اطبع هذه الصفحة


تأملا ت في سورة الأنعام ج1

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

الشيخ صالح بن عواد المغامسي

 
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن من المقدمات المهمة في تفسير سورة الأنعام أن هذه السورة سورة مكية وأن أكثر أهل العلم يقول : " إنها نزلت جملة واحدة " كما روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنه نزل معها سبعون ألف ملك يشيعها .


وقلنا إن هذه السورة أصل في حجة إثبات الحجة على المشركين وأنها اعتمدت على أسلوبين هما:

أسلوب التقرير وأسلوب التلقين، وبينا هذا في موطنه واليوم بإذن الله تعالى نتخذ وقفات مع آيات من هذه السورة المباركة سائلين الله فيها التوفيق والسداد:


قال الله عز وجل:
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام.

قلنا مرارا إن التفسير الحقيقي:
ليس بيانا للمفردات والمعاني فهذا أمر متيسر لكن التفسير الحقيقي أن تفهم المراد من كتاب الله في سياقه العام وأن تفقه الآية من السورة والسورة من القرآن، زمانا ومكانا ومناسبة حتى تتضح لك ما المقصود من كلام الرب تبارك وتعالى، النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث عانده الكفار من قريش فتارة يطالبونه بحجج منها أنه يقسم الأرزاق بينهم وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وتارة يسألونه عن أمور غيبية لا يعلمها إلا الله وتارة يعيبون عليه أنه يمشي في الأسواق ويأكل الطعام والشراب وأن هذا ليس من شأن الرسل، وتارة وهو الشق الثاني من الحجج تارة يقولون له إنك بدينك هذا إنما تريد أن تدعي الألوهية! هذان الضربان هما اللذان يجمعان نقمة كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.

هذه الآية التي أنزلها الله من باب أسلوب التلقين رد على مزاعم أولئك الكفار، (قُل) أي يا محمد (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ) أي يا كفار قريش (عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) النبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه أن يبين للناس أنما غاية المراد من دعوته أنه بشر يبلغ رسالة ربه ولا يملك قدرة على التغيير جبرية ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) [الغاشية : 22] ويخبرهم أن خزائن الله لا يملكها ولا يدعي أصلا أنه يملكها لماذا؟ لأن ملك خزائن الله أمر من خصائص الرب وحده جل وعلا وهذا مقام الألوهية والنبي صلى الله عليه وسلم ليس له من مقام الألوهية شيء، فلا يمكن له أن يقسم الأرزاق ولا الرحمة ولا الخيرات ولا العطاءات بين الناس لأن هذا من خصائص الرب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع يوما أنه إله، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) كما يخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كفار قريش أنه لا يعلم  الغيب . والغيب قلنا مرارا ضده الشهادة فيخبر صلوات الله وسلامه عليه أن ربه يأمره أن يبلغ الناس أنه لا يعلم الغيب فإذا بان ضعف الرسول في علم الغيب بالضد يظهر ماذا؟ كمال الله في العلم، وهذا الأمر هو المقصود من السورة كلها، أن يظهر الله للناس ضعفهم وعجزهم حتى يظهر لهم من باب أولى كمال خالقهم وعظمته جل وعلا وأنه منزه من كل عيب ونقص. ولذلك قال الله لما ذكر خلق السماوات والأرض قال (وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) [قـ : 38] أي لم يمسه جل وعلا إعياء لأن ذاته غير ذات المخلوقين فصفاته بالأمر اللازم غير صفات المخلوقين، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) وهذا الأمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم وقع حالا ومعنى , عليه وعلى الملائكة وعلى الأنبياء والرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.


الملائكة بين يدي ربها
: لما علم الله آدم الأسماء قال جل ذكره :{أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (31-32) سورة البقرة.

وخليل الله إبراهيم
: وهو أبو الأنبياء وثاني الرسل من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يأتيه الملائكة في صورة ضيوف فيذهب عَجِلا إلى بيته فيأخذ العجل ويذبحه ويشويه ويقدمه كل هذا وهو لا يعلم أن الضيوف ملائكة لا يأكلون الطعام، فلو كان يعلم لما فعل هذا كله وتعنى لهم، لكن حتى يبين الله لك وأنت تقرأ كتابه ضعف المخلوقين أيا كانوا وعظمة الرب جل جلاله وحده.

 ونبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام: كان ابنه يوسف في أرض مصر عزيزا على كرسي الوزارة يأمر وينهى ويأتيه الناس من كل مكان ويعقوب في أرض كنعان في بادية الشام والعراق قد ابيضت عيناه من الحزن على فقد ولده! وهو نبي يوحى إليه ومع ذلك كان عليه السلام يجهل أن ابنه في مقام عزيز ومكان رفيع ولو كان يعلم لما دمعت عيناه ولا اغتبط فرحا ولكنه شيء من الغيب الذي أخفاه الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم.


ورسولنا صلى الله عليه وسلم
: كان في المدينة وحوله من يكيد له الكيد ويحيق به الدوائر ربه يقول له { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (101) سورة التوبة .

وسليمان:
يعطى الملك والريح ومعه الجن والشياطين تأتمر بأمره وتذعن لخبره وتنفذ ما يطلب وتفعل ما يأمرها به ومع ذلك رغم هؤلاء الجند كلهم من يبصرهم ومن لا يبصربهم الناس يخفى عليه أن بلقيس كانت تعبد الشمس ثم يأتي طائر عجمي لا ينطق ليقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (22) سورة النمل .

هذا ما جرى على أنبياء الله ورسله وأخذنا منهم بعض الأمثلة. وما يقال عنا من باب أولى وأكثر وهذا يدل على أن علم الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده وسيأتي الحديث عن مفاتيحه بعد قليل.


(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)
تستنكرون علي أن أمشي في الأسواق! وأن آكل الطعام والشراب وهذا لا يكون إلا للملائكة وأنا أي محمد لم أقل يوما من الدهر إني ملك، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) إذن من أنت؟ (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) فهو صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء يأمره بكذا بالنذارة والبشارة فيفعل ما أمره الله جل وعلا به قال الله تعالى عنه : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) ثم بعد بيان هذا كله أنني أنا رسول وأدعو إلى رب بيده خزائن كل شيء ويعلم الغيب والشهادة يستحق العبادة فالأمر واضح جلي بين، قال بعدها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) [الأنعام : 50] وهذا استفهام إنكاري لأن (هَلْ) أداة استفهام بمعنى لا يستوي الأعمى والبصير، والمقصود بالأعمى والبصير هنا الضال والمهتدي العالم والجاهل الموحد والمشرك كلها يمكن أن تدخل في تفسير قول الله جل وعلا : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) وقول الله جل وعلا : (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) دلالة على أن العقول مخاطبة بشرع الله تبارك وتعالى.

لكن خذ قاعدة:

عندما تجادل إنسانا في قضايا العقل هل له دخل في الشريعة أو ليس له دخل؟ هذه مسألة تتكرر كثيرا بين طلبة العلم لكن فصل الخطاب فيها :
أن تعلم أن العقل مكتشف للدليل وليس منشئ له، فالدليل يضعه الله في كتابه أو على لسان رسوله وإنما أصحاب العقول يكتشفون تلك الأدلة ويتوصلون إليها بعد أن وضعها الله لهم في كتابه أو على لسان رسوله أو كانت آية من الآيات العامة المنثورة في الخلق.

هذه الآية الأولى التي نريد أن نقف عندها.


 الآية الثانية : آيات مسترسلات ست آيات بعضها بعد بعض، قال الله تعالى:

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ*وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ
مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ*قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ*قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (59-65) سورة الأنعام.

 
 نبدأ بالأولى:
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)
هذا أسلوب حصر مر معنا كثيرا وقلنا إن من أساليب الحصر في اللغة تقديم ما حقه التأخير وأصل الآية (مفاتح الغيب عنده)، فقدم الله الخبر على المبتدأ ليصبح المقام مقام حصر، فيصبح المعنى وعنده مفاتح الغيب أي ليست لأحد غيره مفاتح الغيب .

لكن لو قال: ( ومفاتح الغيب عنده ) يحتمل المعنى :
مفاتح الغيب عنده وعند غيره لكنه قال (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) جعل الأمر محصورا لأنه قدم الخبر على المبتدأ وقلنا تقديم ما حقه التأخير أسلوب من أساليب الحصر في بلاغة العرب .


(وَعِندَهُ)
أي عند الله ((مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)) مفاتح جمع مفتاح وهي عند النحويين اسم ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل.

 لكن الذي يعنينا هنا أن مفاتح الغيب - والقرآن يفسر بعضه بعضا- خمسة:

وقد مرت معنا في خطب ودروس عدة لذلك سنعيدها إجمالا لا على وجه التفصيل، يقول الله جل وعلا : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) النفي مع الاستثناء كذلك أسلوب من أساليب الحصر (لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) ثم لم يذكر الله في هذه الآية ما هي مفاتح الغيب لكن السنة فسرت القرآن قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله) ثم تلا : {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان. خاتمة سورة لقمان.

نقول إن مفاتح الغيب أمر لا يعلمه إلا الله لا يعطى لأحد . أما الغيب الباقي يمكن أن يُطلع الله جل وعلا عليه بعض عباده قال الله جل وعلا :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ..} [(27) سورة الجن]
، فقد يُطلع الله بعض عباده على بعض غيبه لكن مفاتح الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده لا يطلع عليه أحدا كائنا من كان إلا وقت المراد من الغيب نفسه.

 فقلنا بناء على آية لقمان أصبح أعظم الغيبيات
:
 
علم الساعة : وهي أعظم الغيبيات بدلالة القرآن والسنة فجبرائيل سيد الملائكة يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ( أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي علمي وعلمك فيها سواء والله يقول: (لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ) بل إن إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور لتقوم الساعة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه قد أحنى جبهته وأصغى أذنه والتقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ) فإذا الذي سينفخ إسرافيل لا يعلم متى ينفخ من باب أولى ألا يعلم الناس، فالساعة يا أخي أعظم الغيبيات.

(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)


 إنزال المطر:
تحديد وقته لا يعلمه إلا الله أما ما تراه من إرهاصات هذه مقدمات تصيب وتخطئ عوارض غالب الظن أنه يقع غالب الظن أنه لا يقع لكن لا يجزم بهذا أحد وقد نقل القرطبي رحمه الله عن بعض علماء المسلمين أن من جزم بنزول الغيب قال غدا مطر يكفر لأنه خالف صريح القرآن .

(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)
قلنا مرارا إن (مَا) هنا موصولة تدل على العموم أي يعلم ما في الأرحام إن كان ما في الرحم سقطا سينزل أو سيتم خلقه يعلم الله جل وعلا إن كان شقيا أو سعيدا يعلم الرب تبارك وتعالى إن كان سيعمر أو لا يعمر أمور شتى تتعلق به إن كان ذكرا أو أنثى إن كان كاملا أو خديجا، غير ذلك مما يتعلق به لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى.

(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا)
ونقول إنه فرق ما بين جدول العمل وبين ما تحصل عليه من العمل فإن المعلم يعلم جدول حصصه قبل العام وكذلك كثير من الناس ممن لهم أمور مرتبة وجداول وأعمال، لكن هل يحصل هذا العمل؟ هو الذي يسمى في اللغة كسبا وهذا لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى فقد يحول الله بين المرء وبين ما يريد قبل أن يقع الأمر بلحظات.

(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ)
وفي المسند : ( أن من أراد الله أن يقبض روحه في أرض جعل له حاجة إليها ). ومن جهل المكان من باب أولى أن يجهل الزمان والمقصود من هذا كله إجمالا لأنه قد مر معنا كثيرا أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الرب تبارك وتعالى.

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) .
هذه يا أخي من أعظم آيات الربوبية في القرآن .

يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه وعظيم إحاطته بخلقه وأن ما تراه العيون وما لا تراه مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وورق الأشجار على كثرته واتساعه وعظيم عدده لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى وهي على اتساعها أينما كانت وأينما غابت عن عيوننا الغيب والمجهول غياهب البحار ومفاوز البر كل ذلك ما يقع فيه وما يكون في ليل أو في نهار في أي زمان أو في أي مكان الله جل وعلا مطلع عليه قد علمه وكتبه وأراده وشاءه قال الله تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ) ثم تسقط ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة شمالا وجنوبا ثم تذوب ثم تهوي كل ذلك يعلمه الله جل وعلا لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (16) سورة لقمان.


والإنسان ستره الظلام أو كان في الضوء فالله جل وعلا مطلع عليه
علم الناس ما فعل أو لم يفعل الله جل وعلا مطلع عليه أسر في نفسه أم أعلن الله جل وعلا يعلم ذلك كله فالقلوب له مفضية والسر عنده  علانية ولا تخفى عليه من خلقه خافية.

(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ولا حبة)
أي ولا حبة تسقط (فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) وقوله جل وعلا : (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) أسلوب قرآني يسمى عطف عام على خاص لأن كل ما سلف لا يخلو من كونه إما رطب وإما يابس إما حي وإما ميت وهذا معنى رطب أو يابس. (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ولا حبة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) كل ذلك (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ فإن الله أول ما خلق القلم قال : اكتب , فقال ما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .

فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف وأنت تسعى وراء رزق سيأتي إليك أو تطلب شيئا لن يأتيك أبدا، فالعاقل من أحسن صلته مع ربه جل وعلا .

وأهل العلم والفضل يقولون: " من خسر مع الله جل وعلا ماذا ربح؟ ومن ربح مع الله تبارك وتعالى ماذا خسر؟ " فمن ربح مع الله لم يخسر شيئا ومن خسر مع الله لم يربح شيئا ولو أوتيت له الدنيا بحذافيرها. (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) .


ثم قال جل شأنه:
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} نسب الله جل وعلا هنا الوفاة إلى ذاته العلية رغم أنه نسبها كما سيأتي إلى الملائكة في آيات أخر لكن يقال إن نسبة الأمر إلى الله نسبة حقيقة ونسبة الأمر إلى غير الله نسبة تكليف أي كلف الله أحدا أن يقوم بها كما كلف الملائكة، وقول الرب : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) المقصود به المنام وليس المقصود به الوفاة الحقيقية .

وقد قلنا في تأملاتنا في سورة المائدة أن الوفاة في القرآن تأتي على ثلاثة معاني:

تأتي بمعنى الموت وقلنا منها قول الله تعالى
(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا).
 وتأتي بمعنى النوم مثل هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) وقول الله تعالى في سورة الزمر (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الله) .
وتأتي بمعنى الرفع وقلنا إن الله قال لعيسى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) .

والمقصود من هذا كله أن الوفاة هنا بمعنى النوم والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فسمى النوم موتة صغرى.


وصفوة القول أن يقال:

إن للروح علاقة مع الجسد تختلف من حال إلى حال علاقة قبل أن يوجد الجسد، يوم كانت أرواحنا في ظهر أبينا آدم، وعلاقة بعد أن نفخ فينا الروح يوم كنا أجنة في بطون أمهاتنا وعلاقة شبه كمال وهي علاقة الروح بالجسد في حال اليقظة وعلاقة أقل من هذا وهي علاقة الروح بالجسد في حال النوم وعلاقة لا نعلم كنهها وهي علاقة الروح بالجسد في حياة البرزخ فإن الإنسان ينعم ويعذب في حياة البرزخ وعلاقة وهي علاقة الكمال والتمام تكون بعد البعث والنشور لأنه لا موت بعدها.


نجم عن هذا ست علاقات:

قلنا علاقة في عالم الأرواح وعلاقة في عالم الأجنة وعلاقة في عالم اليقظة وعلاقة في عالم النوم وعلاقة في عالم البرزخ والسادسة علاقة بعد البعث والنشور، هذه العلاقة علاقة الروح مع البدن حال النوم.


(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ)
ثم تعود الروح ولم تكن قد أخذت بالكلية أما الكيفية فمسألة لا يعلمها إلا الله. (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) جرت سنة الله في خلقه أن النهار للمعاش فلما كان الإنسان في النهار يعمل ويكد من أجل عيشه يكد بماذا؟ يكد بجوارحه ولذلك قال الله جل وعلا : (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) فلما كان يكد الإنسان بالجارحة أخذ الله منها الفعل فجعله ملتبسا بالمعاش بالنهار فقال (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) أي ما كسبتم فعبر عن الآلة عما تسبب به الآلة فالذي يتسبب بالرزق الجارحة فعبر عنها الله لأنها تؤدي نفس الغرض.

(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ )
يبعثكم أي يوقظكم من منامكم (فِيهِ) أي في النهار لماذا؟ (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) وهذا باعتبار الأفراد لا باعتبار الجماعات بمعنى أن كل فرد له أجل مسمى كتبه الله جل وعلا عليه ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام : 60] وهذه مرت معنا كثيرا.

ثم قال جل ذكره: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بما أنه قاهر وقلنا إن السورة حجة في إثبات توحيد الربوبية والألوهية بما أنه جل وعلا قاهر مالك لجميع الخلق فإنه يفعل في خلقه ما يشاء. فكما أنه تبارك وتعالى خلقهم ورزقهم وجعل لهم طريقا موصلا إليه وقال : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) [الانشقاق : 19] أي أن الخلق أطوار منذ أن كانوا في ظهر أبيهم ثم في بطون أمهاتهم حتى وصلوا ثم أصبحوا ينامون بالليل ثم يبعثون بالنهار وانظر تسلسل الآيات بقي المرد إلى الله فقال الله جل وعلا {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فلما كان قاهرا مالكا ملكا حقيقيا متصرفا قال : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )[الأنعام : 61] .


هذه (
إِذَا ) في اللغة تأتي على ثلاث معاني:

تأتي قبل التلبس بالفعل
تقول إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ أي قبل أن تقوم إلى الصلاة ماذا تفعل؟ تتوضأ، إذا وقفت بين يدي الله فكبر هذا حال التلبس بالفعل، إذا صليت فاقرأ القرآن أي بعد دخولك في الصلاة بعد التلبس بالفعل .

هنا (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي حتى إذا قرب الموت وجاءت علاماته ودنت ساعته وحان الأجل ما الذي يحصل؟ قال الله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) الرسل هنا هم من؟ الملائكة.


 وينبغي أن تعلم أن قرب الله من خلقه من عباده على طريقين:

قرب بذاته وقرب بملائكته فالقرب بالملائكة هذا واحد منها وقد فسره الله جل وعلا في سورة الواقعة قال سبحانه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} (85) سورة الواقعة، وليس قرب الله بذاته إنما قرب الله  بماذا ؟بملائكته. (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) الأصل أن الموكل بقبض الأرواح ملك لكن هذا الملك له أعوان.


 ومفهوم الآية لا يخلو من أحد أمرين وبهما قال العلماء:

إما أن تكون الملائكة هي التي تخرج الروح حتى إذا دنت من الحلقوم تركتها لملك الموت فهو الذي يقبضها والله يقول : {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (11) سورة السجدة .


الجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة :

الله يقول في هذه الآية آية الأنعام : (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) وقال في السجدة : (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ) نقول : قال بعض العلماء : إن الملائكة تقبض الروح تستلها من الجسم كله استلالا يختلف من روح المؤمن إلى روح الكافر وليس هذا موضع بيانه فإذا دنت الروح من الحلقوم قام ملك الموت بالنزع الكلي أو الآخر هذا قول.


وقول آخر
: أن ملك الموت هو الذي ينزع الروح وقد جعل الله له العالم كالمأدبة بين يدي من يريد أن يأكل يأخذ منها كيفما يشاء فإذا كثر عليه في يوم قبض الأرواح مجرد أن يناديها تأتي وكل ذلك بأمر الله وسواء صح هذا أو لم يصح العقل لا يرده والشرع لا ينافيه، والمقصود هذا رأي.

الرأي الثاني :
أن يكون ملك الموت هو الذي يقبض الروح وحده، وليس لأحد غيره من الملائكة يعينه في قبض الروح ثم إذا قبضها لا تلبث في يده حتى يعطيها ملائكة آخرين فإن كانت روحا مؤمنة أعطاها لملائكة الرحمة - جعل الله جل وعلا أرواحنا وأرواحكم كذلك . وإن كانت روحا كافرة أعطاها ملائكة العذاب وهذا الرأي الثاني هو الذي تميل النفس إليه والله أعلم.

(حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )[الأنعام : 61]
.أي لا يضيعون في قبض الأرواح وإنما لا يتقدمون قبل الأجل ولا يتأخرون بعد الأجل فحيثما أمرهم الله زمانا ومكانا يكونوا عليهم السلام.

(ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ)
و( ثُمَّ ) حرف عطف لكنه يفيد التراخي ، التعقيب والتراخي فيه فترة زمنية ما بين قبض الروح وأن ترجع إلى الله ليحكم بينهم هي التي تسمى حياة البرزخ (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) .

(ثُمَّ رُدُّواْ)
أي الخلق (إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) بكسر القاف لأنها صفة للفظ الجلالة.

(ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ)
تبقى مسألة لغوية هنا: الله هنا يتكلم عن جميع الأرواح مؤمنها و كافرها فكل الأرواح مردها إلى الله وقال الله في نعت ذاته العلية هنا (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) مع أنه قال في سورة محمد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (11) سورة محمد.

 فكيف يستقيم الجمع بين أن الله يقول في كتابه
((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)) ثم يقول في آية عامة (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ)؟

 و الجواب عن هذا أن يقال:
إن كلمة مولى لفظ مشترك لعدة معان يأتي بمعنى المُعتِق ويأتي بمعنى المعتَق فيقال للسيد الذي أعتق: مولى، ويقال للعبد للذي أُعتق: مولى، هذا أحد معانيها .

ويقال مولى بمعنى مالك الملك وهو المراد بالآية هنا فقول الله جل وعلا : (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ) أي مالكهم وأما قول الله في سورة محمد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم وقول الله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم، و إلا الكفار والمؤمنون مُلك لمن؟ ملك لله، فمعنى مولى في سورة محمد ناصر ومعنى مولى في سورة الأنعام مالك الملك، والله مالك ملك أهل الكفر وأهل الإيمان أما أن الله ناصر لأهل الإيمان بلا شك وليس الله بنصير لأهل الكفر. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من كنت مولاه فعلي مولاه) أي من كنت ناصره وحاميه فعلي ناصره وحاميه، هذا معنى مولى في هذا الحديث الشريف. قلنا يتحرر من هذا أن معنى مولى لفظ مشترك لعدة معان وهي في سورة الأنعام بمعنى مالك الملك ولا شك أن الله كما بينا مالك للعباد كلهم.


( ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)
[الأنعام : 62] وقول الله (أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ) فيه إشارة خفية إلى أنه ليس لأحد أمر لازم على الله، وإنما الله يحكم بما شاء يدخل من يشاء برحمته ويعذب من يشاء بعدله.

(أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)
الله جل وعلا ليس ذاته كذات المخلوقين فلا يقاس ما في أذهاننا من الحساب على ما نعلمه من محاسبة المخلوقين بعضهم لبعض فالله جل وعلا كما أن خلقه خلقهم تبارك وتعالى خلقا واحدا قادر على أن يخلقهم جملة وقادر على أن يميتهم جملة وقادر على أن يبعثهم جملة كذلك قادر سبحانه وتعالى على أن يحاسبهم جملة فهو جل وعلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.

ثم قال الله جل وعلا :
{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.

ما زال السياق في أن القضية سورة مكية والمقصود منها في المقام الأول إثبات توحيد الألوهية لكن إثبات توحيد الألوهية لا يقوم إلا إذا ثبت توحيد الربوبية.


وقلنا إن هذا أسلوبان:
أسلوب تقرير وأسلوب تلقين.
بيان ذلك أن الله جل وعلا يخاطب هؤلاء أهل الإشراك الذين يشركون مع الله يخاطبهم بأرض الواقع ويقول لهم جل وعلا: إنكم تسافرون في البر وتسافرون في البحر ويصيبكم من المشاق والكوارث والمصائب ما يجعلكم وأنتم مشركون في حال الرخاء يجعلكم توحدون الله ولا تسألون معه غيره، كما قال الله جل وعلا في عدة سور أنهم يلجؤون إلى ربهم وحده دون سواه: {دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونس، والله تبارك وتعالى يبتلي عباده كائنا من كان ويدلل جل وعلا في خلقه المنثور وكتابه المسطور في الأرض على أنه الرب الأوحد والمالك الذي لا يقدر على النفع ولا على الضر إلا هو لا يكشف بلوى ولا يدفع ضرا إلا هو ولا يعطي عطاء ولا يمنح رحمة إلا هو (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وليس المقصود عين الظلمة وإنما المقصود ما في البر والبحر من مشاق ومن مفاوز ومن أمور تصيب الرجل والمرأة والجماعة والفرد على السواء فإذا أصابهم الأمر وتيقنوا بالهلاك وعظم عليهم الأمر واشتد عليهم الكرب علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فلجؤوا إلى الله جل وعلا مخلصين يتضرعون بالدعاء سرا وإعلانا فردا وجماعات خفية وتضرعا فإذا نجاهم الله واستجاب دعاءهم ونقلهم من حال الخوف إلى حال الأمن ومن حال الضراء إلى حال السراء نسوا ـ عياذا بالله- كل ذلك الأمر ولجئوا من جديد إلى شركهم قال الله جل وعلا : {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} (12) سورة يونس، وهذا أمر يتحقق في القريب والبعيد في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر وفي الزمن المستقبل كم من تاجر خاف على تجارته وأيقن بغرقها أو بتسلط غيره عليها أو أيقن بالخسران فزع إلى الله في ظلمات الليل يسأل الله ويدعوه فلما نجا الله له تجارته وأنعم عليه ورزقه أخذ تلك الأموال التي اكتسبها فأنفقها في غير طاعة الله وربما سافر بها سفر معصية، وهذا مرحلة أدنى، لكن المرحلة الأعظم التي عناها الله في هذه السورة أن أولئك أهل الإشراك يرون الموت عيانا فيفزعون إلى الله بقلوبهم وجوارحهم وألسنتهم ويصرون على الدعاء ويلحون ثم إن الله لعظمته وحلمه وكمال رحمته ينعم عليهم وينجيهم حتى إذا شعروا بالأمان والرخاء لجأوا إلى أصنامهم وأوثانهم وما غلوا فيه يعبدونه ويسألونه من دون الله وحتى تعلم أنه لا شيء أعظم من أن تشرك مع الله جل وعلا غيره وأن يكون قلبك الذي فطره الله وخلقه وسواه وجبله على التوحيد وعلى إخلاص العبادة له أن يعطى بعد ذلك كله لغير الله وأن يلهج لسانك بأي فرد ملكا أو أميرا أو سلطانا أو عالما أو داعية أو والدا أو ولدا أو زوجة أو ابنا أو محبا تحبه تجعله مقدما على حبك لله جل وعلا ومن أراد ما عند الله من النعيم وخاف ما عند الله من الجحيم لم يقدم على ذات الله أحدا كائنا من كان لا والدا ولا ولدا ولا أما ولا زوجة ولا أحدا كائنا من كان لا يتعلق قلبه لا بممثل ولا بلاعب ولا بمعلم ولا بطالب ولا بسائر أحد وإنما يجعل فؤاده وقلبه للرب تبارك وتعالى . هذا هو التوحيد الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الله من أجله الكتب وأقام النبي صلى الله عليه وسلم من أجله الجهاد، أما غير ذلك فكلما نقص حظ الله منك نقص حظك من الله، كلما ابتعدت عن الله في توحيده وذكره وإجلاله ومحبته كنت من رحمة الله جل وعلا أبعد وإلى عذابه أدنى، قال الله جل وعلا : (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا) أي من هذا الكرب المخصوص الذي تسألونه بل إن الله لا يكتفي بأن ينجيكم من كرب مخصوص تدعونه بعينه قال الله : (وَمِن كُلِّ كَرْبٍ) أي ومن كل كرب عام علمته أو لم تعلمه وقد ينجيك الله من كرب لم تدعه أن ينجيك منه لا تعلم أن ذلك الكرب في طريقك لكن الله جل وعلا يزيله عن طريقك من غير أن تعلم .


ثم يقول الله جل وعلا بعد ذلك وبالا وعارا عليهم :
(قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) أي مع تلك النجاة وتلك الرحمة وذلك الحلم من الرب تعودون كما كنتم تشركون مع الله جل وعلا غيره.

والمقصود من هذا كله:

أنه لا يعقل أن نفسر سورة الأنعام وقد جعلها الله جملة في أغلب آياتها خصيصة للتوحيد ودعوة إلى الإيمان به ونبذا للشرك ودفعا للإشراك ثم لا يخرج الإنسان منها بثمرة تجعله يسير في سائر أيامه حتى يلقى الله وليس في قلبه أحد يحبه ويوالي ويبغض ويعادي عليه إلا الرب تبارك وتعالى. - جعل الله قلوبنا وقلوبكم على تلك الفطرة السليمة -.


ثم نقول قال الله بعدها :
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ..} (65) سورة الأنعام.

مناسبة الآية لما قبلها :
أن الله كما بين أنه قادر على أن ينجي من المهالك قادر على أن يلقيكم فيها .

(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ
) مثل الرجم (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) مثل الخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هذه الآية لا تحتاج إلى كلفة في الشرح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري وغيره لما نزلت هذه الآية جاء بها جبرائيل فجبرائيل وهو يتلوها على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) فهذا النبي استعاذ بوجه من؟ بوجه الله، فلما استعاذ النبي بوجه ربه أعاذه الله، تفهم من هذا أن هذه الأمة لا يمكن أن تهلك بعذاب عام من السماء، قال جبرائيل: (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) ومن هذا تعلم أن هذه الأمة كأمة مجتمعة لا يمكن أن تهلك بخسف من الأرض، ثم قال جبرائيل يتلو كلام الله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هنا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهه، ليمضي قدر الله قال صلى الله عليه وسلم : (هذه أهون) وفي رواية ( أيسر) وفي رواية أخرى (هاتان أهون وأيسر) , ولم يستعذ بالله ليمضي قدر الله، وهذا أمر مشاهد واضح جلي أن الأمة ذاق بعضها بأس بعض، فمنذ أن قتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا والأمة يذيق بعضها بأس بعض، ونتكلم بوضوح آخر ما حصل في قامعة الدولة الإرهابيين الذين ماتوا من الطائفة هذه مسلمين ومن الطائفة هذه مسلمين، هذا ما يقوله الله جل وعلا : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) صحيح أنهم خارجون عن طاعة ولي الأمر وأن ما فعلوا خطأ محض وأن ما فعلوه أمر لا يجوز شرعا لكن هذا لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، والذين ماتوا ممن كانوا تحت طاعة ولي الأمر مسلمين، فهذا معنى قول الله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ).

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً)
الشيع الفرق والأحزاب (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) الأمة منذ مقتل عثمان في أكثر أزمنتها وهي متفرقة أهواء وفرقا وشيعا ويذيق بعضها بأس بعض.

 وأعلم أن هذه الأمة فنبينا صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض وقال: (إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) أي ملك فارس وملك الروم، (وإنه زويت لي الأرض وسيبلغ ملكي ما زوي لي منها). ثم دعا صلى الله عليه وسلم ربه ألا يهلك أمته غرقا فاستجاب الله جل وعلا له، فمن خوف الأمة أنها ستموت كلها غرقا لا تخوف لأن هذا أمر سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه وأعطاه الله إياه ثم سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها، سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها بيضتها: يعني مركزها مقامها أصلها جرثومتها هذا كله يطلق على البيضة العصبة الرئيسة، فاستجاب الله جل وعلا كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وسأله ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه الله جل وعلا ذلك، وأخبره (أنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد).


 تفهم من هذا أمور وهذه مزية العلم
:
لما حصل غزو العراق من قبل أمريكا خاف الناس وبعضهم أرجف بقول أن تسلط أمريكا على دولة الحرمين وتهلك مكة والمدينة ولا شك أن الذين خافوا قوم غيورون يريدون الخير للأمة، لكن من كان لديه بضاعة قوية من العلم كان يعلم أن هذا لا يمكن أن يقع لا يمكن أن يقع قدرا ولا شرعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ربه وعد أنه لا يسلط عدوا من خارج الأمة على أمة الإسلام يستبيح بيضتها وكل من كان منصفا علم أن بيضة الإسلام اليوم هي دولة الحرمين ومكة والمدينة بالذات، الدولة الحامية لها، هذه بيضة الإسلام اليوم لا يمكن أن تمكن لا لأمريكا ولا لغيرها أن يسلط تسلط عسكري على أرض الحرمين يستبيح بها بيضتها وتهلك فيها بالكلية هذا أمر لا يمكن أن يقع لا على يد أمريكا ولا على يد غيرها؛ لأن هذا أمر سأله نبينا صلى الله عليه وسلم ربه فأعطاه الله إياه، لكن الله منع نبيه صلى الله عليه وسلم لأمره وقضائه وحكمته لما سأله ألا يسلط بعضهم على بعض هذه قال الله جل وعلا فيها (إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) وهذا أمر مشاهد فإن الأمة تفرقت فرقا وأحزابا وشيعا منذ القدم منذ مقتل عثمان وحرب علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما بعد ذلك والأمة يذيق بعضها بأس بعض للأسف، والمفر من هذا كله أن يعتصم الإنسان بكلمة المسلمين وأن يلزم طاعة ولي الأمر وأن يعلم أن يد الله جل وعلا مع الجماعة وأنه من خرج عن الإيمان قيد شبر مات ميتة جاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر وأمر بأمور عدة تقوى بها شوكة الإسلام والتفاف الناس بعضهم إلى بعض كلما كانوا متحدين متفقين على إمام واحد كان ذلك أغيض للعدو وأعظم لإقامة شرائع الله وحدوده والكمال عزيز والنقص موجود لكن لا يسدد مثل ذلك إلا بالتناصح والتشاور والسمع والطاعة في غير معصية الله تبارك وتعالى.


المقصود من هذا:

بيان أن الله سبحانه وتعالى بين وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأمور التي يسترشد بها العاقل ويستنير بها المؤمن ويتقي بها البصير ويعرف الجميع الطريق الموصل إلى الله وهذه مزية أهل العلم على غيرهم في أنهم يعلمون من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت الله جل وعلا به فؤادهم ويهديهم إلى صراط مستقيم.


لذلك الله قال بعد هذا كله :
{انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ولا ريب أن الله فصل الآيات وأبان لعباده طرائق الحق والطريق المستقيم وأوضح ما يقرب منه وما يدل عليه وما يرشد في أمر الدين وأمر الدنيا لكن الناس يتفاوتون في مقدار العلم وحتى أهل العلم يتفاوتون في مقدار الأخذ بالعلم والسمع والطاعة لله والعمل بما يعملون فكم من إنسان حافظ للقرآن متدبر له لكنه لا يعمل به ويعلم معانيه ومواطن نزوله وناسخه ومنسوخه لكنه لا يعمل به شيء ومنهم من أضله الله على علم يقرأ ويأخذ لكنه لا يستفيد منه في واقع الحياة شيئا، وهذه رحمة من الله وفضل يؤتيه الله من يشاء ومن أخلص لله النية وصدق مع الله بلغه الله مناله وأعطاه مراده .

سائلين الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق . وصلى الله على محمد وعلى آله.

 

 صالح المغامسي
  • تأملات قرآنية
  • السيرة النبوية
  • مجمع البحرين
  • آيات وعظات
  • مشاركات إعلامية
  • خطب
  • رمضانيات
  • فوائد ودرر
  • صوتيات
  • الصفحة الرئيسية