الحلقة الثالثة : الشرك وأنواعه
سبق بيان حال المشركين عبدة الأصنام ، وصحة إقرارهم لله بالخلق والرزق
والإحياء والإماتة ، وان شركهم لم يكن باعتقاد وجود الهين متساويين ، أو
اعتقاد النفع والضر في هذه الأصنام ، وإنما كان بعبادة هذه الأصنام أملا في
شفاعتها ، ولنيل القربى والزلفى عند الله . مع اعتقادهم أنها مملوكة مربوبة
لله لا تنفع ولا تضر استقلالا ، وما هي الا صور للصالحين من الأنبياء
والعلماء والزهاد او الملائكة ، كما سبق مفصلا في الحلقتين الماضيتين .
ولا يخفى ان عباد القبور ينكرون هذه الحقائق ، ويلبسون على العامة والخاصة ،
مدعين أنه ما أشرك أولئك الا باعتقادهم الربوبية والنفع والضر في اصنامهم.
ولا مانع ان أعيد نص كلام محمد علوي
المالكي كاملا :
قال في مفاهيمه التي يجب ان تصحح ، بل ان
تنسف من الأصل / ص 95 تحت عنوان
الواسطة الشركية ، بعد ذكر قوله تعالى " ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله
زلفى " :
( والاستدلال بهذه الاية في غير محله ، وذلك لأن هذه الآية الكريمة صريحة في
الانكار على المشركين عبادتهم للأصنام ، واتخاذها آلهة من دونه تعالى ،
وإشراكهم إياها في دعوى الربوبية ، على ان عبادتهم لها تقربهم الى الله زلفى
، فكفرهم واشراكهم من حيث عبادتهم لها ، ومن حيث اعتقادهم انها أرباب من دون
الله .
وهنا مهمة لا بد من بيانها ، وهي ان هذه الآية تشهد بأن اولئك المشركين ما
كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم من قوله مسوغين عبادة الاصنام : ما نعبدهم
الا ليقربونا الى الله زلفى ، فإنهم لو كانوا صادقين في ذلك لكان الله أجل
عندهم من تلك الاصنام ، فلم يعبدوا غيره …..)
وقد مضى كلام أهل العلم الذي لا يدع
مجالا للشك ، في هذه الحقيقة التي يثبتها القرآن . ولا ادري من سلف هذا
المالكي ؟!!
قلت : لعله استفاد هذا التحقيق عن
طريق الكشف !!!
وقال ص 96 ( وقل ذلك ايضا في قوله تعالى " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض
ليقولن الله " ، فإنهم لو كانوا
يعتقدون حقا ان الله تعالى الخالق وحده ، وان أصنامهم لا تخلق ، لكانت
عبادتهم لله وحده دونها ) ويفهم منه
ان المشركين لم يعتقدوا – حقا – ان الله الخالق !!!!! وانهم اعتقدوا ان
الأصنام تخلق !!!!!
وهذا أيضا ربما جاءه من العلم اللدني ، الذي حرمه المفسرون والعلماء الأكابر
ممن سبق ذكرهم .
فانظر إلى هذا الضلال البين ، والمخالفة الصريحة لما ثبت بالوحي ( إشراكهم
اياها في دعوى الربوبية – اعتقادهم أنها أرباب من دون الله – ما كانوا جادين
– أصنامهم تخلق …)
وهذه القضية التي قد يظن البعض أني أطلت في عرضها ، هي أم القضايا ،
والانحراف فيها من أعظم أسباب الانحراف في تصور التوحيد والشرك .
ولئن كان كلام القبورية عجيبا في تصورهم لحال
المشركين الأوائل ، فإن كلامهم في تعريف الشرك وأنواعه أشد عجبا .
وإنها لطامة كبرى وبلية عظمى أن يتصدر للتأليف في مسائل العقيدة والمناظرة
عليها من لا يعرف الشرك وأنواعه !!
بل انها لبلية كبرى أن يظل كثير من المسلمين لا يعرفون ماهية الشرك الذي حذر
منه اشد التحذير، واخبر انه لا يغفره ، وان صاحبه قد حرمت عليه الجنة .
ومحال أن يغفل القرآن بيان هذا الأمر المهلك المدمر . ومن تتبع ألفاظ القرآن
الكريم ، وتأمل المواطن التي وردت فيها مادة الشرك ، حصل له العلم الصحيح ،
والمعرفة التامة ، بحقيقة ما حرمه الله وحذر منه . كما أن من عرف حال
المشركين الذين خاطبهم القرآن ، وشنع عليهم وثنيتهم ، وأمر بقتالهم ، اتضحت
له القضية ولا شك . ولما أعرض عباد
القبور عن هذين المسلكين ، واكتفوا بما نسجه الشيطان على ألسنة العوام في هذه
القضية ، أصبحوا يقولون : الشرك اعتقاد التأثير والنفع والضر استقلالا !! ،
او اعتقاد شريك لله في الربوبية ، او عبادة غير الله بالشروط السابقة (
اعتقاد الربوبية او النفع والضر ) ، هذا فقط هو الشرك
وصدق من قال : لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وفاتهم الحق الذي ليس فيه خفاء ، ان
الشرك هو : عبادة غير الله ، استقلالا او اشتراكا ، لا اعتقاد النفع والضر ،
او طلبا للقربى والزلفى ، أو أملا في الشفاعة عند الله ، فالكل سواء . وإليك
التفصيل :
أولا : كيف كان شرك عبدة الأصنام
الذين نزل فيهم القرآن ؟
ولا شك ان الجواب قد عرف مما مضى
مفصلا . وللتذكير فقط اقول :
قال الرازي :
(ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه انه مجاب الدعوة ومقبول
الشفاعة عند الله ، اتخذوا صنما على صورته يعبدونه ، على اعتقاد ان ذلك
الانسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى ، على ما أخبر الله تعالى
عنهم بهذه المقالة في قوله ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) " انتهى .
وقال : (ورابعها : انهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم
وأكابرهم ، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر
تكون شفعاء لهم عند الله تعالى . ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق
بتعظيم قبور الأكابر ، على اعتقاد انهم اذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء
لهم عند الله " انتهى
انظر تتمة الكلام وموضعه في الحلقة الماضية
ثانيا : وهذه بعض الآيات القرآنية
التي توضح مفهوم الشرك : واقرأ ، فلك
بكل حرف عشر حسنات :
قال الله تعالى:
(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) البقرة (165)
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) النساء 36
(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (121)
النساء
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(194)أَلَهُمْ
أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلَا تُنظِرُونِي(195) الأعراف
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31) التوبة
(وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا
إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ كَفُورًا(67) الإسراء
(وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا(26) الكهف
(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ(65) العنكبوت
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14) فاطر
(أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3) الزمر (لَهُمْ شُرَكَاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) الشورى 21
الى غير ذلك من الآيات المحكمات .
ثالثا: مفهوم الشرك وأنواعه عند أهل
العلم
وهنا أذكر كلام اهل العلم الشارح
والمبين لما جاء في كتاب الله .
الفخر الرازي :
1-
قال في تفسير قوله تعالى " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا " النساء (
10/95) "قوله ( ولا تشركوا به شيئا ) وذلك لانه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله
( واعبدوا الله ) أمر بالاخلاص في العبادة بقوله ( ولا تشركوا به شيئا ) لان
من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا ، ولهذا قال تعالى ( وما أمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) انتهى .
وهذا صريح في أن الشرك عبادة غير الله ، من غير تقييد باعتقاد النفع والضر ،
أو اعتقاد المساواة او غير ذلك .
وقد سبق كلام الرازي في ان هذا الشرك هو الشائع :
قال : ( " المسألة الأولى : اعلم انه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا
يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة ، وهذا مما لم يوجد الى الآن . لكن
الثنوية يثبتون الهين أحدهما حليم يفعل الخير ، والثاني سفيه يفعل الشر .
وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ، ففي الذاهبين الى ذلك كثرة ) وانظره في
الحلقة الماضية .
العلامة تقي الدين احمد بن علي
المقريزي
قال في " تجريد التوحيد " ص 5
" وقد علم الله سبحانه وتعالى عباده كيفية مباينة الشرك في توحيد الالهية ،
وانه تعالى حقيق بإفراده وليا وحكما وربا ، فقال تعالى " قل أغير الله أتخذ
وليا " وقال " أفغير الله ابتغي حكما " وقال " قل أغير الله أبغي ربا " فلا
ولي ولا حكم ولا رب الا الله الذي من عدل به غيره فقد أشرك في الوهيته ولو
وحد ربوبيته .
فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها . وتوحيد الالهية
مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين ، ولهذا كانت كلمة الاسلام لا اله الا
الله ، ولو قال : لا رب الا الله ، ما أجزأه عند المحققين ، فتوحيد الالوهية
هو المطلوب من العباد … " انتهى
وقال المقريزي ص 9
" وشرك الامم كله نوعان :
شرك في الالهية ، وشرك في الربوبية . فالشرك في الالهية والعبادة هو الغالب
على اهل الإشراك ، وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد
المشايخ والصالحين الأحياء والأموات الذين قالوا " ما نعبدهم الا ليقربونا
الى الله زلفى " ويشفعوا لنا عنده ،
وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة ، كما هو المعهود في
الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته
. والكتب الالهية كلها من أولها إلى آخرها
تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله وتنص على أنهم أعداء الله تعالى . وجميع
الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم ، وما أهلك الله
تعالى من الأمم الا بسبب هذا الشرك ومن أجله … )
واليك نصوصا أخرى :
وقال المقريزي :
ص 11 " والنوع الثاني من الشرك : الشرك به تعالى في الربوبية ، كشرك من جعل
معه خالقا آخر كالمجوس وغيرهم الذين يقولون بأن للعالم ربين ، أحدهما خالق
الخير ويقولون له بلسان الفارسية : يزدان ، والآخر خالق الشر ، ويقول المجوس
بلسانهم : أهرمن ، وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون بأنه لم يصدر عنه الا
واحد بسيط ، وان مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس ، وان مصدر هذا
العالم عن العقل الفعال فهو رب كل ما تحته ومدبره . وهذا شر من شرك عباد
الأصنام والمجوس والنصارى ، وهو أخبث شرك في العالم ….) انتهى
وقال ص 12
" وكثيرا ما يجتمع الشركان في العبد ، وينفرد احدهما عن الآخر " انتهى
وهذا كلام مهم ، يثبت ان الشرك قد يقع في العبادة فقط ، من غير اعتقاد تأثير
او نفع أو ضر . على انه سيأتيك ان كثيرا من عباد القبور يثبتون لمعبوداتهم
النفع والضر والتصرف الذي لا يمكن ان يقال معه : انه بأمر الله او بإرادته .
وقال ايضا ص 17
" والشرك شركان : شرك يتعلق بذات
المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله . وشرك في عبادته ومعاملته ، وان كان صاحبه
يعتقــــد انه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ) انتهى
. فيا ليت قومي يعلمون !!!
وقال المقريزي ص 12 مبينا انواع الشرك في الالهية :
" فتضمنت هذه الآية تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة ، وانه لا يجوز
إشراك غيره معه ، لا في الأفعال ، ولا في الألفاظ ، ولا في الارادات .
فالشرك به في الافعال : كالسجود لغيره
سبحانه وتعالى ، والطواف بغير بيته المحرم ، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره
، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه تعالى في الأرض ، أو تقبيل
القبور واستلامها والسجود لها . وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ
قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى فيها ، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا تعبد
من دون الله تعالى . فهذا لم يعلم معنى قول الله تعالى ( إياك نعبد ) …."
وذكر ادلة في التحذير من الغلو في القبور . ورسالته نافعة جدا على صغر حجمها
، وقد ذكر انواعا للشرك في الربوبية تركتها اختصارا .
قول أبي البقاء الكفوي الحنفي
في كتابه ( الكليات ) ص 216
" والشرك أنواع :
شرك الاستقلال ، وهو إثبات شريكين مستقلين ، كشرك المجوس .
وشرك التبعيض : وهو تركيب الإله من آلهة ، كشرك النصارى .
وشرك التقريب : وهو عبادة غير الله ؛
ليقرب الى الله زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية . وشرك التقليد : وهو عبادة غير
الله تبعا للغير ، كشرك متأخري الجاهلية .
وشرك الأسباب ، وهو إسناد التأثير
للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ، ومن تبعهم على ذلك.
وشرك الإغراض ، وهو العمل لغير الله ."
قال : " فحكم الأربعة الأول الكفر بإجماع . وحكم السادس المعصية من غير كفر
بإجماع ، وحكم الخامس التفصيل " انتهى .
فتأمل تفريقه بين شرك العبادة للتقريب ، وبين اسناد التأثير للأسباب ، لتعلم
ضلال من يحصر شرك العبادة في صورة اعتقاد النفع والضر استقلالا .
وقارن الاجماع هنا على شرك التقريب وانه كفر ، بالاجماع الذي نقله شيخ
الاسلام ابن تيمية على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ،
ويأتي ان شاء الله .
القاضي عياض المالكي :
قال في الشفا ( 2/ 510 ) مع شرح الملا
علي القاري
" ان كل مقالة صرحت بنفي الربوبية ، او الوحدانية ، أو عبادة أحد غير الله ،
او مع الله ، فهي كفر ، كمقالة الدهرية و..... والنصارى والمجوس ، والذين
أشركوا بعبادة الأوثان ، او الملائكة ، او الشياطين ، او الشمس ، او النجوم ،
او النار ، او احد غير الله ، من مشركي العرب واهل الهند والصين والسودان
وغيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب ، وكذلك القرامطة ، وأصحاب
الحلــــــــــــــــول و ... فذلك كله كفر بإجماع المسلمين . " انتهى
وقال ( 2/521 )
" وكذلك نكفر بكل فعل اجمع المسلمون على انه لا يصدر الا من كافر ، وان كان
صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم وللشمس والقمر
والصليب والنار .... فقد اجمع المسلمون ان هذا لا يوجد الا من كافر ، وان هذه
الافعال علامة على الكفر ، وان صرح فاعلها بالاسلام " انتهى
فعسى ان يقول قائل : لا بد من اعتقاد الربوبية فيها ، او النفع والضر
استقلالا !!!
وقال الخفاجي
في شرحه على الشفا ( نسيم الرياض 4/
498 ) :
" ( او ) من اشرك بعبادة ( أحد ) أي مخلوق اتخذه معبودا ( غير الله من مشركي
العرب واهل الهند والصين والسودان ) " انتهى .
وقال القرطبي
" قوله تعالى ( ولئن سألتهم ) يعني
المشركين ( من خلق السموات والأرض ليقولن العزيز العليم ) فأقروا له بالخلق
والإيجاد ، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم ، وقد مضى في غير موضع " انتهى .
وقال : " قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) أي لأقروا بأن
الله خلقهم بعد ان لم يكونوا شيئا ( فأنى يؤفكون ) أي كيف ينقلبون عن عبادته
، وينصرفون عنها ، حتى أشركوا به غيره ، رجاء شفاعتهم له " انتهى
وقد سبق ذلك في الحلقة الأولى .
ثم إليك تفصيلا لنوعين من الشرك ، لا يذكرهما عباد القبور ، وهما شركا المحبة
والطاعة .
قبل ان أتحدث عن شرك الطاعة والمحبة والذي يجتث شبهة المخالفين من جذورها ،
ويدل على ان من الاعمال ما هو شرك اكبر دون اعتقاد نفع او ضر ، كما يوضح معنى
العبادة الشامل . وسيأتي مبحث خاص بمفهوم العبادة ان شاء الله .
قبل هذا انقل تصور محمد علوي المالكي
للشرك ، ليثبت ضلاله واختراعه وجهله بما كتبه العلماء مما سبق نقله .
يقول في مفاهيمه التي يجب ان تصحح ص 187 تحت عنوان : الخلاصة
" والحاصل انه لا يكفر المثتغيث الا اذا اعتقد الخلق والايجاد لغير الله
تعالى " انتهى .
الله اكبر . والكلام هنا عن الاستغاثة
بكل صورها ( النداء العادي ، والدعاء الشرعي الذي هو عبادة ) .
ونحن نتمنى ان ينعق ناعق ويقول : الاستغاثة بالمخلوق ليست عبادة في كل صورها
.
لو قال ذلك ، سنسكت عن ابطال كلامه الآن .
لكن نقول : هل توافق على هذا الكلام :
من قدم عبادة لغير الله كالذبح والنذر
ان ذلك شرك ، ولو لم يعتقد في المعبود الخلق والإيجاد ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ام تحصر ذلك في من قدمها للأصنام ؛ لانه لا دليل على عبادتها ؟!!
ام تقيد الكلام بما لو اعتقد فيها الربوبية ؟؟؟؟؟؟؟
ام تقيد الكلام بما لو سمى فعله عبادة ، اما لو سماه توسلا ، فليس بشرك ؟!!!
ام تقيد الكلام بما لو سمى معبوده الها ، اما لو سماه وسيلة وسيدا ووليا فلا
؟؟؟؟؟؟!!
بتعبير مختصر : من أراد ان يعترض ،
فليعرف لنا الشرك تعريفا مانعا جامعا .
وهل يفرق بين الشرك في الربوبية والشرك في العبادة كما سبق عن الرازي
والقرطبي والمقريزي وابو البقاء الكفوي ؟؟؟؟؟
لعلي انقل لكم كلام القبورية في تعريف الشرك ، التعريف الذي لا تجده الا في
كتب القوم . والله المستعان .
ويقول علوي المالكي عن الشرك ، ص 90
" والأمر الجامع في ذلك ان من أشرك مع
الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير فهو مشرك ، سواء كان الملحوظ معه
جمادا او آدميا او غيره " انتهى
هذا هو الامر الجامع !!!! فأين شرك العبادة ؟؟؟؟؟
تأمل ما سبق عن الرازي والمقريزي وابي البقاء الكفوي من التفريق بين شرك
التأثير وشرك التقريب ، بين شرك العبادة وشرك الربوبية .
ان من اعتقد التأثير والاختراع الذاتي في غير الله فهو مشرك ، سواء عبده ام
لا .
فآل الامر الى ان مجرد عبادة غير الله ليست شركا .. هل تفهم هذا الكلام ؟؟؟؟
وعليه نحتاج ان نقيد النصوص بذلك الوهم ، فيقال : ومن يدع مع الله الها آخر
معتقدا فيه التأثير والنفع والضر . ونقيد الاجماع : من سجد للشمس والقمر
والنار معتقدا فيها النفع والضر الاستقلالي فهو كافر .
فأي استدراك على القرآن والشريعة فوق هذا .
واقرأ وتدبر : قال ابن حجر المكي في الاعلام بقواطع الاسلام : ص 20
" وفي المواقف وشرحها : من صدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع
ذلك سجد للشمس كان غير مؤمن بالاجماع .... لان عدم السجود لغير الله داخل في
حقيقة الايمان ، حتى لو علم انه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد
الالهية ، بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق : لم يحكم بكفره فيما بينه وبين
الله ، وان اجري عليه حكم الكافر في الظاهر . انتهى " انتهى .
قلت : فمن دعا الشمس واستغاث بها ، فهل يقال : ليس بشرك مالم يعتقد فيها
التأثير والنفع والضر الاستقلالي ؟؟؟؟ مالكم كيف تحكمون .
ويقول المالكي ص 94
" والثاني افراد الربوبية واعتقاد ان
الله تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وافعاله عن جميع خلقه ، فمن اعتقد في
مخلوق مشاركة الباري سبحانه وتعالى في شيء من ذلك فقد اشرك ، كالمشركين الذين
كانوا يعتقدون الوهية للأصنام واستحقاقها للعبادة " انتهى . والامر الاول هو
وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم .
سؤال حتى نفهم حقيقة الشرك :
ما حكم من سجد وركع ودعا الصنم ، ولم يسم فعله عبادة ، ولا سمى الصنم الها ،
ولم يعتقد فيه نفعا ولا ضرا ، وانما اراد تقريبا وشفاعة ؟؟؟؟
هل تعقلون هذا الكلام ؟؟؟
أليس عبادة غير الله مطلقا بلا قيد ولا شرط من الشرك ؟؟؟
انني اطرح هذه المقدمات واراها بدهية ، لنصل الى مسألة الاستغاثة .
ويبدو ان الامر ليس كذلك ، واننا بحاجة الى شرح التوحيد والشرك ، قبل النقاش
في الدعاء والاستغاثة .
وهاهم يخالفون ، وقبل قليل كانوا : يقولون لم هذا التطويل واللف والدوران
.....
اللهم من جادل بالباطل ورد الحق الظاهر ، وكابر . اللهم فانتقم منه شر انتقام
، واخذله وحزبه ، ورد كيده في نحره .
شرك المحبة:
سبق كلام أهل العلم عن الشرك وأنواعه
، وان الغالب على أهل الإشراك : الشرك في الالهية والعبادة ، كما قال
المقريزي ، ( وهو شرك عباد الاصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد المشايخ
والصالحين الاحياء والاموات الذين قالوا " ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله
زلفى " ….. الخ ما سبق نقله .
قال المقريزي : في تجريد التوحيد ص 10
" واصله الشرك في محبة الله تعالى ،
قال تعالى " يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حبا لله " فأخبر سبحانه
وتعالى أنه من أحب مع الله شيئا غيره كما يحبه ، فقد اتخذ ندا من دونه ، وهذا
على اصح القولين في الآية : انهم يحبونهم كما يحبون الله ، وهذا هو العدل
المذكور في قوله تعالى ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون )
والمعنى على اصح القولين : أنهم يعدلون به غيره في العبادة ، فيسوون بينه
وبين غيره في الحب والعبادة ،
وكذلك قول المشركين في النار لاصنامهم ( تالله ان كنا لفي ضلال مبين إذ
نسويكم برب العالمين ) ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في
كونه ربهم وخالقهم ، فإنهم كانوا كما أخبر الله وحده وانه رب السموات السبع
ورب العرش العظيم – كذا ، وفي العبارة سقط – وانه سبحانه وتعالى هو الذي بيده
ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه .
وانما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة . فمن أحب
غير الله تعالى وخافه ورجاه وذل له كما يحب الله تعالى ويخافه ويرجوه ، فهذا
هو الشرك الذي لا يغفره الله …. " انتهى .
قلت : فليتأمل من يحصر الشرك في اعتقاد النفع والضر استقلالا !!! ليعلم كم هو
بحاجة الى تعلم التوحيد ، ومعرفة الشرك !
ولا شك عندي ان المحبة لا تكون الا بعد رجاء النفع ، لكن من أين لكم انهم
اعتقدوا نفعا ذاتيا ، فإثبات ذلك دونه خرق القتاد ! فلنتذكر قولهم ( تملكه
وما ملك !! ) .
ثانيا : قال الرازي :
في تفسير قوله تعالى " ومن الناس من
يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " الاية ، البقرة 165 ( 4 /
204-205 )
" فإن قيل : العاقل يستحيل ان يكون حبه للأوثان كحبه لله ، وذلك لانه بضرورة
العقل يعلم ان هذه الاوثان أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تعقل
،
وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعا مدبرا حكيما ، ولهذا قال تعالى ( ولئن
سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله ) ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل ان
يكون حبهم لتلك الاوثان كحبهم لله تعالى ؟
وأيضا : فإن الله تعالى حكى عنهم انهم قالوا ( ما نعبدهم الا ليقربونا الى
الله زلفى ) وإذا كان كذلك ، كان المقصود الاصلي طلب مرضاة الله تعالى ، فكيف
يعقل الاستواء في الحب مع هذا القول ؟
قلنا : قوله ( يحبونهم كحب الله ) أي في الطاعة لها ، والتعظيم لها ،
فالاستواء على هذا القول في المحبة ، لا ينافي ما ذكرتموه " انتهى .
ولا شك ان هذا النوع مندرج تحت الشرك في العبادة ، لكن افرده العلماء بالذكر
لنص القرآن الكريم عليه .
شرك الطاعة :
والتدبر في هذا النوع وما ورد فيه من
النصوص ، يعطي تصورا جديدا لمفهوم ( الشرك – العبادة – معنى الرب والأرباب )
فانتبه !
قال الله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق ، وان
الشياطين ليوحون الى اوليائهم ليجادلوكم وان اطعتموهم انكم لمشركون ) الانعام
121
قال الطبري :
"حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلا
تَأْكُلُوا ممَّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنَّه لَفِسْقٌ…
الآية، يعني: عدوّ الله إبليس، أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة، فقال لهم:
خاصموا أصحاب محمد في الميتة، فقولوا: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما
قتل الله فلا تأكلون، وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله ، فأنزل الله على
نبيه: وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْركُونَ ،
وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى
ثلاث: أن يدعو مع الله إلها آخر، أو يُسجد لغير الله، أو يُسمى الذبائحَ لغير
الله .
قلت : أضف هذا لما سبق .
وقال : عن ابن عباس، قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إنْ
كُنْتُمْ بآياته مؤمِنِينَ قال: قالوا: يا محمد، أما ما قتلتم وذبحم
فتأكلونه، وأما ما قتل ربكم فتحرّمونه فأنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ وَإنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ
لَمُشْركُونَ : وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه، إنكم إذن لمشركون " انتهى
من تفسير الطبري
وقال القرطبي :
" فدلت الآية على أن من استحل شيئا
مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا; فإذا قبل
تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك
مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد; فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على
التوحيد والتصديق فهو عاص; فافهموه. وقد مضى في "المائدة". " انتهى
قلت : وهو كلام مهم في التفريق بين من اطاع في معصية اكل الميتة ، ومن قبل
التشريع والتحليل والتحريم . ( من قبل تحليلها من غيره فقد أشرك ) .
وقال ابن كثير :
" عن ابن عباس قال: لما نزلت "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه" أرسلت
فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا وقولوا له : فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال
وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام ، فنزلت هذه الآية
"وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" أي
وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش ....
وهكذا قاله مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف.
وقوله تعالى "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه
إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك كقوله تعالى "اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله" الآية. وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن
حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم فقال بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا
عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم. " انتهى
قلت : فهذا نوع من الشرك صريح بنص القرآن ، ليس فيه اعتقاد النفع والضر ، لا
استقلالا ولا اشتراكا ، فما أحوجنا الى دراسة التوحيد !!!
ثانيا : قوله تعالى ( اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الا ليعبدوا الها
واحدا سبحانه عما يشركون ) التوبة 31
فهل يظن المخالفون : انهم اعتقدوا
ربوبية الأحبار والرهبان ؟!
او انهم كانوا يسجدون لهم ويركعون ؟! ( سيأتي خلافهم في مفهوم العبادة ) .
وخير تفسي لهذه الآية ما جاء في مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن
حاتم :
قال ابن كثير :
وقوله " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير
من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه
ثم مَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعتقها فرجعت إلى أخيها
فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدم عدي
إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ،
فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنق
عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون
الله " قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا
لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما
يضرك ؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله؟ ثم دعاه إلى
الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال " إن
اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبدالله بن
عباس وغيرهما في تفسير " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " :
أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا . وقال السدي استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب
الله وراء ظهورهم ولهذا قال تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا " أي
الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به
نفذ " لا إله إلا هو ولا رب سواه. " انتهى
فالطاعة في التحليل والتحريم المخالف عبادة
واتخاذ الارباب مع الله ومن دونه ، لا يعني فقط اعتقاد انها خالقة رازقة ، بل
الطاعة المذكورة من اتخاذ الارباب .
فيا ليت شعري كيف يكتب رجل عن الاستغاثة مدعيا تصحيح المفاهيم قبل ان يعرف
انواع الشرك ؟ !
وقال الرازي : ( 26/96)
" المسألة الرابعة : قوله ( لا تعبدوا
الشيطان ) معناه لا تطيعوه ؛ بدليل ان المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب ، بل
الانقياد لأمره والطاعة له ، فالطاعة عبادة . لا يقال : فنكون نحن مأمورين
بعبادة الامراء حيث أمرنا بطاعتهم في قوله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم ) ؟ لأنا نقول : طاعتهم إذا كانت بأمر الله ، لا
تكون الا عبادة لله وطاعة له ، وكيف لا ونفس السجود والركوع لغير الله ، اذا
كان بأمر الله ، لا يكون الا عبادة لله ، الا ترى ان الملائكة سجدوا لآدم ولم
يكن ذلك الا عبادة لله ، وإنما عبادة الامراء هو طاعتهم فيما لم يأذن الله
فيه " انتهى .
[كتب هذا المقال
بتاريخ 22/6/1999 ، ونشر بالساحة الإسلامية ].
الحلقة الرابعة