اطبع هذه الصفحة


تأملات في سورة التوبة ج2

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

الشيخ صالح بن عواد المغامسي

 
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين , أما بعد .

فما زلنا وإياكم نتفيؤ دوحة سورة التوبة في التعليق عليها وقد سبق الحديث عنها أولاً حول مجمل عدد أيائها وأسمائها وما تعلق بها من موضوعين رئيسيين في الجزء الأول من التأملات في نفس السورة .

وقلنا إن هذه السورة هي السورة الوحيدة في القرآن التي لم تصدر بقوله جل وعلا : {بسم الله الرحمن الرحيم} وذكرنا أن للعلماء في هذه أقوال عدة خلصنا منها إلى ثلاثة أقوال ثم قلنا إن من أرجح الأقوال فيها أنها نزلت بالسيف وأن {بسم الله الرحمن الرحيم} تتضمن الرحمة والآمان وهذان لا يتفقان وقلنا إن هذا القول منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وإلى سفيان ابن عيينه رحمه الله تعالى وهذا قلنا هو الذي يظهر لنا ترجيحا والله تعالى أعلم .  وذكرنا رأيين دونهما في القوة كما قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا ابن أبي طالب رضي الله عنه ملحقا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسيرة أبي بكر رضي الله عنه أميرا للحج في السنة التاسعة من الهجرة وقلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يحج في ذلك العام لأن العرب كان يطوف بعضهم عريان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا بأربعة أمور ذكرناه فيما سبق وأنا أقولها إجمالا حفاظا على الوقت : أمره بأن من كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنه، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك . وأنزل الله جل وعلا قوله :
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا }.


 
ثم شرعنا في بيان الآية الخامسة منها وهي آية السيف وتكلمنا عنها وشرحنا ما تعلق بها من عام وخاص وفق ما سلف قوله .

اليوم إن شاء الله تعالى نختار كالعادة بعضا من آيات هذه السورة ونحن نكرر في سائر دروسنا أنا لا نفسر جميع آيات السورة وإنما نختار منها بحسب الحال حتى نحاول أن نعرج على القرآن كله وقد بدأنا ولله الحمد بالبقرة ونحن الآن في سورة التوبة .


فنقول سنقف اليوم عند قول الرب تبارك وتعالى :
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.... } إلى آخر هذه الآية،ثم سنقف إن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى { و َالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ...}وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... }هذه مواضيع لقاء هذا اليوم نسأل الله جلت قدرته أن ييسر إلقاءها والنفع بها للقائل والسامع.

فنقول : الله جل وعلا في هذه السورة ذكرنا فيما سلف أنه ذكر فيها المجتمع المدني الذي كان يعم بالأخيار لكن لم يكن يخلوا من المنافقين وأن المنافقين كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ممن مردوا على النفاق كما أخبر الله جل وعلا في القرآن وهذه السورة سميت بسورة الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وقلنا إن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقول : " ما يزال ينزل من هذه السورة ومنهم....ومنهم....ومنهم حتى لاتكاد تدع أحدا منهم " نسأل الله العافية، فقوله{مِنْهُم} هذه " من " : بعضيه وليست بيانيه وستمر علينا البيانيه.

لكن قول الله تعالى :
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}معنى الآية :
وبعض منهم أي بعض من المنافقين يلمزك في الصدقات .

وأصل الأمر أصل الآية :
أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حنين قسم الغنائم فأعطى أقواما حديث عهد بالإسلام وبعضهم مشركين أعطاهم من الغنائم يتآلفهم بها صلوات الله وسلامه عليه فجاءه رجل يقال له ذو الخويصره التميمي قال له : " يا رسول الله اعدل كما أمرك الله " فقال عليه الصلاة والسلام: ( ويحك إن لم اعدل فمن يعدل ) . فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال : "  يا رسول الله إذن لي أن أضرب عنقه " فقال عليه الصلاة والسلام : ( لا حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) وهذا أخذ بما يسمى في السياسة المعاصرة : أخذ باعتبار الرأي العام . فقال : ( لا حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) . ثم لما ولى قال عليه الصلاة والسلام : ( سيخرج من ضئضئي هذا أقوام يقرؤون القرءان لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) فكان هذه أول نبته تاريخيه لما يسمى بعد ذلك بالخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.


وقد اختلف العلماء في أي أول فرق الإسلام ظهورا من أهل البدع :

قال بعضهم الخوارج وقال بعضهم الشيعة والصواب أنهم أشبه بالمتلازمين مع بعضهما البعض وإن كان الأصل في الخوارج إذا اعتبرنا ذوالخويصرة منهم بأنه رأسهم لا شك أنهم أقدم تاريخا لأنهم ظهروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .


قال الله جل وعلا :
{ وَمِنْهُم } أي من المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ} أي يعيبك وينتقصك وهذا رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله. فلما فسد القلب فسد اللسان فسد التعبير قال عثمان رضي الله عنه : " ما أسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه " ـ جعلنا الله وإياكم ممن يسر الخير ـ فهذا الرجل شارك مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حنين وحارب وغزا لكنه كان يسر الشر في قلبه فلما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أمين من في السماء واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرءان ومع ذلك لما أخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحة العليا للإسلام يأتي هذا من بين الناس قال له : " يا رسول الله اعدل كما أمرك الله " فقال عليه الصلاة والسلام : ( ويحك إن لم اعدل فمن يعدل ) . فهذا الرجل أسر السريرة المريضة في قلبه وهي سريرة النفاق وأظهر ما يخفيه وأظهر خلاف ما يبطنه فلما جاء هذا الموقف لم يصبر فأخرج السريرة التي من قلبه وأخذ يعترض على حكم وتقسيم نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه الرب تبارك وتعالى من فوق سبع سموات والله جل وعلا يقول :{ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .

الله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } أي يعيبك { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ومن دلالة القبول قبول الإنسان للحق أو مراده للهوى أن يُنظَر في تصرفه حال المنع والإعطاء . فمن الناس من يأتي يسألك وقد بيت الإجابة من قبل إجابة يريدها فإن وافقت إجابتك له الإجابة التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لا تصل إلى علمهم وإن قلت له إجابة لا يريدها تخالف هواه تخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك من المعايب ويظهر ما فيك من النقائص لأن إجابتك لم توافق هواه فهو لا يريد الحق يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو، فالله يقول عن هؤلاء :{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } فهم لا يريدون نصرة دين ولا إعلان كلمه ولا إقامة حق إنما يردون أن يتبعوا أهواءهم فإن أعطيتهم أثنوا عليك وقالوا محمد كذا ومحمد كذا صلى الله عليه وسلم يمدحونه وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك لأنهم أصلا لا يريدون الميزان الحق وإنما يريدون ما يتبع أهواءهم هذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها لكن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقا فليس أمر نطبقه على الغير معاذ الله نحن نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم فهؤلاء ليسوا مثلا يضربه الله للناس وإنما هذا قوم حصل منهم هذا الأمر ووقعت منهم الواقعة {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} وقلنا إن من ذرية هذا الرجل ظهرت فرق الخوارج بعد ذلك والخوارج والشيعة كما قلنا متلازمان.

وعلى وجه الإجمال نتكلم بعض المقارنة العلمية المحضة بين الفريقين:
الأمر الأول :
كلاهما فيه الغلو لكن الفرق أن الخوارج يغالون في الأحكام فيتشددون فيها على غير علم . والشيعة يغالون في الأشخاص . فلما غالى الشيعة في الأشخاص غالوا في علي وآل البيت حتى أوصلوهم إلى منازل ليست لهم حتى قال الخميني في كتاب له اسمه " الحكومة الإسلامية " يقول : " وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لا ينالها ملك مقرب ولانبي مرسل " طبعا يقصد بأئمتهم الأئمة الإثني عشريه من آل البيت فهؤلاء آل البيت قوم مرضيون عنهم صالحون لكن هؤلاء غلوا فيهم مغالاة فاحشة فوق منازلهم .
الخوارج يغالون في الأحكام يأتون للحكم فيتشددون فيه على غير فهم ولا غير علم ينزلونه جبرا على الناس .


الأمر الثاني :
الخوارج يعتمدون على الصدق والمكاشفة ولا يضمرون شيئا والشيعة يعتمدون على التقيا والمواراة والالتفات . فالخوارج قوم يظهرون ما عندهم ولذلك جابهوا الأحكام عبر الدهور ،جابهوا عليا جابهوا الأمويون جابهوا عبدالملك لا يوارون شيئا لا يستترون بشيء لكن الشيعة قوم يتحايلون لأنهم يؤمنون بالتقيا حتى خروج المهدي الذي يزعمون أو يرتقبون خروجه .

ينجم عن هذا
:
أن الخوارج يعتمدون على الصدق لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر فلا يكذبون في حين أن الشيعة يعتمدون على الكذب لأنهم يعتقدون بجواز التقية فيعتمدون على الكذب والخوارج لا يرون الكذب أصلا لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر فيعتمدون على الصدق ولذلك عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأخرج له البخاري في الصحيح اعتمادا على أنه لا يكذب أبدا في كلامه لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر هذه من الفوارق ما بين الشيعة والخوارج.


الأمر الثالث :
الخوارج أشد شجاعة لا يخافون الموت لا يهابونه عبر التاريخ كله. يقول قطري بن الفجاءة :

أَقولُ لها وقدْ طَارتْ شَعَاعا *** مِن الأَبْطال وَيحَكَ لنْ تُراعِي
فَإِنكِ لَوْ سَألتَ بَقَاءَ يـــَـــومٍ *** عَن الأَجلِ الذِي لكِ لَنْ تُطاعِي
فَصَبْراً في مَجالِ المَوتِ صَبرَا *** فَمَا نَيْلُ الخلُودِ بِمُسْتَطــاعِ

هذه الأبيات كلها لرجل من أكبر زعماء الخوارج اسمه: قطري ابن الفجاءة في حين أن الشيعة يعتمدون على بقاء أنفسهم عبر التاريخ ويحافظون على سلامة أنفسهم ماستطاعوا إلى ذلك سبيلا .

هذه مقارنه بسيطة علمية ما بين الفريقين دفع إلى القول بها حديثنا عن ذي الخويصره.


ثم قال الله جل وعلا
:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } يبين الله جل وعلا هنا المنهج الحق في الإنسان إذا أعطي أو منع يبين المنهج الحق في الإنسان إذا منع أو أعطي .

الإنسان عبد لله والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم ليكن ليصيبه وأن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها كما قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتقوا الله وأجملوا بالطلب ) فالله جل وعلا يقول كان المفترض الموقف الشرعي لهؤلاء :{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } لو قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله علقوا أنفسهم بالله طبعا ذكر الرسول هنا لأنه كان حيا ولا يقال هذا اليوم.{ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }أي ينقطعون إلى الله , فلو أنهم انقطعوا إلى الله وسلموا بأمره ورضوا بحكمه جل وعلا وقالوا حسبنا الله لكان خيرا لهم وأعظم وأهدى سبيلا وهذا هو الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه على كل حال، في حال الفقر وحال العطاء وحال المنع وحال الأخذ وحال السراء وحال الضراء وعلى كل حال.

ثم قال الله وهذه الآية الآن : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء }آية عارضه داخله في مجمل بيان الله لأحوال الناس وإنما دفع القول بها قطعا لأطماع المنافقين أن يكون لهم حظ من المال .

قال الله تعالى :
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } " إنما " لغويا تفيد الحصر وهي أحد أساليب الحصر في لغة العرب وبالتالي أحد أساليب الحصر في القرآن فقول الرب تبارك وتعالى :{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء }ثم ذكر باقي الثمانية دليل على أنه لا يجوز أن تعطى الصدقات لغير هؤلاء الثمانية .

{ الصَّدَقَاتُ }
هنا المقصود بها الزكاة الشرعية وليس المقصود بها صدقة التطوع . وإنما الزكاة التي هي قرينة الصلاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام .

{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ }
أنا سأشرح الآن لن أشرح فقهيا لأن هذا الدرس تفسير لكن سأذكر إجمالا ما يمكن أن تستفيد منه من هذه الآية دلت الآية على أمور:

الأمر الأول :
حصر أصحاب الزكاة الثمانية.

الأمر الثاني :
أن الله جل وعلا تولى تقسيم الزكاة والله قد خلق النفوس وهو جل وعلا أعلم بحبها للمال. وقال تبارك وتعالى :{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } وقال سبحانه : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } والخير هنا بمعنى المال. فالمواريث والزكاة لأنها حقوق ماليه تتعلق بها أنفس الناس لم يكل الله توزيعها لأحد وإنما تولى الرب جل وعلى مصارفها وتقسيمها . قال الله جل وعلا :{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } وقال سبحانه :{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} فقسم تبارك وتعالى المواريث وقسم تبارك وتعالى وحدد أصناف الزكاة وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن كل ذلك حتى لا يبقى لأحد مشاحه في أحد ولايبقى تطلع أكثر مما هو مذكور في القرآن فعلى هذا علم الله جل وعلا وهو أعلم بخلقه تطلع النفوس للأموال فحسم الرب تبارك وتعالى تعلق العباد بها فقال جل وعلا : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء} الأصناف المذكورون هنا الأصناف ثمانية كما هو ظاهر الآية وقرن الله جل وعلا بين كل صنف وصنف بواو العطف.

الأمر الثالث :
ذكر الله جل وعلا أربعة " باللام " وأربعه بحرف الجر " في " فقال جل ذكره :{ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } هؤلاء " باللام " وقال :{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} ثم أعاد العطف قال :{ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } مجمل ما يراد قوله هنا :

أن " اللام " تعني التمليك فيملك الفقير ويملك المسكين ويملك العامل ويملك المؤلفة قلوبهم المال ولا يقال له نشترط عليك أن تضعه في كذا أو تضعه في كذا وإنما تعطي الفقير أو المسكين أو العامل أو المؤلفة قلوبهم هؤلاء الأربعة الأوائل المال بيده فيقبضه فيدخل ملكه وهو حر في أن يفعل به مايشاء . أما قول ربنا :{ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ }{ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فهذه لا يشترط أن تعطى لهم . وإنما إنسان مثلا غارم يعطى دينه لمن له عليه الدين يعني : للدائن .
{ وَفِي الرِّقَابِ}
فك الرقاب : العتق سوف يأتي فيعطى لصاحب الرقبة حتى يعتقها أو للمكاتب حتى يفسح عنه كما سيأتي . فالفرق بين " اللام " و" في " يختلف اختلافا جذريا كما بينا .

الأمر الرابع :
ذكر الله الأهم فالأهم لأن الأصل الواو لا تعني الترتيب الصحيح لكن دلت السنة عموما على أن هناك خصائص في التقديم فالنبي عليه الصلاة والسلام صعد الصفا وقال : ( أبدأ بما بدأ الله به {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ }) فقدم الصفا لأن الله قدمها في كتابه وإلا الأصل أن الواو في لغة العرب لا تعني الترتيب لكن قلنا إن تقديم الله جل وعلا هنا يدل في الغالب على تقديم الأهم فالأهم .

قال الله جل وعلا :
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ }اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين لكن الآية تدل عموما على أن الفقير أشد حاجة من المسكين وهذا الذي نرتضيه وإن كان في المسألة أكثر من عشرة أقوال لا حاجة لذكرها لكن الفقير من كان أشد حاجة من غيره من المسكين .

الفقير والمسكين :
هما شخصان غلبت عليهما المسكنة والحاجة إلى المال إلا أن أحدهما أشد من الآخر.

ثم قال جل وعلا :
{لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} العاملين : القائمين على الزكاة السعاة الجباة المسؤولين الإداريين عن جمع الزكاة هؤلاء هم العاملون .

ثم قال جل وعلا :
{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } المؤلفة قلوبهم : لم يرد في القرآن كله ذكر لهذا الصنف من الناس إلا في آية الزكاة لم يرد في القرآن كله ذكر لكلمة المؤلفة قلوبهم إلا في ذكر تقسيمه للزكاة فيوجد في القرآن مشركون كفار منافقون مؤمنون مجاهدون توجد أصناف كثيرة تتكرر لكن كلمة مؤلفة قلوبهم لم ترد في القرآن هذه الطائفة إلا في ذكر مصارف الزكاة .

نعود إليهم المؤلفة قلوبهم : قد يكونون أهل إيمان وقد يكونون أهل كفر والجامع بينهما أن في إعطائهما مصلحة الإسلام الجامع . فمثلا : إما كافر يعطى ولو كان كافرا دفعا لشره أو كافرا يعطى تأليفا لقلبه أن يسلم أو مسلم ضعيف الإيمان يعطى وله شوكه مسموع الكلمة مطاع يعطى زيادة في إيمانه أو مسلم لتوه داخل في الإسلام وله نظراء من الكفار فإذا أعطيناه طمع غيره ونظراؤه من الكفار في الدخول في الإسلام .


واختلف العلماء في هذا السهم، سهم المؤلفة قلوبهم باق أو منسوخ:

فقال بعضهم إن هذا منسوخ لأن الله عز دينه وهذا كان في أول الإسلام والحق الذي عليه المحققون من العلماء والجمهور أنه غير منسوخ لأن الأحوال تختلف والعصور تتباين فيطبق في كل عصر ما فيه مصلحة المسلمين العليا وإن أسقطه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.


ثم قال جل وعلا :
{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ }الرقاب تحتمل أمرين : الأمر الأول : أن يشتري صاحب الزكاة ـ المزكي ـ من زكاة ماله عبدا أو أمه مملوكا لغيره ـ عبدا أو أمه مسلمان طبعا ـ فيملكها ثم يعتقها. مثلا : عليه زكاة عشرة آلاف ريال فذهب إلى بلد كموريتانيا حاليا يوجد فيها رق فذهب لموريتانيا واشترى بعشرة آلاف ريال عبدا أو جارية مملوك لغيره ثم أعتقه هذا قول ربنا {وَفِي الرِّقَابِ } وهو الأظهر .

الأمر الثاني :
يوجد في الشرع ما يسمى بالمكاتب وهذا غير موجود في عصرنا ،المكاتب رجلا أصلا مملوك فيأتي لسيده ويقول أنا أدفع لك مالا معينا أسعى في تحصيله على أن تعتقني فيوافق السيد فيأخذ هذا العبد يجمع في المال هذا إما من الناس أو بجهده حتى يكون ذلك المبلغ الذي يخرج به من سيده فيصبح حرا. فإعانة هذا المكاتب تجوز شرعا وهي داخلة في قوله تبارك و تعالى : {وَفِي الرِّقَابِ } عند أكثر العلماء لا عند كلهم .

في عصرنا هذا نسمع كثيرا ما يقال إن من فك الرقاب أن يذهب
إنسان إلى السجن فيجد شخص محكوم عليه بالإعدام " بالقصاص " بتعبير الشرع . فيعطي الورثة " ورثة القتيل " المقتول المطالبين بالمال مثلاً الدية : مائة ألف يقول أنا أعطيكم مليون بس اتركوا هذا سامحوه . هل هذا فك رقبة داخل في الزكاة ؟
لا يدخل في الزكاة . هذا عمل خير نعم هذا فضل . صدقة نعم . لكنه لا يدخل في الرقاب .
فأنت تتعبد الله بلغة القرآن لا بلغة الناس تتعبد الله بلغة القرآن لا باللغة السائرة بين الناس . فالقرآن أنزل عربيا فمن يعرف لغة العرب يستطيع أن يتعامل مع القرآن ، أما اللغات الدارجة التي تتغير هذه لا تحكم بها . وإن كان المشهور في بلادنا أنهم يسمونها : فك رقبة لكنها غير داخلة .  

ثم قال جل وعلا :
{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ }الغارم : أصل الغرم في اللغة : اللزوم . والله قال عن جهنم ـ أعاذنا الله وإياكم منها ـ : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } يعني لازم لأصحابها.

والغارم :
هو من عليه الدين، والغريم : هو الذي له الدين ويسمى غريم لأنه ملازم للمدين، والدين العرب وأهل العقل والفضل يقولون إنه : " هم بالليل وذلُّ بالنهار " . وقالوا: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى رجلا متقنعا هكذا متلثم يسموه العامة اليوم متلثم وكان يسمى قديما متقنع فقال له عمر رضي الله عنه : " أما بلغك أن لقمان الحكيم يقول : إن التقنع هذا تهمة بالليل أو ريبة بالنهار " فقال هذا الرجل : " يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين " فهذا يتقنع حتى لا يراه أصحاب الدين ويطالبونه ولذلك قال الفقهاء : " إن من عليه دين ويخشى من غرمائه في المسجد قد تسقط عنه صلاة الجماعة " .

الذي يعنينا هذا الغارم والغارم شرعا قسمان:

الغارم لنفسه :
هو من يستدين لمصلحة نفسه يريد أن يتزوج, يريد أن يطلب علما, يريد أن يبني بيتا , يريد أن يؤثث بيته. هذا غارم لنفسه .
الغارم لغيره : رجل جاء لقوم صار بينهم شجار واقتتال وفساد في الأموال فأصلح بينهم وتكفل بإصلاح ما أفسدته الخصومة بين الفريقين. فأخذ يطلب أموالاً غرم أموالاً تكلف المسألة مثلاً : خمسين ألف, سبعين ألف, مائة ألف. فأخذ يطلبها من الناس. فهذا غارم لغيره ليس غارما لنفسه . وكلا الفريقين يعطى من الزكاة بقدر الذي يحتاج إليه .

وقد قال العلماء :
إن الإسلام حث على عدم الدين ومن الدلائل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من عليه دين حتى فتح الله جل وعلا له الفتوح وقال في الجهاد وهو من أعظم الأعمال وقال في الشهادة وهي من أعظم القربات إن الشهادة تكفر الذنوب ( إلا الدين أخبرني به جبريل ءانفا ) .

لكن العلماء يقولون :
إن الإنسان إذا كان يستدين ترفا فلا يعطى من الزكاة . فمثلا إنسان راتبه أربعة آلاف ريال فهذا أنه كونه يكون عنده سيارة هذا حق من حقوقه ولا يخرج من كونه فقير لكن بالعقل إنسان راتبه أربعة آلاف ريال ففيه نوع من السيارات لاحاجه للتفصيل يلائم حاله لكن لوجاء وطلب سيارة استدان ليشتري سيارة فارهة جدا لا يركبها أمثاله فهذا دين للترف . فمثل هذا لا يعطى من الزكاة هذا من قول الله تعالى {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ}.

ثم قال الله جل وعلا :
{وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} وسبيل الله كثير كما قال مالك واختلف العلماء في كلمة {فِي سَبِيلِ اللّهِ}على أقوال عدة لكن أنا أقول الرأي الراجح فيما أراه :
الرأي الراجح أن في سبيل الله الغزاة المتطوعون الغزاة المجاهدون في سبيل الله المتطوعون هم المقصود بقول الرب تبارك وتعالى {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}. وقال بعضهم طلبة العلم ، وقال بعضهم أهل الحج ، وقال بعضهم غير ذلك . لكن هذا الذي نرتضيه والله تعالى أعلم
.


م قال جل وعلا :
{وَابْنِ السَّبِيلِ}هذا أسلوب عربي . العرب تنسب الشيء إلى من يلازمه يقولون :{ابْنِ السَّبِيلِ} للمسافر لأن السبيل هو الطريق ، الله يقول في الحجر{ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ}أي هذه الديار موجودة في طريق مقيم ثابت عن قوم ثمود. فقول الرب جل وعلا {وَابْنِ السَّبِيلِ}هذا أسلوب العرب يقولون : بنات الدهر . ما بنات الدهر؟ المصائب. عبد الله ابن الزبعرة يقول :
" وبنات الدهر يلعبن بكل " يعني المصائب تأتي على الفريقين . ويقولون بنات أفكاره يعني آرائه وشعره يسمونه بنات أفكاره، الذي يعنينا {ابْنِ السَّبِيلِ}هو الرجل الذي انقطعت به السبل وإن كان غنيا في دياره ، الغريب الذي انقطعت به الحال حتى أصبح محتاجا للمال فيعطى بمقدار ما يوصله إلى أهله هؤلاء إجمالا وأنا قلت لن أفصل كثيرا أقسام أهل الزكاة الثمانية الشرعيون.


إذا ذكرنا من يستحق الزكاة يجب أو يلزم أن نذكر من لا يجوز أبدا أن يعطون من الزكاة :

أولهم :
الكفار والملاحدة سائر أمم الكفر لا يعطون من الزكاة إلا المؤلفة قلوبهم هذا الأول وهذا ظاهر ما هو معقول تعطي كافر من زكاة مالك لكن يجوز إعطاؤه من صدقة التطوع لقول الله جل وعلا :{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} والأسير لا يكون إلا كافر . الأصل أنه كافر .

الثاني :
ممن لا يعطون من الزكاة بنوهاشم آل النبي صلى الله عليه وسلم وقد مر معنا في تفسير سورة الأنفال أن الكلام عن آل البيت إلى ثلاثة أقسام قلنا من قال إن آل النبي صلى الله عليه وسلم  هم قريش كلها وقلنا هذا بعيد. وقلنا الفريق الثاني:  أنهم قالوا بنوهاشم وقلنا هذا أقوى من الأول.ثم رجحنا أن المقصود ممن لايعطون الزكاة هم بنوهاشم بالإضافة إلى بنو المطلب مو عبدالمطلب بنو المطلب وقلنا إن هاشم بن عبد مناف وإن عبد مناف هذا ترك أربعة من الولد نوفل،وعبد شمس،وهاشم،والمطلب. وقلنا إن بني هاشم هذا منه كان النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لماذا منع من الزكاة وأن هؤلاء الثلاثة لما حاصرت قريش النبي عليه الصلاة والسلام وبني هاشم في الشعب جاء أبناء المطلب فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقي بنو نوفل وبنو عبد شمس خارج الأمر . أبناء أخيهم من بني هاشم في الشعب دخلوا معهم فقال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري قال : ( إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهليه ولا في إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ) . وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين من مذهب الإمام أحمد وهو الحق إن شاء الله أن هؤلاء لا يعطون من الزكاة لأنها من أوساخ الناس .

لكن اختلف العلماء فيما لوكان موالي بني هاشم من العاملين عليها هل يعطون أو لا يعطون؟

قال فريق : يعطون . والأظهر : أنهم لا يعطون لحديث رافع وهو مولى للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل من بني مخزوم قال : " اذهب معي نسعى في الزكاة حتى نكسب " لأن العاملين عليها يأخذون منها فقال : " دعني استشير النبي صلى الله عليه وسلم " فلما قدم عليه قال عليه الصلاة والسلام : ( مولى القوم منهم ) . فموالي بني هاشم كذلك لا يعطون من الزكاة أما صدقة التطوع فالمسألة فيها خلاف كثير بين العلماء والذي يظهر أنهم لا يعطون . الذي يعنينا الآن أصبحوا اثنان لا يعطون من الزكاة قلنا أولا كفار الملاحدة عموم أهل الكفر والثاني بنو هاشم .


الثالث :
أصول الرجل : " آباؤه فما فوق " و " أمه فما بعدها " فلا يعطي الرجل من الزكاة لا أباه ولا أمه وإن قال شيخ الإسلام ابن تيميه أنهم يعطون لكن القول الذي عليه أكثر العلماء أنهم لا يعطون لأنه يجب عليه نفقته.
بعد الأصول يأتي الفروع فلا يجوز لرجل أن يعطي ابنه ولا ابن ابنه ولا ابن ابنته ولا ابنته فلا يعطي فروعهم والله ذكر في القرآن الفروع والأصول في آية غير الزكاة .
وذكر الحواشي : الإخوان وفيهم نظر لكن الأرجح إن شاء الله أنه يجوز إعطاءهم من الزكاة لأنه لا تجب نفقتهم في الأصل.


الرابع :
أعمال الخير المطلقة لا يجوز أن يبني مسجد أو يعمل مثلا جمعيه خيريه تعنى بتكفين الميت وإن كان هذا خير أو تبني قناطر خيريه أو تبني أطعمة أومطاعم أو ما أشبه ذلك من الصدقات العامة كصدقة صائم إفطار صائم وما يقال في مثل هذا في بلادنا وفي غيرها هذا كله لا يجوز إعطاء الزكاة منه لأنهم لا يدخلون في الأصناف الثمانية وقلنا " إنما " تفيد الحصر.

وأنا أقول إذا تريد أن تعطي الزكاة الشرعية أعطها شخصا بعينه وارتاح لا تسلمها أحد
. أما أمور الصدقات التطوع العامة هذه ترجع لك تعطيها أي مؤسسة تطمئن إليها . أما صدقة الفرض تريد أن تعطي مثلا أخا لك قريب من جماعتك , طالب يدرس في حييك , فقير في الحي تعرفه , أحد جيرانك, أحد قرابتك, اذهب إليه وأعطها بنفسك تبرأ ذمتك وتتأكد من أنها وصلت إليه . أما صدقة التطوع هذه تحتاج إلى جهد أمثال الطعام وأمثال الكسوة وهذا صعب أن تقوم أنت بها بمفردك لكن هذه الجمعيات الخيرية، المؤسسات الخيرية، أقدر منك على إيصالها ، ففرق ما بين الأمرين أفضل لنفسك . هذا ما يمكن أن نقوله حول الصدقات.

قال الله جل وعلا :
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
 
هذه الآية نزلت أن قوما من أهل النفاق كانوا يتحادثون في مجالسهم الخاصة فيعيبون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول بعضهم لبعض نخشى أن يصله كلامنا فيقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن أي يصدق كل شيء. فإذا بلغه أننا تكلمنا فيه نذهب إليه فنعتذر فيصدقنا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاهة يريدون أن ينتقصوه فالله هنا يدافع عن نبيه ويناصره ويتولاه يقول جل ذكره : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} والأذن : الجارحة المعروفة. والمقصود : أن النبي يسمع ويصدق كل ما يقال له حسب زعمهم ويقولون هو أذن فقال الله : {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}. والنبي صلى الله عليه وسلم أرفع مقاما وأكمل أخلاقا وأجل سيرة مما افتراه هؤلاء المنافقون عنه بل كان عليه الصلاة والسلام يتغافل عما لا يشتهي ولم يكن فيه إلا الرحمة والخير للناس عموما قال الله عنه :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} فقال الله هنا : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فجاء بالفعل يؤمن وعدى في الأول بحرف الجر الباء وعدى في الثاني بحرف الجر اللام . والمعنى الفرق في التعدية هنا: لأن قوله جل وعلا : { يُؤْمِنُ بِاللّهِ } فإيمانه بوجود ربه تبارك وتعالى أمر لا يخالطه فيه شك بوحدانية ربه وألوهيته وأن الله موجود لكن قوله تعالى :{ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}النبي ليس مسؤول عن سرائرهم وإنما يسلم أمرهم لله فيؤمن بما ظهر منهم ويكل سرائر الناس إلى خالقهم . فقال في الأولى تبارك وتعالى { يُؤْمِنُ بِاللّهِ } وقال في الثانية { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ثم قال جل وعلا : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة في بعثته , رحمة في هديه, رحمة في سيرته, رحمة في كل من يقتفي أثره ويتبع سنته.

ثم قال الله جل وعلا :
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إذا كان المسلم أصلا مطالبا بأن يؤمن ويحب ويوالي ويناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يؤذيه عليه الصلاة والسلام فأذيته عليه الصلاة والسلام وانتقاصه حيا أو ميتا ولو بمقدار شعره مع اعتقاد ذلك كفر مخرج من الملة يقتل صاحبه ولو تاب يقتل صاحبه ولو تراجع وتاب يقام عليه حد القتل وقد بينا هذا مرارا ويهرق دمه لكن يقيمه ولي أمر المسلمين، ويهرق دمه وأمره إلى الله تبارك وتعالى إن صدق في توبته أو لم يصدق لكن حتى لو أظهر صدق التوبة يقام عليه الحد ويقتل إذا انتقص شيئا من نبينا صلى الله عليه وسلم ومن مستند العلماء في هذا ما بيناه مرارا كما أخرج أبو داوود بسند صحيح من حديث ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له جارية أم ولد تقوم برعايته وأنجب منها طفلين كاللؤلؤتين يحبهما وهذه المرأة كانت تحبه رغم أنه أعمى وشفيقة به رفيقة تقدم له كل حاجاته إلا أنها كانت تقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم فينهاها هذا الأعمى فلا تنتهي فوجدت ذات مرة هذه المرأة مقتولة قد بقر بطنها ولطخ دمها الجدار فقام صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس قال : ( أنشد الله رجلا لي عليه حق ويعلم عن هذا الأمر شيئا إلا أخبرنا به )  فقام هذا الأعمى من آخر المسجد يقطع الصفوف ويضطرب في مشيته حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله أنا صاحبها أنا قتلتها " فتعجب منه صلى الله عليه وسلم وقال : ( ولما ؟ ) قال : " إنها كانت تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وازجرها فلا تنزجر فالبارحة وقعت فيك فنهيتها فلم تنتهي وزجرتها فلم تنزجر فقمت إلى المغول ـ والمغول السيف القصير ـ فأتيت حتى وصلت إليها ـ وهو أعمى يعني لا يراها حتى علم أنه أصاب بطنها ـ فاتكأ على المغول حتى بقر بطنها وقتلها " فلما أتم حديثه قال صلى الله عليه وسلم : ( اشهدوا أن دمها هدر ) . من هنا أخذ العلماء ومن غيره من الأحاديث أنه لا يجوز أبدا أذيته صلوات الله وسلامه عليه وقد فصلنا هذا في مواطن كثيرة باستطراد أكثر .

فالذي يعنينا أن الله توعد بالعذاب الأليم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن على الناحية الأخرى لا يجوز للمؤمن أن يغلوا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام بشر وليس له من خصائص الألوهية ولا الربوبية شيء وإن كان أفضل الخلق مقاما وأعلاهم منزلة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
لكن في الأمة بعد سقوط بغداد على يد هولاكو أصاب الأمة مرحله من الضعف سياسيا واقتصاديا وعقديا وعلميا حتى ظهر ما يسمى بأدب التصوف أو بأدب المدائح النبوية فجاء أقوام يبالغون لقلة العلم العقدي فيه صلى الله عليه وسلم فأنشأت قصائد لا يمكن أن تجوز شرعا في حقه صلى الله عليه وسلم منها قصيدة البصيري المشهورة :

أَمِنْ تَذكُر جيران بِذي سَلَم *** مَزَجْت دَمْعا جَرى من مُقلةٍ بِدمِي
أَمْ هَبتْ الريحُ من تَلْقاءِ كاظِمةٍ *** أَو أَومَضَ البرقُ بالظَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّلماءِ من إِضَمِي

إلى آخر القصيدة وقد سماها " الدرر البهية في مدح خير البرية " أو كلمة نحوها وهو رجل مات في آخر القرن السابع وأمره إلى الله أنا أتكلم عن القصيدة .
قال في القصيدة عفا الله عنا وعنه :

يا أكرمَ الرسلِ مَالي مَن أَلوذُ بِه***سِواكَ عند حُلول الحَادث العَظمِ

ولا ريب أن هذا عين الشرك وعين الكفر الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه ونقضه. قال الإمام الشوكاني رحمه الله معلقا على هذا البيت قال : " إنا لله وإنا إليه راجعون انظر كيف غفل عن الله ولاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم والنبي عبد لله ورسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم ".

فمثل هذا لا يمكن أن يقبل ولا يمكن أن يجوز لا ما قاله البصيري ولا ما قاله أترابه وأقرانه ممن غالوا فيه صلوات الله وسلامه عليه .
وهو عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من المناقب في غنى عما قاله هؤلاء ضعفاء الإيمان والجاهلون عنه . فله صلى الله عليه وسلم المقام الرفيع لكن لا يجوز لأحد أن يغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه.


ثم قال الله جل وعلا في الآية التي نريد تفسيرها :
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هذه الآية مما يفتح لكل مسلم باب الترغيب في العمل الصالح لأن الله جل وعلا ذكر فيها ثلاثة أصناف :
ذكر المهاجرين وذكر الأنصار وذكر جل وعلا ذكر التابعين لهم بإحسان وهذا يدخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامة . قال جل وعلا : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح : ( أمتي كالمطر لا يُدَرى خيره أوله أم آخره) . والله جل وعلا يقول في الجمعة :{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فباب الرحمة مفتوح واللحوق بهؤلاء أمر مقدور عليه لكن كان عمر رضي الله تعالى عنه يظن أن هذا محال وكان يقرأ هذه الآية هكذا يقرؤها {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار الذين اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} فأصبحت على قراءة عمر فريقان : الأنصار والمهاجرين. وقال : " ما أظن أنه كان أن يبلغ أحد مبلغنا " فلما قرأها على زيد وزيد أعلم من عمر بالقرآن قال : " يا أمير المؤمنين يوجد واو " فقال " لا يوجد فيها واو " قال زيد : " فيها واو " فقال عمر : " ادع لي أبياً ابن كعب " ، فصدق أبي قول زيد وقرأها : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ... } فقال عمر رضي الله عنه : " ما كنت أعلم أن أحداً سيبلغ مبلغنا " رضي الله عنهم . يعني ما أظن أن الباب مفتوح ،لكن رحمة الله واسعة .
والنبي عليه الصلاة والسلام قال : ( وددت لو أني رأيت إخواني قالوا يارسول الله: ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي ولكن إخواني لم يأتوا بعد ) . وهذا داخل فيه كل من اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان .


نأتي عند قوله تعالى :
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}
المهاجرين :
أطلقت على من هاجر قبل الفتح من مكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا هجرة بعد الفتح ) . يقصد لا هجرة من مكة وإلا الهجرة قائمة إلى الآن . يترك الإنسان ديار الكفر ويأتي ديار الإسلام ممكن. لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الهجرة من مكة ( لا هجرة بعد الفتح ) .
الذي يعنينا أن هؤلاء المهاجرين هم أعلى الأمة مقاما لأن الله بدأ بهم.


 لكن اختلف في معنى كلمة السابقين:

ـ فمنهم من قال من صلى إلى القبلتين . طيب متى فرض تحويل القبلة؟ بعد ستة أو سبعة عشر شهرا من الهجرة إلى المدينة فيصبح من ءامن قبل هذا يصبح من السابقين على هذا القول.
ـ وءاخرون قالوا من شهد بدرا هذه أوسع زمنا.
ـ ومنهم من قال من شهد بيعة الرضوان وأظنه أرجح وأرحم من شهد بيعة الرضوان في السنة السادسة في صلح الحديبية وهاجر إلى المدينة قبل هذا الوقت يدخل في قوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} هذا الكلام عن المهاجرين وهم رضي الله عنهم وأرضاهم كثرمن أشهرهم الخلفاء الأربعة الراشدون .


ثم قال جل وعلا :
{وَالأَنصَارِ} والأنصار:
 تسميه شرعية وليست تسمية نسبية وإنما سموا أنصارا لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي إذا أطلقت يراد بها : الأوس والخزرج .


والأوس والخزرج :
رجلان أخوان اسمهما الأوس ابن حارثه والخزرج ابن حارثه والحارثة هذا من أزد اليمن ممن هاجروا من اليمن بعد وقوع السد وسكنوا المدينة وكانت قبائل اليمن قد تفرقت في مواطن شتى منهم الأوس والخزرج سكنوا المدينة فإذا قيل الأنصار ينطلق في أول المقام إلى الأوس والخزرج وكان بينهما من النزاع والنفره مالله به عليم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث صلوات الله وسلامه عليه آخى بينهم وسماهم الأنصار. وقد جاء في الأحاديث الصحاح الكثير من مناقبهم قال عليه الصلاة والسلام : ( لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) وقال : ( اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) وقال أيضاً : ( إن الناس يكثرون والأنصار يقلون ) . وأوصاهم بالصبر وقال لهم : ( إنكم ستجدون أثره بعدي فاصبروا حتى تلقوني ، وموعدكم الحوض ) . رضي الله عنهم وأرضاهم فهم قدموا أنفسهم ودورهم ومهجهم وأموالهم من أجل نصرة الله ورسوله . وهم كما قلنا في الأصل قبيلتان الأوس والخزرج .

من أشهر الأنصاريين من الأوس :
سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه .
ومن أشهر الأنصاريين من الخزرج :
سعد بن عبادة، وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، وبنو عوف الذين نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم دار كلثوم بن هدم التي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في أول هجرته كما سيأتي في قوله تعالى : { والَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } .

ثم قال الله جل وعلا :
{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } وهذا القيد لا بد منه لأن الله لما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } أطلق ولم يقل قيدا وقال :{وَالأَنصَارِ}ولم يقل قيدا لكن لما قال { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم } جاء جل وعلا بقيد ما لقيد ؟ هو: { بِإِحْسَانٍ } .
والإحسان :
الإتقان . والمعنى : أن ينظر في صنيعهم وهنا لم يذكر الله قضية {اتَّبَعُوهُم}فيه أشياء يدل عليها العقل فالمقصود أن هؤلاء المهاجرين والأنصار وقع منه هفوات وزلات وأخطاء فلا يجوز أن نتبعهم فيها وإنما المقصود إتباعهم فيما أصابوا فيه من الاعتقادات والأقوال والأعمال. {وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}ولايوجد نعمه أعظم من رضوان الله قال الله تعالى في كتابه : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ } والمعنى : ورضوان من الله أكبر من كل نعمه. رضوان من الله أكبر : أي لا يعدل رضوان الله جل وعلا شيء . والله جل وعلا يخاطب أهل الجنة آخر الأمر فيقول : (( أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا )) . فلا يعدل رضوان الله شيء بلغنا الله وإياكم رضوانه .

فقال الله تعالى :
{ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا } هذه قراءة الأكثرين بدون حرف الجر " من " وقراءة أهل المدينة على قراءة ابن كثير:{ تَجْرِي من تَحْتَهَا الأَنْهَارُ } يوجد " من " لكن الذي عليه الأكثرون عدم حرف الجر ولا يختلف هذا في المعنى كثيرا { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } والمقصود من هذه الآية أننا كما تكلمنا عن أهل النفاق نتكلم عن أهل الفضل كما أمرنا الله أن نجتنب أحوال أهل النفاق أمرنا الله أن نتبع أحوال أهل السبق من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وأن نقتفي سيرهم ونلتمس هديهم ونتتبع آثارهم ونكون كما كانوا.

 ثم نختم بقول الرب تبارك وتعالى :
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة نزل في قباء عند المسجد المؤسس اليوم وكانت هناك دار لرجل يقال له كلثوم بن الهدم من بني عمر بن عوف وهو عليه الصلاة والسلام دخل المدينة يوم الاثنين فمكث الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس صبيحة الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد الآن المسمى بمسجد الجمعة فصلى فيه ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ راحلته فيه هناك أسس صلى الله عليه وسلم المسجد مسجد التقوى مسجد قباء لكنه لم يبنيه وإنما بناه بنو عمرو بن عوف من الأوس بعد ذلك .

كان لبني عمرو بن عوف جيران , من هؤلاء قوم نشئوا على الشرك والضلالة وأكثرهم منافقون فبنوا مسجد ضرارا منازع لهذا المسجد لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين فتجتمع الكلمة فتتآلف القلوب ويتوحد الصف فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة والليلة المطيرة والليلة الشاتيه وللحاجة وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنما بنينا مسجدا بهذه الأوصاف ونريد منك أن تأتيه وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه على شغل وأنه على جناح سفر وأنه ذاهب إلى تبوك فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله :{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً }فانتدب صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابة منهم رجل يقال له مالك ومنهم وحشي قاتل حمزة حوالي أربعة فبعثهم ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه فهدموا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أن يكون المسجد مكانا كناسة . كناسة : يعني توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالا بهم. هذا هو مسجد الضرار .


قال الله جل وعلا فيه :
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } الضرار : المنازعة العمل الذي يدفع إليه الحسد.
هذا قوله : { ضِرَاراً وَكُفْراً } لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} تدل الآية على أن كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعا يؤدي إلى الكفر ولو كان في مسجد . فلا يوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس وكل من حمل لواءا يريد فيه أن يفرق بين المسلمين يجب نبذه وتركه ولوتستر بألف ستار فإذا كان هذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يأتوه ويلقوا فيه دروس ويغيروه ويحولوه لكنه ما دام أسس على باطل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه .


ومن هنا نحن نقول والله أعلم إن القنوات المعاصرة اليوم لا تخلوا من أحد أمرين :
ـ
إن أسست على باطل فلا نرى جواز الخروج فيها ولو ظن من يخرج فيها أن هناك مصلحة في الخروج.
أما إذا أسست على حق: فيجوز الخروج فيها وإن خالطها شيء من الحرمة .
فمثلاً جاء إنسان وأسس قناة تبث أفلاماً ثم قال للشيخ والشيخ والشيخ ثلاثة أو أربعه قال نحن نريد منكم دروس في هذه القناة نحن والله تعالى أعلم نقول أنه لا يجوز شرعاُ الخروج في مثل هذه القناة لأن هذا تقرير الصحة ما بنيت عليه القناة أمرها .
أما إن وجدت قناة أصلاًُ قناة إسلاميه كالمجد مثلاُ ونحن لا نمدح المجد لمصلحه نمدح المجد لأنها المنارة الوحيدة الموجودة الآن التي تبث الإسلام كما نريد فيما نعلم يقرن إليها قناة الفجر إن وجدت ـ قناة القرآن الكريم ـ وغيرها , تبقى قنوات رسميه لبعض الدول فهذه لا أسست لا على حق ولا على باطل هذه لمصلحه فهذه يجوز الخروج فيها لتوسطها أما قناة تؤسس لبث دعارة أو بث أفلام فلا يعقل أن تأتي قناة تبث فلما إباحيا أو فلما يكاد يقرب من دوافع الفحشاء ثم يؤتى برجل يحدث ثم ينتهي هذا الرجل ويؤتى بفلم آخر على نفس المنوال هذا عبث هذا مثاله في الواقع كرجل أراد أن يصنع حفلة فرح ـ زواج ـ وجاء براقصات ومغنين عراة فجاء ناس ينكرون عليه قالوا : " هذا حرام ما يجوز "  قال : " ما هي مشكلة هذا الفرح من تسعة إلى الساعة اثنين من أحد عشر إلى الواحدة أنا أسمح لكم أن تأتوا على نفس المسرح وتلقوا أي حديث ". هل يجوز لهذا الرجل أن يأتي هذا الفرح ويلقي هذا الحديث ويخرج وهو يعلم يقيناً أن قبله محرم وبعده محرم لا يمكن لأنك أنت إذا فعلت جعلت الناس يكثرون ويأتون .


هذا فيما نعتقده لكن يوجد مسألة مهمة لا يعني ذلك أن من خرج
من علمائنا وفضلائنا في مثل هذه القنوات أنه يتهم بشيء فنحن نقول ما ندين الله به لكن كما قلنا إن ما قد نراه نحن حق خطأ عند غيرنا وما نراه نحن خطأ صواب عند غيرنا نحن نبين الحكم على ما نرتضيه لكن لا يجوز لنا ولا لغيرنا أن نقدح في أحد من علماء المسلمين رأى أنه توجد مصلحه في الخروج في تلك القنوات.  لكن أنا أقول ما أدين الله به من هذه الآية { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } لأن هذا مسجد بني وسقف ووجد وكان له إمام سيأتي قصته فلو كان الشيء الذي أسس على باطل يمكن قلبه إلى حق لكان هذا المسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل أبي بن كعب إمام له وتنتهي القضية .هذا الذي ندين الله به من هذه الآية .

ثم قال جل وعلا :
{ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ }الإرصاد : التربص والترقب وكان هناك رجل يقال له أبو عامر الفاسق وكان يقال له في الجاهلية أبو عامر الراهب وهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد : " لا أجد قوما ًيقاتلونك إلا قاتلتهم " فقاتل حتى مع هوازن يوم حنين ثم خرح إلى قيصر وقال للمنافقين الذين في المدينة أنتم ابنوا المسجد وترقبوا عودتي من قيصر بالجنود حتى نخرج محمدا ًوأصحابه منها صلى الله عليه وسلم فهذا معنى قول الله جل وعلا :{ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } .

والمقصود أبو عامر الراهب وسبحان الهادي هذا أبو عامر هو والد حنظله ابن أبي عامر غسيل الملائكة
هذا أبو عامر الذي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : " لا أجد قوما ًيقاتلونك إلا قاتلتهم " هو والد حنظله ابن أبي عامر غسيل الملائكة فسبحان من يخرج الحي من الميت وليس هناك حياة أعظم من حياة الإيمان ولا ميت أعظم من ميت الكفر .

الذي يعنينا :
{وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى}ولا يوجد إنسان يريد أن يضل الناس يقول لهم أنا أريد أن أضلكم الله يقول :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}{ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فقال الله لنبيه :{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } فأحرقه صلى الله عليه وسلم .

ثم قال الله جل وعلا له :
{ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } وهو مسجد قباء على الصحيح {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}أي من أول يوم حضرته المدينة { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} لكن يستنبط من هذا إذا كان مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه هذا الفضل وقلنا إنه مجرد أنه أسسه أما مسجده هذا فهو الذي أسسه وهو الذي شارك في بنيانه فهذا أعظم لأن إذا ورد هذا في حق ما أسسه فمن باب أولى أن يكون تعظيم المسجد النبوي أعظم لأنه أسسه وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أحق أن تقوم فيه}والمراد بالقيام هنا الصلاة {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } .

ثم ذكر الله القاعدة :
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } قال العلامة ابن سعدي رحمه الله: " إن المعصية تؤثر في المكان كما تؤثر فيه الطاعة فذلك المسجد لما بناه قوم عصاه خرج عن كونه مسجد فمسجد قباء لما صلى فيه قوم طائعون مصلحون ازداد نورا على نور " .

هذا ما أردنا بيانه على وجه الإجمال في وقفاتنا هذه الليلة مع سورة التوبة وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله.

 

 صالح المغامسي
  • تأملات قرآنية
  • السيرة النبوية
  • مجمع البحرين
  • آيات وعظات
  • مشاركات إعلامية
  • خطب
  • رمضانيات
  • فوائد ودرر
  • صوتيات
  • الصفحة الرئيسية