اطبع هذه الصفحة


مجمع البحرين  "الجن والإنس"

الشيخ صالح بن عواد المغامسي

 
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مظل له ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح لهفي برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره و اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

عادة ما يدرس الناس الجني من خلال دخوله في الإنسي وقد أشبع هذا الموضوع بحثاً عبر قراءات و مطويات وكتب كثيرة ولهذا سنضرب عنه الذكر صفحاً في لقاءنا هذا وإنما سنتكلم عن الإنس والجن من خلال الأمور التالية :

أولا : بدء خلقهما :

يقول الله تعالى في سورة الحجر " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ " فهذا نص قرآني يدل على أن الجان خلقت قبل أن يخلق الله الإنس

على هذا يتحرر على أن الجن خلقوا قبل الإنس .

لكن هل عمروا الأرض أو لا ..؟

هذا سؤال عائم لا نستطيع أن نجيب عليه ، لكن هناك شواهد و قرائن ليست منطوقة لكنها مفهومه في أن الجن عمروا الأرض ، ومنها : قول الله تعالى في سورة البقرة على لسان ملائكته لما أخبرهم سبحانه وتعالى أنه سيخلق بشرا قالوا " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " وقد

كثرت أقوال علماء التفسير حول هذه الآية و ثمة قول لهم : أن ذلك القول من الملائكة ناجم عن أن

الجن كانت تفسد في الأرض وتسفك الدماء قبل خلق آدم عليه السلام ،

وهذا هو مفهوم الآية لا منطوقها وشتان ما بين الإستدلال بالمنطوق و الإستدلال بالمفهوم .

ثانيا : المادة التي خلق منها الجن والإنس ..؟

من ناحية المادة التي خلق منها كل من الجن والإنس ، فمن المعلوم أن الجن كما نص الله تعالى خلقهم من نار ، والإنس خلقهم من طين لأنهما يرجعون إلى أبيهم آدم عليه السلام خلق من طين خلق من تراب وإبليس خلق من نار ، هذا من ناحية الإجمال , قال الله على لسان إبليس في سورة الأعراف " قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ " وفي آية أخرى في سورة الإسراء " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً " .

ثالثا : ما هي الهيئة التي خلق عليها كل من الإنس والجن .؟

أما الهيئة التي خلق الله تعالى عليها الإنس فهي جميلة ، يقول الله تعالى في سورة التين " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " فالإنسان مكرم في خلقه وهو داخل في عموم قول الله تعالى في سورة الإسراء " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " .
ولهذا قال بعض العلماء كالشافعية مثلاً أن الإنسان لو كانت امرأته في غاية القبح ، ثم قال لها : أنت طالق إن لم تكوني كالقمر ، فلا تطلق المرأة بهذا القول ، لأن الله تعالى يقول " َلقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " هذا من ناحية الإنس ، أما الجني فإنا لم نراهم قطعاً كما قال الله تعالى في سورة الأعراف " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ " لكن الجني مستقر في أذهان البشر جميعا أنه قبيح الخِلقة ، وهذا يؤيده ظاهر القرآن ، قال الله تعالى عن شجرة الزقوم في سورة الصافات " طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ " وهذا من أساليب العرب في كلامها ، فالعرب لم تر الشياطين حتى تُشبَه لهم شجرة الزقوم بأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، لكن استقر في الأذهان وفي الطباع و في الأنفس عند الناس جميعا أن الجن والشياطين منهم على وجه الخصوص قبيحي الخلقة ، فعاملهم الله تعالى بنفس أساليب كلامهم ، والقرآن الكريم نزل عربيا ، فالجن في الأظهر أنهم غيرُ حسنِ الخلقة ، وقد يُقال أن هذا منصرفٌ لشياطينهم فقط وهذا قول جيد ، لكن لا نستطيع أن نجزم به .

رابعا : القدرة التي منحوا إياها ..!

أعطى الله تعالى الجن القدرة على التشكل وهذا لم يعطه الله لبني آدم عليه السلام .
هذه الزاوية من الحديث تجعلنا نستدعي الحديث عن الملائكة ، فالملائكة يتفقون مع الجن في قضية ألا وهي أننا لا نراهم ، في حين أن الجن والإنس يتفقان في قضية وهي أن كلاهما مكلف ، كذلك الصورة المأخوذة عن الملائكة التي في أذهان الناس أنهم قوم حِسان ولذلك الناس يقولون فلان ملك من الملائكة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه وهو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يقول في شأنه : " عليه مسحةُ ملك " ، وهذا دلالة على وسامته وقَسامته ، وكذلك صواحب يوسف عليه السلام النسوة قلن لما رأينه انبهرن بجماله " قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ " لذلك استقرّ في الأذهان أن الملائكة رمز للجمال ، كما أن الجن رمز للقبح ، ولهذا مما استطرف في هذا المجال أن الجاحظ الأديب العباسي المعروف جاءته مرة امرأة وهو في السوق ، فقالت إني أريدك في أمر ما ، قال لها أنا بين يديك , قالت اتبعني ، فتبعها حتى وصلا إلى صائغ يبيع الذهب ، فوقفا أمام الصائغ ، فقالت المرأة للصائغ وهي تشير بيدها إلى الجاحظ :
مثلُ هذا ؟
ثم انصرفت ، فوقف الجاحظ حائرا لا يدري ما الأمر !! فسأل الصائغ ما الأمر ؟ قال : إن هذه المرأة أتتني قبلك وطلبت مني أن أصنع لها خاتماً فُصُه على هيئة عفريت ، فقلت لها : إنني لم أرى العفريت قط ، فاستدعتك وأخبرتك بما سمعت ، وكان الجاحظ قبيح الخلقة .
هذا كله من التراث والقران والسنة شواهد تعيننا على أن نرسم صورة قبيحة للشياطين على أن خالق الإثنين واحد سبحانه جل وعلا .

خامسا: أيهما أقوى وأقدر .. الجن أم الإنس ..؟

من حيث القدرة على العمل والصناعة الجن أقوى من الإنس ، فهم يفْضلون الإنس من هذه الناحية ، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في أسلوبه يفرّق إذا تكلم عن الجن والإنس في أي حديث يتحدث عنهما ،
يقول الله جل وعلا في سورة الإسراء " قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " ويقول جل وعلا في سورة الرحمن " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ "

فنرى أن الله تعالى قدم الإنس في سورة الإسراء وقدم الجن في آية الرحمن والسبب في هذا :
أن آية الإسراء تتحدث عن القدرة البيانية البلاغية وهي أن يؤتى بمثل هذا القرآن ، فقدم لله تعالى الإنس لأنهم أفصح بيانا من الجن ، في حين أن آية الرحمن تتحدث عن القدرة القوية البدنية وهي النفوذ من سلطان السماوات والأرض فقدم الجن على الإنس لأنهم أقدر على ذلك منهم ، ونظير هذا أيضا في القرآن أن الله تعالى لما ذكر سليمان عليه السلام في سورة النمل قال " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ " فقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأن القدرة العسكرية الحربية القتالية لديهم أقوى من الإنس ، ولهذا العرب استقر في طباعها قبل الإسلام أن الجن أقوياء فكانوا يهابونهم ، ومنه قول الله تعالى في سورة الجن على لسان الجن " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ " يلجأون إليهم خوفاً لعلمهم بقدرة الجن قال الله إكمالاً للآية " فَزَادُوهُمْ رَهَقاً " ومن لجأ إلى الله جل وعلا أوكل الله إليه فلا يصيبه الخوف ولا الضياع ولا الشتات نعوذ بالله من الحرمان والخذلان .
نعود للجن لذلك حتى في التراث العربي تجد أن الفرزدق يقول وهو يفتخر على جرير :

أحلامنا تزن الجبالَ رزانة *** و تخالُنا جناً إذا ما نجهلُ
إنا لنضربُ رأسَ كلِ قبيلةٍ *** وأبوك خلف أتانه يتقمّلُ

فالفرزدق يفتخر على جرير عندما يحاربون ويظلمون أنهم يصبحون كالجن في القوة والشدة والبطش .

سادسا: تسميتهم :

يقول ابن عبد البر رحمه الله تعالى : أن العرب يسمون الجن حسب التالي :
أولا : الجني الخالص يقولون له جني .
ثانيا : إذا كان مما يعمرون البيوت يسمونهم : عمار جمع عامر .
ثالثا : إذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونه أرواح .
رابعا : إذا خبث وتعرض يسمونه شيطان .
خامسا : إذا تمادى وطغى يسمونه عفريت .

ما الفرق بين العفريت والشيطان ..؟

الشيطان دل عليه أكثر القرآن لأنه لا يسمى شيطانا إلا إذا كان خبيثا خبثا معنويا ، وقد يطلق على الإنسي حتى إذا خبث شيطان ، ومنه قول الله تعالى في سورة الأنعام " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " .
أما عفريت فإنه يدل على القوة والجبروت ويدل على التمرد ومنه قول الله تعالى على لسان سليمان عليه السلام في سورة النمل " قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " يريد سليمان عليه السلام أن يقع بين يديه عرش بلقيس من أرض اليمن وهو في فلسطين " قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ " ففرق الله جل وعلا بوصفه عفريت من الجن فـ ( من ) هذه بيانية وعفريت دلالة على القوة والأنفة والشكيمة والقدرة على الغلبة وحصول الأمر وهذا كله بأمر الله جل وعلا فالجن مهما طغوا لا يخرجون عن سلطان الله وأعظم الدلائل على هذا القوة التي منحها الله تعالى لهم إلا أنهم لا يستطيعون أن يتشكلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قال " من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي " فهذا الشيطان العفريت الذي يأتي بعرش من مكان إلى مكان في لحظات محدودة يعجز أن يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قلنا أن لهم قدرة على التشكل وهذا يؤيده حديث أبي السائد رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم وأخرجه الإمام مالك في الموطأ ، وذلك أن أبا السائد وهو من التابعين دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الصحابي المعروف ، فإذا هو يصلي ، ولما كان أبو السائد ينتظر أبو سعيد يفرغ من صلاته إذ سمع حركة في عراجين البيت ، فنظر فإذا هي حية عظيمة ، فهمَّ أن يقتلها ، فأشار إليه أبو سعيد وهو فصلاته أن مكانك ، فتريث أبو السائد رحمه الله إجابة لتلك الإشارة فلما فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيد أبي السائد وأخرجه من الدار ، وأشار إلى دار أخرى فقال له : أرأيت تلك الدار ..؟ فإنها كانت دارا لفتى منا معشر الأنصار ، وكنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وكان الفتى حديث عهد بعرس ، فاستأذن الفتى النبيَ صلى الله عليه وسلم أنصاف النهار أن يأتي أهله ،
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأذن له وذات مرة قال له : " خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك مكر بني يهود " ، فأخذ سلاحه وقدم على داره ، فوجد عروسه على باب الدار ، فأخذته الغيرة وهم أن يطعنها بالرمح ، فقالت له : أكفُف عليك رمحك وادخل الدار ، فلما دخل الدار ، وجد حية عظيمة ملتوية على فراشه ، فطعنها فاضطربت عليه ، فمات الاثنان ، الحية والفتى ، قال أبو سعيد : فلا يُدرى أيهما أسبق موتا ، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن بالمدينة إخوانا لكم من الجن ، فإذا رأيتم مثل هذا فآذنوه ثلاثا ، فإن بدا لكم أن تقتلوه فاقتلوه فإنما هو شيطان " .

يتحرر من هذه القصة أن تلك الحية لا تخلوا أن تكون واحدا من ثلاث :
أولا : إما أن تكون حية حقيقة فهذه يجوز قتلها بعد ثلاث .
ثانيا : وإما أن يكون شيطانا فيقتل لأنه شيطان .
ثالثا : وإما أن يكون جنيا فسيخرج بعد الثلاث . فإذا خرج فبها ونعمت وإذا لم يخرج في هذه الحالة شرع لك أن تقتله وستبقى الحالة محصورة في اثنين :
إما حية حقيقة فيجوز قتلها لأنها من الفواسق وذوات الضرر ، وإما شيطانا فكذلك يجوز قتله .

هذا عالم الجن أما الحديث عن عالم الإنس فلا يحتاج إلى استفاضة لأننا معشر الإنس أدرى بأنفسنا من غيرنا لكن الله جل وعلا أعطى الجن قدرة على أن يرونا ولم يعطنا القدرة على أن نراهم .

ثامنا : التكليف للجميع ...

كلا من الإنس والجن مكلف كما في سورة الذاريات " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ " وبهذا التكليف ينفك الجن عن عالم الملائكة ، لأن عالم الملائكة غير مكلفين كما في سورة التحريم " لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " أما الإنس والجن فكلاهما مكلف ، فمن آمن منهم واهتدى كان مآله الجنة ، ومن تكبر منهم وعصى وطغى ورد على الله كلامه ، كان مآله النار ، ولهذا قال الله تعالى عن الحور العين في سورة الرحمن " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ " وهذا فيه دلالة على أن الإنسي والجني سيدخل الجنة إذا أطاع الله .

تاسعا : مؤمني الجن ...

النبي صلى الله عليه وسلم أكرمه الله تعالى بأن ختم الله به الرسالات وأتم به النبوات ، وأنزل عليه آخر الكتب السماوية الذي هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والجن كما مرّ معنا أنهم مخلوقون من نار ، ومع ذلك لما رزق بعضهم الإيمان رزق التأثرَ بالقرآن ومن هنا ينبغي لكل أحد أن يعلم أن القلوب لا ينبغي أن تخشع كما ينتابها من الخشوع عند سماعها كلام الله جل وعلا , المؤمن الذي بقي على فطرته وأدرك العلم الحق إنما يناله الخشوع ويصيبه أعظم ما يصيبه عند سماع كلام الرب جل وعلا . ولما ذهب نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فرده أهلها فرجع حزينا مكلوماً عليه الصلاة والسلام ، رجع من الطائف متجها إلى مكة حتى وصل إلى واد نخلة فوقف عليه الصلاة والسلام يصلي يناجي ربه تبارك وتعالى ويدعوه " اللهم أنت ربي ورب المستضعفين . . . الخ الحديث " يشكوا إلى الله في الحديث المعروف فأخذ يصلي ويقرأ القرآن عليه الصلاة والسلام ، فاجتمعت الجن الطائفة التي كانت متوجهة في وادي نخلة ، تنظر لماذا أغلقت في وجهها أبوابَ السماء قال الله حكاية عنهم في سورة الجن " وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً " فوقفوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكالب بعضهم على بعض ، يقول الله تعالى مصورا لذلك المشهد العظيم " وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً " فالداعي هنا هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، والذين كادوا يكونون عليه لبدا هم الجن ، فاستمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يشعر بوجودهم عليه الصلاة والسلام ، فلما انصرفوا أخبر الله تعالى نبيه بالذي كان ، قال الله تعالى " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً " ولهذا سميت السورة باسهم ، ثم ذكر الله تعالى الأمر تفصيلا في سورة الأحقاف فقال جل شأنه " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ " وهذا فيه إشارة إلى أن أولئك الجن كانوا من اليهود ، وأنهم قالوا " أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى " ولم يذكروا عيسى عليه الصلاة والسلام ، وموسى إنما بعث لليهود .
غاية الأمر أن المؤمن ينبغي له أن يتأثر أعظم التأثر بالقران قال الله جل وعلا في سورة الأنفال " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون " .

وأثنى الله جل وعلا على أهل العلم بقوله لما ذكر القران واختلاف الناس فيه قال جل شأنه وتبارك اسمه في سورة الإسراء " قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً " بلغنا الله وإياكم تلك المنازل .

عاشرا : مدح الله للجن ...

مدح الله تعالى الجن لأنهم كانوا ذوي أدب مع كلام الله تعالى ، وهذا دل عليه القرآن الكريم في موضعين :
الأول : روى الترمذي بسند حسن من حديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على مؤمني الجن سورة الرحمن وفيها يتكرر قول الله جل وعلا " فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان " فلما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة قال لهم : ألا تجيبوني كما أجابني إخوانكم من الجن ..؟ قالوا ماذا أجابوا يا رسول الله ؟ قال كانوا يقولون : ولا بأيٍ من آلاء ربنا نكذب "

الموضع الثاني : لما ذكروا الخير والشر في قضية إرسال الرسل ، نسبوا الخير والرشد والفلاح إلى الله ، ونسبوا الشر إلى ما لم يُسمى فاعله ، وذلك أدبا مع الله تعالى ،
قال الله تعالى في سورة الجن " وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ [ فنسبوا الشر هنا إلى مجهول ] أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً " فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله تعالى ، والأدب مع الله تعالى من دلائل الإيمان وقرائن العلم وبيان الحكمة ، وهذا الأدب دليل على حسن كلامهم وخطابهم ، والعاقل المؤمن ينبغي أن يكون ذوو أدب مع من يتحدث معه ، وأعظم الأدب وجوبا مع الرب جل وعلا ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الخلق أدبا مع الله تعالى ، عن أنس رضي الله عنه قال : ‏أصاب أهل ‏المدينة في عهده‏ ‏قحط ‏فبينما هو يخطب بنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك‏ ‏الكراع ‏هلك الشاء فادع الله أن يسقينا ‏ ‏فمد يديه ودعا ، قال ‏‏أنس : ‏وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء ‏عزاليها ‏ ‏فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل ‏أو غيره ‏فقال يا رسول الله تهدمت البيوت فادع الله أن يحبسه فتبسم رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏ثم دعا وقال " اللهم حوالينا ولا علينا " ولم يقل عليه الصلاة والسلام اللهم أمسك رحمتك علينا وهذا من عظيم أدبه مع الله تعالى ، يقول أنس : فنظرت إلى السحاب ‏يتصدع ‏حول ‏المدينة ‏كأنه إكليل [ رواه أبو داود ] ولابد للمؤمن أن يتأدب مع نبينا صلى الله عليه وسلم ومع صحابته ومع والديه ومع سائر الناس .

الحادي عشر : الجن وقصة الذئب ...
العرب في تاريخها تزعم أن الجن تخشى الذئاب فيقولون عن الذئب مدحا :

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** صروفَ المنايا فهو يقضانُ نائم

وقد قصدوا من هذا أن الذئب متوثِّبٌ دائما ، ويزعمون أن الجن تهاب الذئب ، ولهذا نسمع أن بعض القراء في عصرنا يضعون رأس الذئب أو جلده عند باب منازلهم ، يوهمون بهذا وهم يقرؤون على الشخص الذي به مس أن الجني يهرب لما يرى من جلد أو رأس الذئب ، وهذا أمر خطير وخطره في العقيدة ولا يجوز شرعا ، لأنه لا بد أن يعتقد أن الله هو الذي يحي ويميت وينفع ويضر ، وأنه يجب أن تأخذ الرقية الشرعية مجراها الشرعي ، وقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستعن بمثل هذه الأمور .
هذا أيها الأحبة ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده عن عالم الإنس والجن ، ولا ريب أنه يمكن لغيرنا أن يدرس الأمر أكثر من ذلك وإنما هي إشارات وإضاءات في الطريق .

علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا ، وجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 

 صالح المغامسي
  • تأملات قرآنية
  • السيرة النبوية
  • مجمع البحرين
  • آيات وعظات
  • مشاركات إعلامية
  • خطب
  • رمضانيات
  • فوائد ودرر
  • صوتيات
  • الصفحة الرئيسية