الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله . أما بعد :
فقد لا حظت كثرة المواضيع التي تتحدث عن مسألة عمل الجوارح ، وحكم تاركه
بالكلية . ورأيت أن كثيرا من المشاركات متقاربة ، ربما يفصل بينها خيط دقيق .
والملاحظ أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كان له الحظ الأوفر في النقل . ولا
غرابة في ذلك ، فشيخ الإسلام رحمه الله هو فارس هذا الميدان .
ومما لا حظته أيضا أن جل من كتب في هذه المسألة خارج الانترنت وداخلة ، يقر
بالتلازم بين الظاهر والباطن . لكن يبقى الخلاف في حدود هذا التلازم .
فالذين يرون كفر تارك عمل الجوارح بالكلية يقولون : إذا انتفى العمل الظاهر
انتفى عمل القلب وذهب الإيمان ، فكان الكفر.
والذين يرون نجاة تارك العمل الظاهر يتكئون على نحو قول شيخ الإسلام : دل على
عدمه أو ضعفه . ، أو أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند
الضعف .
وأيضا : فربما حمل هؤلاء كثيرا من عبارات شيخ الإسلام على أنها تعني انتفاء
الإيمان الكامل أو الواجب .
ولهذا رأيت أن مما يعين على رفع هذا
النزاع أن يقف الجميع على عبارات للسلف ولشيخ الإسلام تنص على شيء مما يلي :
1-
أن انتفاء عمل الجوارح لا ينفع معه التصديق وقول اللسان .
2-
أن انتفاء عمل الجوارح يلزم منه انتفاء إيمان القلب .
3-
أن انتفاء عمل الجوارح يلزم منه ألا يبقى في القلب إيمان.
4-
أن ترك عمل الجوارح كفر.
فمثل هذه الجمل الصريحة تقضي على العبارات المحتملة ، كقوله : دل على عدمه أو
ضعفه ، مع أن في هذه العبارة التسليم بأن ذهاب عمل الجوارح قد يدل على عدم
الإيمان الذي في القلب . وهذه الحالة لا يسلم بها المخالف.
وكذلك قول شيخ الإسلام :
إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف ، لا يمكن أن تقاوم
عبارات صريحة كالتي مضى ذكرها.
وأحب أن أنبه إلى أمر آخر ، وهو ضرورة التفريق بين مسائل الإجماع ومسائل
الخلاف ، ولا شك أن كون الإيمان قول وعمل ، مما اتفقت عليه كلمة أهل السنة
والجماعة على مر العصور.
وقولهم هذا ظاهر في التسوية بين القول والعمل ، بل صرحوا أيضا بأنه لا ينفع
ولا يستقيم قول بلا عمل . وهذه التسوية ليست في التعريف واللفظ كما فهم بعض
الإخوة ، بل هي تسوية في الرتبة والمنزلة .
ولهذا سأبدأ هذا المقال بحكاية إجماع أهل السنة على أنه لا يجزيء قول اللسان
والتصديق دون عمل الجوارح .
ثم أشرع في نقل عبارت شيخ الإسلام – ولغيره - التي تبين حدود التلازم بين
الظاهر والباطن ، والتي تقضي بأن انتفاء العمل الظاهر كلية يعني انتفاء إيمان
القلب الصحيح ، كما يعني الكفر .
تحرير محل النزاع :
1-
المسألة مفروضة في رجل شهد شهادة الحق بلسانه ، وصدق بقلبه ، وأتى بعمل القلب
اللازم ، من المحبة والخوف والانقياد والتسليم ، وعاش دهره لا يسجد لله سجدة
ولا يفعل شيئا من الفرائض ، ولا النوافل ، ولا يتقرب الى الله بعمل ، مع
تمكنه من ذلك ، وعلمه بما أوجب الشرع عليه في ذلك . فهل ينفعه قول اللسان
وقول القلب وعمله ، مع انتفاء عمل الجوارح ؟
وهل يحكم لهذا الرجل بالكفر ، أم هو مسلم تحت المشيئة ؟
وهل عمل الجوارح – في الجملة – ركن من أركان الإيمان ، تتوقف صحة الإيمان على
وجوده ، كتوقفها على بقية الأركان ؟
2-
والبحث هنا في حكم هذا الرجل بالنظر إلى ما عند الله ، أي في باب الحكم على
الحقيقة ، وليس باعتبار الحكم عليه في الظاهر ؛ لأنه يصعب – غالبا- الحكم على
شخص ما بأنه لم يأت بشيء من أعمال الجوارح مع القدرة والتمكن .
وأقول : مع القدرة والتمكن ، لأن إمكان الاطلاع على صورة ترك العمل مع عدم
التكمن حاصلة ، كأن ينطق كافر بالشهادتين ثم يموت ، فهذا معذور لعدم تمكنه من
العمل .
3-
والكلام مقيد بمن بلغته الشريعة ، وثبت في حكمه الخطاب ، أما من لم تبلغه
الأحكام فهو خارج عن محل النزاع .
4-
لا خلاف في أن انتفاء تصديق القلب موجب للكفر على الحقيقة ، وقد يحكم له في
الظاهر بالإسلام لعدم تلبسه بناقض ظاهر ، وهذا حال المنافقين .
5-
ولا خلاف أيضا في أن ذهاب عمل القلب موجب لذهاب الإيمان وعدم الانتفاع بالنطق
والتصديق ، وهذا من باب الحكم على الحقيقة أيضا ، أي بالنظر إلى ما عند الله
.
6-
ثمرة هذه المسألة هي الوقوف على منزلة عمل الجوارح عند أهل السنة ، وفهم
قولهم : الإيمان قول وعمل ، والتفريق بين مذهبهم ومذهب المرجئة و الخوارج
والمعتزلة ، وليس للمسألة تعلق بتكفير أحد من الناس ، وقد نبهت على ذلك من
قبل ، ولا مانع من تكراره لأن بعض الجهلة إذا قرأ ( كفر... وإيمان ) ظن أن
القضية إنما هي انشغال بالتكفير ، ودعوة إليه .
ولا مرية في أن السلف لم يغفلوا هذه المسألة ، ولم يقصروا في بيانها ، وبين
يدي شيء كثير من كلامهم وبيانهم ، لكن الأخ أبا عمر رغب في بحث المسألة
بالدليل من الكتاب والسنة ، ثم أبدى قبوله للاستدلال عليها بالقياس وبفهم
السلف الذي ليس له مخالف.
ولست أستدل لهذه المسألة إلا بدليلين : أولهما الإجماع ، وثانيهما : علاقة
الظاهر بالباطن ، القاضية بانتفاء عمل القلب عند انتفاء عمل الجوارح . وهذا
الدليل استدل به شيخ الإسلام لإثبات كفر تارك الصلاة في الباطن ( على الحقيقة
) ( 7/611 ) وكلام شيخ الإسلام مستفيض في الحكم بانتفاء إيمان القلب عند
انتفاء عمل الجوارح .
أما الإجماع ، فهو ما نقله الشافعي
رحمه الله ، عن الصحابة والتابعين:
قال " وكان الإجماع من الصحابة
والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية لا بجزيء
واحد من الثلاث إلا بالآخر "
شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 5/956 ، مجموع الفتاوى 7/209.
ولا يتم الاستدلال بهذا الاجماع على المطلوب إلا ببيان المراد بالعمل في قول
الشافعي : قول وعمل ونية ، وقبل ذلك أشير الى ثبوت هذا الاجماع عنه رحمه الله
.
أولا :
ثبوت هذا الإجماع :
قال الامام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد اهل السنة والجماعة 5/956
" قال الشافعي رحمه الله في كتاب الام في باب النية في الصلاة : نحتج بأن لا
تجزيء صلاة الا بنية لحديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما
الأعمال بالنيات ) ثم قال :
وكان الاجماع من الصحابة والتابعين .... " الخ .
وهكذا نقله شيخ الاسلام أيضا عن كتاب الأم .
فهذا نقل عن كتاب ، لا يحتاج إلى بحث في الإسناد .
وكون هذا النص ليس موجودا الآن في كتاب الام كما قال محقق كتاب اللالكائي ،
لا يعني عدم وجوده فيه في عصر اللكائي ، وعصر شيخ الإسلام ، بل لو كان مفقودا
في زمن شيخ الإسلام لأحال في نقله على الللاكائي ، كما يفعل ذلك كثيرا في
كتبه رحمه الله .
بل هذا الإجماع الذي يحكيه الشافعي ذكره الرازي عنه واستشكله :
قال شيخ الإسلام ( 7/511)
" وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين ، حيث قالوا
: الإيمان قول وعمل ، وقالوا مع ذلك : لا يزول بزوال بعض الأعمال !
حتى ان ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضا في ذلك ، فإن الشافعي كان
من أئمة السنة ، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور ، وقد ذكر في كتاب
الطهارة من " الأم " إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة ،
فلما صنف ابن الخطيب تصنيفا فيه ، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي
استشكل قول الشافعي ورآه متناقضا " اه
فثبوت هذا الاجماع عن الشافعي رحمه الله لا شك فيه ، وهو ثابت عن غيره أيضا ،
وهو قولهم : الايمان قول وعمل ، لكن ما نقله الشافعي يبين منزلة عمل الجوارح
، وأن الاجزاء الاخرى لا تنفع بدونه .
وقد أشار الى هذا الاجماع ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (1/104 ت :
شعيب الارناؤوط)
ثانيا :
ما المقصود بالعمل في هذا الاجماع ؟
والجواب : المقصود بذلك عمل الجوارح جزما ، وبيان ذلك بأمرين :
الأول :
أن قوله " ونية " اشارة الى عمل القلب ، فتعين حمل قوله " وعمل " على عمل
الجوارح . كما ان قوله " قول " شامل لقول اللسان وقول القلب .
والنية هي الاخلاص وهو عمل القلب ، وتمثيل الائمة لعمل القلب بالنية او
الإخلاص أمر شائع مشهور ، وتأمل هذا النقل عن الامام ابي عبيد القاسم بن سلام
( 157ه-224ه) في كتابه الإيمان ص 9،10 لترى استعماله لنفس عبارة الشافعي ، مع
التعبير عن النية بالإخلاص ، وعن العمل بعمل الجوارح ، في حكاية قول أهل
السنة :
قال " اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الامر
فرقتين :
فقالت إحداهما : الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب
وشهادة الالسنة
وعمل الجوارح .
وقالت الفرقة الاخرى : بل الايمان بالقلوب والالسنة فأما الاعمال فإنما هي
تقوى وبر وليست من الايمان . وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين ، فوجدنا الكتاب
والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان :
بالنية
والقول
والعمل ،جميعا ، وينفيان ما قالت الاخرى " انتهى .
وهنا عبر الامام ابوعبيد عن حقيقة مذهب اهل السنة بتعبيرين :
الاخير منهما هو تعبير الشافعي رحمه الله ،
فدل على ان العمل : هو عمل الجوارح
وان النية : هي الاخلاص ، وهو من عمل القلب .
وانظر في التمثيل لعمل القلب بالنية :
الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 46 حيث قال " عمل القلب : نيته واخلاصه "
و معارج القبول 2/589 .
الأمر الثاني :
الذي يدل على أن العمل هنا هو عمل الجوارح :
أن من العلماء من حكى الاجماع بلفظ قريب من لفظ الشافعي وصرح بأن العمل هو
عمل الجوارح :
قال الإمام الآجري في الشريعة ص 125(ط.دار الكتب العلمية ، ت: محمد بن الحسن
اسماعيل ) بعد ذكر المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء :
وهو في الطبعة المحققة للدكتور الدميجي 2/686
" بل نقول – والحمد لله – قولا يوافق الكتاب والسنة وعلماء المسلمين الذين لا
يستوحش من ذكرهم وقد تقدم ذكرنا لهم : ان الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا
، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، لا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة ،
لا يجزي بعضها عن بعض
، والحمد لله على ذلك " انتهى .
قد يقال : هذا الاجماع كاف في المسألة ومصرح بأن الثلاثة لا يجزي بعضها عن
بعض ، فلم التركيز على ما نقله الشافعي ؟
والجواب : ان الآجري متوفي سنة 360 ه ، وقد يقال انه ينقل الاجماع عن اهل
عصره ، اما الشافعي فإنه يحكي اجماع الصحابة والتابعين ، فلا مجال لنقض هذا
الاجماع الا بإثبات مخالف له من الصحابة !
ولتمام الفائدة أنقل إجماعا آخر حكاه
الآجري أيضا
قال ص 102 ( 2/611 ت: الدميجي )
" قال محمد بن الحسين : اعلموا رحمنا
الله تعالى وإياكم : أن الذي عليه علماء المسلمين أن الايمان واجب على جميع
الخلق ، وهو تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح .
ثم اعلموا أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق الا ان يكون معه الايمان
باللسان نطقا ،
ولا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح ،
فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا .
دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين " .
ودفعا لما قد يتوهمه البعض ، ومنعا لتطويل النقاش بغير فائدة أقول : وقفت على
من حاول تأويل قول الشافعي – ومثله قول الآجري هنا - : " لا يجزي "
وأقول : تأمل جيدا قوله (لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق الا ان يكون معه
الايمان باللسان نطقا)
يظهر لك جليا أن الإجزاء هنا بمعنى الصحة والقبول ، إذ لا يصح الايمان مع ترك
قول اللسان بإجماع اهل السنة !!!!
وقوله بعد ذلك : "لا تنفعه " صريح في اثبات المطلوب .
وقال الآجري في ايضاح الاجماع الذي
حكاه : ص 103 ( 2/614 ت: الدميجي )
" فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للايمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق الايمان بجوارحه : مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج
والجهاد وأشباه لهذه ،
ورضي من نفسه بالمعرفة والقول : لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعـــــــــه المعرفة
والقول ، وكان تركه العمل تكذيبا منه لايمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا
منه لايمانه ، وبالله تعالى التوفيق " انتهى كلام الآجري.
وقال أيضا في كتابه الاربعين حديثا ، المطبوع مع الشريعة ص 422
" اعلموا رحمنا الله واياكم ان الذي عليه علماء المسلمين واجب على جميع الخلق
: وهو تصديق القلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح .
ثم إنه لا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان
حتى يكون معه عمل بالجوارح . فإذا
اكتملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا ، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول
علماء المسلمين ... ولا ينفع القول اذا لم يكن القلب مصدقا بما ينطق به
اللسان مع القلب ...
وإنما الايمان بما فرض الله على الجوارح تصديقا لما أمر الله به القلب ، ونطق
به اللسان ، لقوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا
ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) وقال عز وجل ( وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة )
وفي غير موضع من القرآن ، ومثله فرض الحج وفرض الجهاد على البدن بجميع
الجوارح . والاعمال بالجوارح تصديق عن الايمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد
وأشباه هذه ، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا .
ومن لم يعتقد المعرفة والقول كان تركه للعمل تكذيبا منه لايمانه [كذا ]
وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لايمانه ، فاعلم ذلك .
هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا
،
فمن قال غير هذا فهو مرجيء خبيث ، فاحذره على دينك ، والدليل عليه قوله عز
وجل ( وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة "
انتهى كلام الآجري رحمه الله .
وبعد :
فهذا هو الدليل المعتمد عندي في هذه المسألة ، وهو كما رأيت إجماع الصحابة
والتابعين، وغير خاف عليك خطر الخروج عن اجماعهم ، والحيدة عن طريقهم ، فدونك
هذه الحجة ، تأملها حق التأمل ، ودقق فيها من كل وجه ، فإذا سلمت بدلالتها
على المطلوب ، فليس يخفى عليك أني لن أقبل في معارضتها قول قائل ، او استنباط
مستنبط.
وليس من سبيل الى نقض هذا الاجماع الا بإثبات مخالف له من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم . والله أعلم .
( كتبت هذا المقال بتاريخ
18/3/2001 ، ونشر بالساحة الإسلامية ، وبشبكة الفجر ، وأنا المسلم).