اطبع هذه الصفحة


خطبة بعنوان: الإلمام .. ببعض حقوق الصحابة الكرام

محمد بن سليمان المهنا
@almohannam

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إنِ الْحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
‪‬(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)‪
‬(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
‪‬(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)

أما بعد أيها الناس :
فإن أهم المهمات وأوجب الواجبات، أن يتعلم المسلم أمور دينه، لا سيما ما يتعلق بالاعتقاد الذي يمثل أهم أصول هذا الدين.

إن معرفة المسلم عقيدته وتعلمه إياها لمن ضروريات حياته ليتوصل بذلك إلى الإيمان التام لعلّه أن يلقى ربه بقلب سليم.
والقلب السليم: هو الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب، نسأل الله سلامة القلوب ..

إن مما يجب على المسلم التفقهُ فيه: ذلك الأمرَ العظيمَ الذي ضل فيه طوائف ممن ينتسب إلى الإسلام، إنه جانب الاعتقاد فيما يتعلق بصحابة النبي ‪ﷺ ‬ وما يجب تجاههم من الحقوق والواجبات، والتي قررها كل من صنّف في العقيدة من أهل السنة والجماعة.

وقبل أن يطرق أسماعنا ما كتبه العلماء في هذا الشأن، لنعطر الأسماع بذكر أولئك القوم في كتاب الله عز وجل، فإن في كتاب الله جملةً من ذكر الصحابة والثناء عليهم، ووصفهم بالمدائح التي تدل على رضى الله عنهم وتولّيه لهم واصطفائه إياهم لصحبة نبيه ‪ﷺ ‬.

لنستحضر في أذهاننا أيها المؤمنون تلك السورة العظيمة "سورة التوبة" "سورة براءة" التي سمَّاها العلماء بالفاضحة، لأنها فضحت أعداء الله، وكشفت أسرارهم، وهتكت أستارهم، وأبانت عن قبح سرائرهم، ولذلك قال عنها ابن عباس ‪رضي الله عنه‬: سورة براءة هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ومنهم، حتى ظننا أن لا يبقى منا أحدٌ إلا ذُكر فيها.

ولما ذكر الله سبحانه تلك الأوصاف الرذيلة لأعداء الله من الكفرة والمنافقين أخبر عن فضل أصحاب نبيه‪،‬ ورضاه عنهم، وتكريمه لهم، ووعده إياهم بالفضل الواسع والنعيم المقيم فقال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

إنها لتزكية عظيمة وبشارة سارة لخير فريقين اجتمعا على الحق وعلى نصرة رسول الحق ودين الحق حتى صار ذكرهما علماً على كل خير ودليلاً إلى كل هدى.

ثم انتقل إلى آية أخرى لا تقل ثناءً وبشارة لتلك النخبة الشريفة من البشر التي صحبت خير البشر وظاهَرَتْهُ ودافعت دونه حتى عز فعزت بعزه ونُصرت بنصره.

استمع إلى وصفهم في سورة الفتح إذ يقول تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

الله أكبر أخلاق رفيعة وخصال حميدة، شجاعة في الحق وشدة على أهل الباطل، يقابلها رحمة بالمؤمنين ورفق بإخوانهم من المسلمين.

هذا في تعاملهم مع الخلق أما مع الخالق فلا تجد وصفاً أحسن من وصفهم بكثرة العبادة ودوام الخشوع وحسن الخضوع والابتهال إلى الله بطلب القرب إليه والرضى منه (تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود).

نعم .. بتلك الصفات عظيمة المقدار ملكوا الدنيا وسادوا الأرض بفضل الله الذي فضّلهم بصحبه نبيه وخيرة خلقه ‪عليه الصلاة والسلام‬.

إن الحديث عن فضائل الصحابة وذكر مآثرهم عموماً وخصوصاً حديثٌ تطول فصوله، ولكن حسبنا من ذلك أنهم الذين أعز الله بهم دينه ونشر بهم شرعه، بل لو لم يكن من فضلهم إلا محبة رسول الله لهم ورضاه عنهم لكفاهم ذلك نبلاً وشرفاً.

أيها المسلمون:
إن لأهل السنة والجماعة منهجاً رشيداً في تعاملهم مع حقوق هؤلاء الصحابة الكرام ذكرها المصنفون في كتب الاعتقاد.
منها: محبتهم بالقلب والثناء عليهم باللسان بما أسدوه إلى الأمة من المعروف والإحسان.

ومنها الترحم عليهم والاستغفار لهم تحقيقاً لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ومنها الكف عن أخطائهم التي إن صدرت عن أحد منهم فهي قليلة بالنسبة لما لهم من المحاسن والفضائل، وربما تكون صادرة عن اجتهاد مغفور وعمل معذور لقول النبي ﷺ: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل الأرض ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) أخرجه البخاري ومسلم.

قال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله في شرح لمعة الاعتقاد:
والذي يسب الصحابة على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يسبهم بما يقتضي كفر أكثرهم أو أن عامتهم فسقوا، فهذا كفر لأنه تكذيب لله ورسوله بالثناء عليهم والترضي عنهم.

الثاني: من أقسام سب الصحابة رضي الله عنهم: أن يسبهم باللعن والتقبيح، ففي كفره قولان لأهل العلم، وعلى القول بأنه لا يكفر، فإنه يجب أن يُجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عما قال.

الثالث: أن يسبهم بما لا يقدح في دينهم كالجبن والبخل فلا يكفر بذلك، ولكن يُعزَّر بما يردعه عن ذلك. انتهى كلامه رحمه الله.

قال القاضي عياض في كتابه الشفاء في حقوق المصطفى:
قال الإمام مالك رحمه الله:
من شتم أحداً من أصحاب النبي ‪ﷺ‬: أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكفر: فإنه يُقتل، وإن شتمهم بغير هذا، كما يكون من مشاتمة الناس، فإنه يُنكَّل نكالاً شديداً. أي يعاقب عقوبة عظيمة شديدة.

وقال الإمام ابن كثير في تفسيره قوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ‪ ‬رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ‪ ‬اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ‪ ‬مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ‪ ‬شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَلِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
قال رحمه الله: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله عليه "في رواية عنه" تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة لأنهم يغضبونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء.
وقال رحمه الله عند تفسيره لآية التوبة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

قال رحمه الله: فقد أخبر الله أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبَّهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر‪ رضي الله عنه،‬ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان إذ يسبّون من رضي الله عنهم؟
ثم قال: وأما أهل السنة فإنهم يترحمون عمن رضي الله عنهم ويسبّون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدعون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون. انتهى كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.
اللهم إنا نتقرب إليك بحب أصحاب حبيبك ‪ﷺ‬ وموالاتهم والترضي عنهم.
اللهم ارض عنهم واجمعنا بهم في دار كرامتك يا كريم ..

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد أيها المسلمون:
فإن تعظيم حق الصحابة هو تعظيمٌ لحق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فهم الذين اختصهم الله بصحبة نبيه ونقل شرعه وإقامة دينه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العبادبعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبتهم وجعلهم وزراء نبيه).

لقد خص الله عز وجل أولئك النفر أعني صحابة النبي صلى الله عليه وسلم برؤية وجهه الكريم، وسماع حديثه، ومصافحة يمينه، ولثم جبينه، والجلوس بين يديه، والنهل من مورده، كما أكرمهم الله بمحبته ومودته وكلماته ودعواته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
لما فرغ النبي من عزوة حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس (وهي بلدة قرب الطائف) فنصر الله المسلمين وانهزم المشركون وأُصيب أبو عامر (قائد الجيش)، رماه رجلٌ بسهم فحضره الموت.

قال أبو موسى فأتيتُ إليه يعني إلى أبي عامر فقلت يا عمّ من رماك؟
فأشار أبو عامر إلى رجل وقال: ذلك الرجل هو الذي رماني.

قال أبو موسى: فقصدتُ إلى ذلك الرجل فلحقته فلما رآني ولّى عني ذاهبا هاربا، فاتّبعتُه وجعلتُ أقول له ألا تستحي؟ ألستَ عربيا؟ ألا تثبت؟ فرجع.
فالتقيتُ أنا وهو فاختلفنا أنا وهو ضربتين، فضربته بالسيف فقتلتُه.

ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: إن الله قد قتل صاحبك، فأشار أبو عامر إلى رُكبته والسهم عالق فيها فقال: انزع هذا السهم، فنزعته فسال منها الماء

ثم قال: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك أبو عامر: استغفر لي
قال أبو موسى: واستخلفني أبو عامر على الناس ومكث يسيراً ثم إنه مات.

فلما رجعتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم دخلتُ عليه وهو في بيته فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقلت له: قال لي أبو عامر قل للنبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لي.

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه ثم رفع يديه ثم قال: اللهم اغفر لأبي عامر حتى رأيت بياض إبطيه وهو رافع يديه
ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من الناس.

قال أبو موسى: فقلت يا رسول الله ولي فاستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لعبد الله بن قيس (يعني أبا موسى) اللهم اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما.

اللهم إنا نسألك أن ترضى عن صحابة نبيك محمد ﷺ وأن ترزقنا اتباعهم والسير على طريقتهم ومنهاجهم يا رب العالمين

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد.

 

محمد المهنا
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية