اطبع هذه الصفحة


رسالةُ تعزيةٍ إلى والدَين فقدا طفلهما

بقلم: محمَّد بن سليمان المهنَّا

 
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد:

فأتقدَّم إليكما بالتعزية وأقول:
أحسن الله عزاءكما، وعظَّم أجوركما، ورزقكما من الإيمان واليقين والخَلَف الصالح -في الدنيا والآخرة- ما يَسُرُّ قلوبكما ويُقِرُّ عيونكما. اللهم آمين.

ثم إنِّي أبشِّركما بأمرين:
الأول يتعلَّق بالطفل.
والآخر يتعلَّق بكما.

أما الأمر الأول:

فالتذكير بأن الله -عز وجل- رحيم بعباده المؤمنين، حتى بالعصاة والمذنبين، فكيف بالأطفال المُبرَّأين من الذنوب المُطهَّرين مما يُغضب علَّام الغيوب؟.
لا شك أن رحمة الله تشملهم، وفضله ومِنَّته وجَنَّته تَسَعُهم، بل إنهم يكونون في استقبال والديهم في جنات النعيم، كما جاء في الحديث الصحيح: أن رجلاً من الصحابة كان له ابنٌ صغيرٌ وكان يأتي به إلى حلقة العِلْم عند النبي ﷺ، فمات الغلام، فترك الرجلُ حضورَ حلقة العلم حُزْناً على ولده، فلقيه النبي ﷺ، فسأله عن ابنه، فأخبره أنه مات، فعزَّاه‪ ‬وقال: يا فلان، أيُّهما أحب إليك: أن تُمتَّع به عمرك؟ أو أن لا تأتي غداً‪ ‬باباً‪ ‬من‪ ‬أبواب‪ ‬الجنة‪ ‬إلا‪ ‬وجدتَه‪ ‬قد‪ ‬سبقك إليه ففتحه لك؟ قال الرجل: بل أُحبُّ أن يسبقني إلى أبواب‪ ‬الجنة. قال: فذاك لك.
فقام رجلٌ من الأنصار فقال: يا نبيَّ الله، أهذا لهذا الرجل خاصة؟ أم‪ ‬من‪ ‬هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك؟.
فقال ﷺ: (بل من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك).

وفي صحيح مسلم أن رجلاً قال لأبي‪ ‬هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فهل أنت محدِّثي عن رسول الله ﷺ‪ ‬بحديث‪ ‬تطيب به أنفسنا عن موتانا؟.
فقال أبو هريرة: نعم سمعت النبي ﷺ يقول: (صغارهم دعاميص الجنَّة، يتلقَّى أحدهم أباه -أو قال أبويه- فيأخذ بيده فلا ينتهي‪ ‬حتى يدخله الله وأباه الجنة).
والدعاميص جمع دعموص، قال النووي: الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي هذا الصغير في الجنة لا يفارقها.
فاللهم لك الحمد على رحمتك بنا وبأولادنا.

أما البشارة الثانية فأوجهها إليكما.

فقد ثبت في الكتاب والسُنَّة نصوصٌ كثيرةٌ تدل على فضل الصابرين وعظيم أجرهم، وأن الله يوفيهم أجرهم بغير حساب، وهذا يشمل كل من صبر على المصائب صغيرها وكبيرها.
ولا شك أن فقد الولد من أشد المصائب وأعظمها أثراً على القلب، كما قال الأول:

ما عالج الحُزن والحرارة في الـ ---- أحشاء من لم يمتْ له ولدُ

ولأنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، فمن صبر على المصيبة التي أصابته ورضي بقضاء الله وقدره، حصل له الأجر العظيم الذي لا يَقْدُر قدره إلا الله وحده، كما ثبت ذلك في النصوص المتكاثرة من الكتاب والسنة.
قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ۝أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ وقال جلَّ شأنه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وقال جلّ في علاه: ﴿إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبير﴾. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منهـا ما رواه مسلمٌ عن صهيب الرومي قال: قَالَ رسول الله ﷺ: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).
هذا في فضل الصبر عامة.

أما فضل الصبر على فقد الولد خاصة، فقد ورد فيه أحاديث كثيرة، منها: ما رواه الترمذي عن أبي سنان قال: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: أَلا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟ قُلْتُ: بَلَى فَقَالَ حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَال: (إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ، قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ) حديثٌ حسنٌ.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه، أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اجْعَلْ لَنَا يَوْماً، فَجاءهن فوَعَظَهُنَّ وَقَالَ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ، قَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ يا رسول الله؟ قال: واثنان).

وقد علَّمنا نبيُّنا ﷺ دعاءً نقوله عند المصيبة، فيه فضلٌ كبيرٌ وأجرٌ عظيم، وهو ما رواه مسلمٌ في صحيحه عن أُمِّ سلمة قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ "إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا" إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا).

أسأل الله أن يُلهمكما الصبر، وأن يرزقكما عظيم الأجر، وأن يخلف عليكما بالخلف الصالح والخير الكبير. اللهم آمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

 
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية