اطبع هذه الصفحة


خطبة بعنوان .. الاعتصام بالله

 
بسم الله الرحمن الرحيم



إنِ الْحَمْدَ لِله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.‪

‬(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْنمْ مُسْلِمُونَ)‪
‬(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)‪
‬(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)

أما بعد : أيها الناس:
فإن المؤمن كلما ازداد إيماناً زاد من الله قرباً، وعليه توكلاً، وبه اعتصاما

إذا ادلهمت الخطوب، وتكالبت الكروب، وأظلمت الدروب، بَرَق نور اليقين، وأنار وميض الإيمان، وصدق الكريم المنان (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)

إذا اضطرب البحر وهاج، وتلاطم الموج وماج، وهبت الريح العاصف في الليل المظلم الداج، نادى أهل السفينة مستغيثين .. يا الله.

إذا أُغلقت الأبواب في وجوه الطالبين، وأُسدلت الستور أمام السائلين، صاحوا قائلين .. يا الله

إذا بارت الحِيَل، وضاقت السُبُل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، رفع المحتاجون أيديهم ورؤسهم وقلوبهم وأصواتهم .. يا الله

إليه سبحانه يصعد الكلم الطيب، والدعاء الخالص، والنداء الصادق، والتفجع الوالِه

إليه تُرفع الدعوات في الصلوات، والأيدي في الحاجات، والأعين في الملمات، والأسئلة في الحادثات

من الذي يفزع إليه المكروب، ويستغيث به المنكوب، وتصمد إليه الكائنات، وتسأله المخلوقات؟
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)

هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أُلقي في النار فقال حسبي الله ونعم الوكيل فقال الله عز وجل للنار: (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام لحقه فرعون وقومه حتى كادوا أن يدركوه فـ (قال أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) فأوحى إليه ربه أن يضرب بعصاه الصغيرة ذلك البحر الخضم العظيم، فضربه ضربة مؤمن عزيز بالله فانفلق البحر فكان فرقين (كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)
وهذا عيسى طلبه الأشقياء ليقتلوا فرفعه الله إليه.
وذاك يونس لبث في بطن الحوت في عمق البحر في ظلمات فوقها ظلمات (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
قال عز وجل: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
وذاك زكريا، بلغ من الكبر عتياً فرجى الله أن يرزقه ولداً صالحاً وكانت امرأته عاقراً فبشره الله فقال: (يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً)
ومن قبلهم كان يوسف سجينَ جُبٍّ، ثم رهينَ خدمةٍ، ثم أسيرَ زنزانة، فلما صبر إذا بوالده النبي الكريم وأمه وإخوته الذين رموه في الجُب، يخرون له سجداً، وإذا به يدعو ربه ويناجيه فيقول: (ربِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)
ومن قبله أبوه إسرائيل عليه الصلاة والسلام، يفقد يوسف عشرات السنين ثم يفقد من بعده أخاه، ولكن الأمل في رحمة الله وروحه ما يزال ينعش قلبه ويصله بربه فيقول: (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)

أما أكرم الخلق صلى الله عليه وسلـم، ففيه أعظم الأسوة، وبه أحسن القدوة
ها هو صلى الله عليه وسلم قد أُدميت قدماه، وشُج جبينه، وكُسرت ثنيته، وُرميت البريئة الكريمة زوجته، وقُتل في يوم واحد سبعون من علماء صحابته، ومات كل أبنائه، ثم تتابعت جُل بناته في حياته، ولكن الله أورثه الدرجة العالية الرفيعة التي لا ينالها إلا عبد واحد من بين كل العباد، وإذا باسمه يُردَّد بعد ذكر الله خمس مرات كل يوم على رؤوس الخلائق في كل أقطار الدنيا.
وها هو مع أصحابه الكرام، وقد أرجف المرجفون وطارت الأنباء في صفوف المخذّلين بأن العرب قد تنادوا عليهم من كل مكان ليستأصلوا شأفتهم ويبيدوهم عن آخرهم، فصبروا واعتصموا بالله، فأنزل عليه فيهم قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل ** فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)
ثم أخبرهم الله عز وجل بحقيقة الأمر ليكونوا هم ومن جاء بعدهم على بصيرة، فقال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

أيها المؤمنون:
تفويض الأمر إلى الله، والثقة بوعده، والتوكل عليه وحده، والاعتصام به وحسن الظن به، وانتظار الفرج منه: أعظم ثمرات الإيمان وأجلُّ مراتب اليقين (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

فإذا تكالبت عليك يا عبدالله الحوادث، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فلا ترج إلا الله في إزالة مصيبتك ودفع ضُرّك، ورفع بليّتك (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ‪ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ ‬الرحيم)

وإذا أدلهم ظلام الليل، ونزل الكريم إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فارفع إليه يديك في ذلك الوقت الذي ينادي فيه عباده فيقول: (من يسألني فاعطيه، يدعوني فاستجيب لـه، من يستغفرني فأغفر له)؟

فارفع إليه كفَّك، وقلَّب وجهك في ظلمات الليل في السماء، وناد الكريم أن يفرج عنك وعن المؤمنين، فإنه إذا قوي الرجاء، وجُمع القلب في الدعاء لم يُرد بإذن الله ذلك النداء.
فأكثر من الدعاء، ولا تستبطئ الإجابة، وأبعد عن قلبك اليأس، وادع دعاء المكروبين، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دعاء الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم).
ونادِه نداء موقنٍ وقل: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث).
وتواضع لـه واخضع في دعائك إليه وقل: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
‪
‬أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفر وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم

 الخطبة الثانية


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد أيها المسلمون‪:‬
‪ ‬
فإن الله عز وجل ذكر طائفة من عباده ومدحهم وبشَّرهم فقال: (فَبشّرْ عِبَادِ (*) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)
‪ ‬
فما أسعدهم ببشارة الله، وما أحظاهم بالمنزلة العظيمة عند الله، يوم سمعوا قول ربهم فاتبعوه واقتدوا بنبيهم وأطاعوه‪.
‬
فاسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يمنَّ علينا فنكون من المتّبعين، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق في أمور الدنيا والدين. اللهم آمين
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ،
وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد


 

محمد المهنا
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية