المستجيبين لدعوتهم.
ومن حكمة الله تعالى، في جعْله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصاراً قائمين بالدعوة إليه، أن يَحْصل لعباده الابتلاءُ والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى.
ومن حكمته أن في ذلك بياناً للحق، وتوضيحاً له، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه. فإنه -حينئذ- يتبينُ من أدلة الحق، وشواهده الدالةِ على صدقه وحقيقته ومن فسادِ الباطل وبطلانه ما هو من أكبر المطالب، التي يتنافس فيها المتنافسون.

عباد الله :
إن الابتلاء سنة الله الجارية في عباده { الم{1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } لكن الابتلاء أنواع، ومن أعظم الابتلاءات الابتلاءُ في الدين، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ( ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ) رواه الترمذي فمصيبة الدين عظيمة، وقد أصيب المسلمون قبل أكثر من عامين بالإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قِبل صحيفة دنمركية رعناء لا تقيم للقيم ولا للأدب وزناً .
وها هي الدانمرك تعود مرة أخرى وتتجرأ بالسخرية والاستهزاء بأشرف الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، وهو فعل لم يصدر عن قلة سفيهة ، بل تواطأت على هذا الفعل سبعة عشر صحيفة، تُمثّل أغلب التوجهات في مجتمعهم؛ مما يجعل الأمر أكثر خطورة .

وإننا قبل أن نواجه هذا الاعتداء السافر علينا أن نتساءل ما الأسباب وراء إعادة هذا التصرف الأرعن ونشر الرسوم للمرة الثانية وعلى نطاق أوسع ؟!! فلعلّ من تلك الأسباب:
1) البغض الدفين في قلوب أولئك الكفرة على نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم ، ونحن نجزم أن هذا البغض ليس نتيجة قراءةٍ لسيرته صلى الله عليه وسلم بل هو نتيجةٌ لسماع كلامٍ مختلق مفترى على الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الله في الآية المتقدمة { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }
2) انتشار الإسلام في تلك الدول ودخول الناس في دين الله تعالى مما يُشّكل ردة فعل لأهل الأهواء الفاسدة والفطر المنكوسة بالنيل من نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم .
3) عدم مواصلة الموقف الحازم من الإساءة الأولى، وتراجع كثير من المسلمين إلى التعامل مع تلك الدولة دون موقف واضح منها في الاعتذار والتعهد بعدم الرجوع إلى المهاترات، ومن أمن العقوبة أساء الأدب.
4) عدم وجود الإعلام الكافي للوصول إلى أولئك الشعب وتوضيح حقيقة الإسلام وشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رحمة مهداة، فإن من عرف سيرته يُدرك وبجلاء حجم الافتراء والكذب من قِبل تلك الصحف على دينه عليه الصلاة والسلام وشخصه.
كثير من المثقفين يعرف من هو ( مايكل هارت ) إنه صاحب كتاب ( مائة رجل من التاريخ ) الذي أحدث ضجة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنه قد اختار مائة شخصية أثرت بشكل كبير على الناس وحوّلت حياتهم، وكان الرجل الأول الذي اختاره هذا المؤلّف النصراني في كتابه هو محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال في أول كتابه : إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدءوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته.
هذه شهادة المنصفين من عقلاء العالم وغيرهم كثير بحمد الله؛ رغم أن المسلمين لا يحتاجون إلى مثل هذه الشهادات للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيكفيهم ما بين أيدهم من القرآن العظيم الذي فيه تزكية هذا النبي الكريم من لدن رب العالمين سبحانه وتعالى. لكن هذا مما يساعد المسلمين في دعوة النصارى أنفسهم أن يتأملوا في أقوال بني جلدتهم من المنصفين العقلاء.

عباد الله :
لا شك أنّ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم شوكة في حلوق أهل الكفر في كل زمان بعد ظهورها وظهور أتباعها فعقيدة الإسلام الواضحة الناصعة تقتل الشرك في قلوب معتنقيه، فلا يبقى لهم إلّا الجحود والمكابرة أو الدخول في دين الله, وكذا منهجه الواضح يزيل قواعد الطغيان بكل قوة ليُرسي العدل الإلهي, وهذا ما يأباه الطواغيت المضلِّلون في كل مكان؛ لكن الله لهم بالمرصاد {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

بارك الله لي ولكم في القرآن

الخطبة الثانية :
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون :
إنّ الحماسة اللحظية والعاطفة الجيّاشة المؤقتة لا تغني عن الاتباع والدفاع العملي عن سنته ومنهاجه صلى الله عليه وسلم .
إن على المسلمين أن يكونوا على قدر مسؤولية الدّين الذي ينتسبون إليه، إن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم حاصلة حقاً وصدقاً، ولو فرض أن أهل الأرض كلهم تخاذلوا عن نصرة رسول الله فالله تعالى سينصره ويؤيده كما قال سبحانه { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ }، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الهجرة تلك الحالة الحرجة الشديدة ، انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونه وصاحبه ليقتلوهما، ومع ذلك أنزل اللّه عليهما من نصره.
فرسولنا صلى الله عليه وسلم منصور بنا أو بغيرنا؛ لكن ما دفاعُنا عنه ونصرتنا له وتضحيتنا من أجله إلا والله شرف لنا ورفعة لأنفسنا وإظهار لصدق محبتنا له عليه الصلاة والسلام التي ننال بها محبة الله جل وعلا .
فعلى المسلمين أن يعوا ذلك وأن يتخذوا لأنفسهم قدمَ صدقٍ عند الله جل وعلا بالمبادرة إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم النصرة الحقيقية وأعظمها نصرته صلى الله عليه وسلم في النفس أولاً بالتمسك بدينه والإقبال عليه واتباع هديه وسنته بأكملها والتخلق بأخلاقه، ثم دعوة الناس إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، فنبيّكم صلى الله عليه وسلم يحب الدعوة إلى الله تعالى ويُرغب فيها لذلك قال : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا) رواه مسلم . وأما المعاندين المتكبرين المستهزئين من الكفرة فلا ينبغي أن نكون أمام استهزاءاتهم مكتوفي الأيدي بل لا بد من ردعهم على المستوى السياسي الرسمي وعلى المستوى الشعبي فعلى حكام المسلمين أن يقوموا بما ولاّهم الله من دور تجاه هذا العدوان السافر بمخاطبة حكومة تلك الدولة ووضع العلاقات على المحكّ نصرة للحبيب صلى الله عليه وسلم ، كما أن على العلماء دور كبير في رد تلك الاتهامات بالأدلة العقلية والمجادلة بالتي هي أحسن، وأما الشعوب فعليهم أن يساهموا بما يكون له مردود اقتصادي سلبي على تلك الدولة كما حصل في شأن المقاطعة الاقتصادية في الإساءة الأولى، فإنها قد أثبتت جدواها وكبّدت شركات تلك الدولة الخسائر الفادحة، وها هم قد عادوا ووضعونا في محل امتحان فهل نريهم من نكون ؟ وماذا تُشَكّل أجبانهم وزبدتهم وأغذيتُهم أمام محبتنا لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نُعلمهم أن إساءتهم قد أفسدت طعم أغذيتهم فلم تعد النفس تشتهيها، فمَثَل إساءتهم لنبينا كمَثَل الذباب إذا وقع على الطعام وقد قال الشاعر

إذا سقط الذباب على طعام *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء *** إذا رأت الكلاب ولغن فيه

نسأل الله تعالى أن يعز دينه وأن يعلي كلمته كما نسأله أن يذل أعداءه وأن يرد كيدهم في نحورهم وأن ينتقم ممن استهزأ برسوله صلى الله عليه وسلم وأن يرينا فيه قدرته إنه عزيز ذو انتقام

 

عامر بن عيسى اللهو
  • مقالات دعوية
  • كتب ورسائل
  • خطب
  • تأملات قرآنية
  • الصفحة الرئيسية