الموضع الثاني :
قال شيخ الإسلام : (7/644) :
( فأصل الإيمان في القلب ، وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب
والانقياد ، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح .
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه .
ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهي تصديق لما
في القلب ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له
، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح ، كما قال أبوهريرة رضي الله عنه
: إن القلب ملك والأعضاء جنوده ، فإذا طاب الملك طابت جنوده ، وإذا خبث الملك
خبثت جنوده.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت
صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب").
هذا النقل عن شيخ الإسلام أورده علي الحلبي في " كلمة سواء " ص 28،29 ، وفي "
مجمل مسائل الإيمان العلمية " التي كتبها هو مع رفاقه : مشهور حسن سلمان ،
وسليم الهلالي ، ومحمد موسى نصر ، وحسين العوايشة .
قالوا ( ص 4) :
( الحق في مسألة الإيمان والعمل - وصلة بعضهما ببعض ؛ نقصا أو زيادة ، ثبوتا
أو انتفاء – هو ما تضمنه كلام شيخ الإسلام رحمه الله ؛ وهو قوله :
" وأصل الإيمان في القلب ؛ وهو قول القلب وعمله ؛ وهو إقرار بالتصديق والحب
والانقياد .
وما كان في القلب (فلا بد ) أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح .
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه ؛ (دل على عدمه أو ضعفه ).
ولهذا كانت (الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ) ؛ وهي تصديق لما
في القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع (الإيمان المطلق) وبعض
له ، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح"
قلنا : وانتفاء الإيمان المطلق – وهو كماله – لا يلزم منه انتفاء ( مطلق
الإيمان ) – وهو أصله – ؛ كما قرره شيخ الإسلام – رحمه الله – في مواضع-.
وقال الحلبي في التعريف والتنبئة ص 33
(أقول : فهذا أصل أصول أهل السنة – التي بها فارقوا المرجئة – في مسألة
الإيمان - ، التي منها ضلوا ، وعنها انحرفوا ، وهي حقيقة التلازم بين الظاهر
– قولا وعملا - ، والباطن – تصديقا وإذعانا - ، ونابذوا أقوالهم – حقيقة
ولفظا- .
ولكن لجهل ( البعض ) بحقيقة قاعدة ( التلازم ) بين شعب الإيمان – بأنواعها –
قوة وضعفا ، وجودا وانتفاء – وعدم استيعابها - ، أوقعهم في الخلط والخبط في
هذه المسألة الدقيقة ، وعدم الضبط لها ، أو معرفة ما ينبني عليها !!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كلام عظيم في تأصيل هذه القاعدة في
"مجموع الفتاوى " ( 7/642-644) : ذكره - رحمه الله – بعد بيانه أنه ( لا شيئ
أفضل من : لا إله إلا الله ) ، وأن ( أحسن الحسنات التوحيد ) ؛ فقال – رحمه
الله – ما نصه :
" فأصل الإيمان في القلب - وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب
والانقياد -؛ وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح .
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه (دل على عدمه أو ضعفه ).
ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهي تصديق لما في
القلب ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ،
لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح".
أقول : هذا هو الكلام الفصل ، الذي يُرد له كل فرع وفصل ، فالواجب تأمله ،
وتفهمه ، وضبطه .
من أجل هذا وصف الإمام ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين 1/101 ( عمل القلب
كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه … و … و … وغير ذلك من أعمال القلوب )
بأنها " أفرض من أعمال الجوارح ، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها…".
وهذا الكلام – وذاك – مبنيان على أصل قويم راسخ ، وهو أن " شعب الإيمان قد
تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف …" ؛ كما قال شيخ الإسلام في "
المجموع " ( 7/522). انتهى كلام الحلبي .
قلت : سيأتي التعليق على هذا النقل الأخير " شعب الإيمان قد تتلازم … الخ" إن
شاء الله.
وعلق الحلبي على قول شيخ الإسلام – السابق – " وهي شعبة من مجموع الإيمان
المطلق وبعض له " بقوله :
( فالأعمال الظاهرة – طاعات ومعاص – وجودا وعدما – متعلقة بالإيمان المطلق ،
لا مطلق الإيمان ؛ فتنبه …).
واستشهد به عدنان عبد القادر في " حقيقة الإيمان " مرتين ، ص 69 ، 79
مع تسويد الخط عند قوله : أو ضعفه !
وقد وضع ذلك تحت عنوانين : الأول : هؤلاء قطعا ليسوا بمؤمنين ولكنهم مسلمون
مفرطون ومن قال إنهم مؤمنون فهو مرجئ ولا بد.
والثاني : ترك عمل الجوارح بالكلية لا يقتضي تكفيره.
والجواب من وجوه :
الأول :
أن هذا يؤكد ما ذكرته آنفا من أنهم يتركون صريح كلام شيخ الإسلام رحمه الله ،
ويتعلقون بمثل هذه العبارات ، ويزعمون أنها : " الكلام الفصل ، الذي يُرد له
كل فرع وفصل ، فالواجب تأمله ، وتفهمه ، وضبطه " !!!
الثاني :
أن المخالف رغم استشهاده بهذا الكلام مرارا ، لم يحاول الإجابة عن قول شيخ
الإسلام : " دل على عدمه ".
بل اتكأ – أعني الحلبي – على قول شيخ الإسلام " وهي شعبة من مجموع (الإيمان
المطلق) وبعض له "
وقرر أن " انتفاء الإيمان المطلق – وهو كماله – لا يلزم منه انتفاء ( مطلق
الإيمان ) – وهو أصله – ".
وهذا يعني أنه لا توجد حالة يدل فيها ترك العمل على " عدم " الإيمان الذي في
القلب.
وهذه مخالفة صريحة لكلام شيخ الإسلام .
فانظر كيف يزعم أنه كلام فصل ، ثم يؤمن ببعضه ، ويدع بعضه .
وأما المخالف الآخر –أعني عدنان
عبدالقادر- فقد اتكأ على عبارة (ضعفه) ولم يلتفت إلى عبارة (عدمه) وكأنها
ليست من كلام شيخ الإسلام.
الثالث :
أن هذا النقل يقرر وجود حالة ينعدم فيها الإيمان القلبي عند ترك العمل بموجبه
ومقتضاه ، وهذا ما لا يسلم به المخالف.
الرابع :
أنه لا ينبغي حمل هذا الكلام على الشك أو التردد ، فالمسلك العلمي الصحيح
يقضي برد هذا الموضع إلى غيره من المواضع التي يصرح فيها شيخ الإسلام بانتفاء
الإيمان القلبي عند انتفاء العمل الظاهر " بالكلية ".
فيكون قوله رحمه الله : " وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على
الجوارح . وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه" مفيدا وجود
حالتين :
حالة ينعدم فيها الإيمان القلبي ، وهذه تكون عند ترك العمل بموجبه ومقتضاه
بالكلية.
وحالة يضعف فيها الإيمان القلبي ، وتكون عند ترك العمل بموجبه ومقتضاه ،
جزئيا. ( وتذكر أن شيخ الإسلام يكفر تارك الصلاة ) !
وقد أشرت إلى هذه المواضع الصريحة في أول هذا المبحث ، ومنها قوله :
( فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ، و من لا دين له فهو كافر)
وقوله : (وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه
ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من
الواجبات، )
وقوله : (فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي
يختص بإيجابها محمد. )
وقوله : (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في
القلب إيمان وهذا هو المطلوب).
وقد رأيت من حمل كلام شيخ الإسلام على : ترك القول والعمل الظاهر معا .
وهذا الحمل لا يصح ، فإن شيخ الإسلام يصرح في مواضع بانتفاء الإيمان ، عند
عدم القول ، ويصرح في مواضع أخر بانتفاء الإيمان عند عدم العمل الظاهر ،
والواجبات الظاهرة ، ويمثل لها بالصلاة والزكاة والصيام .
ولو كان المؤثر في الحكم هو ذهاب القول وحده ، لكان ذكر هذه الأمور عبثا
ولغوا ، ولما ساغ له أن يعلق انتفاء الإيمان على ذهاب العمل الظاهر وحده في
مواضع.
الخامس :
أن قول الحلبي : " فالأعمال الظاهرة – طاعات ومعاص – وجودا وعدما – متعلقة
بالإيمان المطلق ، لا مطلق الإيمان ؛ فتنبه …".
خطأ ظاهر ، بناه على قول شيخ الإسلام : " ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب
إيمان القلب ومقتضاه ؛ وهي تصديق لما في القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهي
شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ".
والحق أنه لم يفهم كلام شيخ الإسلام ، فإن قول اللسان – أيضا – شعبة من مجموع
الإيمان المطلق وبعض له ، كما في حديث شعب الإيمان !!
وهكذا القول في " التصديق " و " عمل القلب " فكلاهما من شعب الإيمان المطلق …
الخ. فانتبه !
السادس :
أن قول الحلبي عن التلازم بين الظاهر والباطن أنه أصل أصول أهل السنة التي
بها فارقوا المرجئة ، وأنه " لجهل ( البعض ) بحقيقة قاعدة ( التلازم ) بين
شعب الإيمان – بأنواعها – قوة وضعفا ، وجودا وانتفاء – وعدم استيعابها - ،
أوقعهم في الخلط والخبط في هذه المسألة الدقيقة ، وعدم الضبط لها ، أو معرفة
ما ينبني عليها !!"
حق وصدق ، وهو ما نبهت عليه في بداية هذا البحث ، وأعيد بعضه هنا ليظهر جليا
أن " الحلبي " لم يفهم هذا " التلازم " ولم " يستوعبه " فأقر به " اسما "
وأنكره حقيقة .
قلت :
" ينبغي أن يعلم أن الاعتراف بهذا التلازم وفهمه والقول بموجبه ، هو ما يميز
السني من المرجيء ، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ، وبين أن المرجئة يرون
العمل ثمرة ، لا لازما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم على وجوه غلط المرجئة في الإيمان كما
الفتاوى ج 7 ص 204 :
( الثالث : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال
ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان
ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ، والتحقيق أن إيمان
القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان
تام بدون عمل ظاهر ، ولهذا صاروا
يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن
يقولوا : رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر وهو لا يسجد لله
سجدة ولا يصوم رمضان ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان ، يقولون : هذا
مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار . )
فتأمل قول شيخ الإسلام : (( ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه
بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له)) .
فهذا فرقان ما بين المرجئة والسنة . وسيأتي بيان المراد بإيمان القلب التام.
وقال شيخ الإسلام في بيان هذا التلازم :
مجموع الفتاوى ( 7 / 541)
( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم
ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال
الظاهرة والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما
فى القلب ولازمه ودليله ومعلوله كما
أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما فى القلب فكل
منهما يؤثر فى الآخر لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله
والأصل يثبت ويقوى بفرعه ).
والآن أسوق إليك مواضع مهمة من كلام
شيخ الإسلام وغيره :
1- بيان شيخ الإسلام أن مقتضى التلازم
انعدام الإيمان بانعدام هذه الأعمال :
قال شيخ الإسلام ( 7/577)
( وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ;
فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان
الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من
عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا
اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه
يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات
الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل : حقيقة
قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى
فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له
ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن
وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم
وهذا حقيقة قولك )).
فانظر قوله : كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم.
وقوله : فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن.
وقوله مبينا ما يترتب على القول بعدم التلازم : وإذ عدم لم يدل عدمه على
العدم .
فيا عجبا من إخواننا الذين يقرون بالتلازم ، ثم يقولون إن عدم الظاهر لا يدل
على عدم الباطن ! ".
الموضع
الثالث