اطبع هذه الصفحة


خطبةٌ بعنوان: قصة بناء البيت العتيق

محمد بن سليمان المهنا
@almohannam

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إنِ الْحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ‪
‬(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)‪
‬(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)‪
‬(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أما بعد أيها المسلمون،،

في بُقْعَةٍ قَفْرٍ بَلْقَع، وفي وادٍ أغبرَ غيرِ ذي زرع، وضع إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أسرته الصغيرة التي قوامها أم ورضيعها، ليس معهم من الطعام والشراب إلا ما يسد رمق سويعات، في مهب ريحٍ سمومٍ، ورمضاءَ تتلظى، وانقطاع من آثار البشر يملأ القلب وحشة ورعباً.

هذا ابنُ عباس حبرُ الأمة وتَرجُمانُ القرآن يحدثنا ذلك الحديث، ويقص علينا ذلك الخبر:

يقول ابن عباس رضي الله عنه في سياقه لذلك الخبر: ثم جاء إبراهيمُ بأم إسماعيل وابنِها وهي ترضعُهُ، حتى وضعها عند دَوْحَةٍ وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ ، وليس بها ماءٌ، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جِرَابًا فيهِ تمرٌ ، وسقاءً فيهِ ماءٌ ، ثم قَفَّى إبراهيمُ منطلقًا ، فتبعتْهُ أمُّ إسماعيلَ ، فقالت : يا إبراهيمُ ، أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيهِ إنسٌ ولا شيٌء ؟ قالت لهُ ذلك مرارًا وهو لا يتلفتُ إليها ، ثم قالت لهُ : آللهُ أمرك بهذا ؟ قال: نعم ، قالت : إذن لا يُضَيِّعُنَا ، ثم رجعتْ ، وانطلقَ إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيثُ لا يرونَهُ، استقبلَ بوجهِهِ البيتَ، ثم دعا بهؤلاءِ الكلماتِ، ورفع يديهِ فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يَشْكُرُونَ). وجعلت أمُّ إسماعيلَ تُرْضِعُ إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماءِ ، حتى إذا نفد ما في السِّقَاءِ عطشتْ وعطشَ ابنها ، وجعلت تنظرُ إليهِ يَتَلَوَّى ، فانطلقت كراهيةَ أن تنظرَ إليهِ ، فوجدتِ الصفا أقرب جبلٍ في الأرضِ يليها ، فقامت عليهِ ، ثم استقبلتِ الوادي تنظرُ هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، فهبطتْ من الصفا ثم سعت سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى إذا جاوزتِ الوادي وأتتِ المروةَ قامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا، فعلت ذلك سبعَ مراتٍ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : (فذلك سعيُ الناسِ بين الصفا والمروة) . فلما أشرفت على المروةِ سمعت صوتًا ، فقالت: قد أُسْمِعْتَ إن كان عندكَ غَوَاثٌ ، فإذا هي بالمَلَكِ عند موضعِ زمزمَ ، فبحث بعقبِهِ ، حتى ظهرِ الماءِ ، فجعلت تَحُوضُهُ بيدها وجعلت تغرفُ من الماءِ في سقائها وهو يفورُ قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : (يرحمُ اللهُ أم إسماعيلَ ، لو تركت زمزمَ ولم تغرف من الماءِ لكانت زمزمُ عينًا معينًا) .
قال : فشربت وأرضعتْ ولدها ، ثم قال لها الملَكُ : لا تخافوا الضَّيْعَةَ ، فإنَّ ها هنا بيتُ اللهِ ، يبنيه هذا الغلامُ وأبوهُ ، وإنَّ اللهَ لا يُضَيِّعُ أهلَهُ.
ثم مَرَّتْ بهم رفقةٌ من جُرْهُمَ فقالوا لأم إسماعيل : أتأذنينَ لنا أن ننزلَ عندكِ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حقَّ لكم في الماءِ ، قالوا : نعم . فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم ، وأعجبهم حين شبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأةً منهم ، وماتت أمُّ إسماعيلَ ، فجاء إبراهيمُ بعد ما تزوجَ إسماعيلُ يُطالعُ تَرِكَتَهُ ، فلما جاء مكة وجد إسماعيلَ يَبْرِي نَبْلًا لهُ تحت دَوْحَةٍ قريبًا من زمزمَ ، فلما رآهُ قام إليهِ ، فصنعا كما يصنعُ الوالدُ بالولدِ والولدُ بالوالدِ أي أنهما تعانقا عناق المحب المشتاق، ثم قال : إنَّ اللهَ أمرني بأمرٍ ، قال : فاصنع ما أمر ربكَ ، قال : وتُعينني ؟ قال : وأُعينكَ، قال : فإنَّ اللهَ أمرني أن أبني ها هنا بيتا ، وأشار إلى أَكْمَةٍ مرتفعةٍ على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعدَ من البيتِ ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يبني، حتى إذا ارتفعَ البناءُ ، جاء بهذا الحجرِ ، فوضعَهُ لهُ فقام عليهِ ، وهو يبني وإسماعيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارةَ ، وهما يقولانِ : (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

لقد أصبَحَت تلكم الأسرةُ الصغيرةُ يا عباد الله نواةَ الحياة وأصلَ العمران في هذه البقعة المباركة، وشاء الله تبارك وتعالى أن يكونَ هذا الموطن مأوى للناس ومهوى لأفئدتهم، تهوي إليه من كلِّ فجٍّ عميق، لا يملون من زيارته ولا يشبعون من عمارته كما قال عز وجل قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) قال ابن عباس رضي الله عنه: معنى مثابة للناس أي : لا يقضون منه وطرا أي لا يشبعون منه ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه‪ .‬

قال الحسن بن عمران – ابن أخي سفيان بن عيينة رحمه الله -: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومائة فلما كنا بمزدلفة وصلى المغرب والعشاء استلقى على فراشه، ثم قال: قد وافيتُ هذا الموضع سبعين عاما أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأل ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون... وهو ابنُ إحدى وتسعين سنة.

قال ابن أبي ليلى: حج عطاء رحمه الله سبعين حجة، وكان قد عاش مائة سنة.

وحج الشيخُ ابنُ باز رحمه الله ستين حجة، فلما كان العام الذي توفي فيه وكان قد ناهز التسعين نهاه الأطباء عن الحج لمرضه وأكثروا عليه فامتثل أمرهم وفي قلبه لوعة، وفي صدره ضيق، وفي نفسه حزن وأسى، فما لبث أن مات بعد الحج في شهر الله المحرم، رحمه الله ورضي عنه.

اللهم ارزقنا حج بيتك المحرم واجعلنا من الموفقين المرضيين المقبولين يا خير الراحمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد أيها المسلمون:

فإن بلوغ تلك الديار المباركة المقدّسة نعمة عظيمة يتمناها مئات الملايين من المسلمين ولا يستطيعون.

ولذا فإنه من تمام العقل والحكمة والديانة أن يحرص زائر البيت الحرام على وقته فيملأه بالذِكر والدعاء والتلاوة ونوافل الصلاة وغيرها لما يُرجى في تلك الرحاب الطاهرة المطهرة من الاستجابة والبركة ومضاعفة الأجور

كان أنس بن مالك‪ ‬إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه

وكان شريح رحمه الله "وهو من كبار التابعين" إذا أحرم يكون كالحيّة الصماء من قلة حديثه مع الناس ودوام الاشتغال بالذِكر والتفكر والخشوع لله

وحجّ مسروق بن الأجدع التابعي فما نام إلا ساجداً، يغلبه النوم في سجوده فينام لطول قيامه

قال عبدالمجيد بن أبي روّاد عن السلف (كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين، كأن على رؤوسهم الطير، يستبين لمن رآهم أنهم في نسك وعبادة)

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في ترجمة الإمام ابن القيم : (حج ابن القيم رحمه الله مرات كثيرة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدّة العبادة وكثرة الطواف أمرًا يُتعجب منه)

نسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وأن يرزقنا لذة الطاعة وحلاوة العبادة.
اللهم أَعِنّا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد.


 

محمد المهنا
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية