اطبع هذه الصفحة


المخرج من الفتن (الجزء الخامس)

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: "تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ" ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: "فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ" [موقف المسلم من الفتن، عبد الله الجار الله]

«مما يحفظ من الفتن»

• الكف عن الخوض باللسان، والتثبت قبل نقل الأخبار، والتأكد جيدا من صحتها، ثم تقدير الأمور بقدرها الصحيح في بثها من عدمه، فقد يكون الخبر صحيحا لكن في بثه بين عوام الناس من المفاسد ما الله به عليم، من مضار لا تحمد عقبها، ويفضل ابتداء استشارة أهل الاختصاص وأهل العلم ورجاحة العقل، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83]
قال -صلى الله عليه وسلم-: (البركة مع أكابركم) [صحيح الجامع: 2884] وفي رواية ضعيفة: (الخير مع أكابركم) أي أكابركم المجربين للأمور، المحافظين على تكثير الأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أو المراد من له منصب العلم وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظاً لحرمة ما منحهم الحق سبحانه وتعالى، وقال شارح الشهاب: "هذا حث على طلب البركة في الأمور والتبحبح في الحاجات بمراجعة الأكابر لما خصوا به من سبق الوجود وتجربة الأمور وسالف عبادة المعبود" قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} وفي الحديث أيضا (كبر كبر) [متفق عليه]، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين فيقدم على من هو أسن منه.
ولهذا ثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تكونوا عُجُلًا مذاييع بُذْرًا، فإن من ورائكم بلاء مبرِّحًا"، ومعنى العُجل؛ أي: الذين يتعجَّلُون في الأمور ولا يتأنون، ومعنى المذاييع؛ أي: يذيعون الأخبار ويحرصون على إشاعتها كيفما كانت، والبُذُر؛ أي: الذين يبذرون الفتنة، وأسباب الفرقة، والشقاق بين الناس.
قال عبد الله بن عمرو: "تكون فتن تستنظِف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقْع السيف".
وقال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن الفتن: "يَهلِك فيها كلُّ شجاع بطل، وكل راكبٍ مُوضِعٍ، وكل خطيب مِصقَع".
وقال أيضا: "ما تَلاعَن قومٌ قط إلا حقَّ عليهم القول".
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من عباد الله مَن هُم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم من هو مغلاق للخير مفتاح للشر، فطوبي لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه) [ابن ماجه]
لذلك ينبغي على المرء أن يَرْبَأ بنفسه أن يُعَرِّض دِينه للخطر، وأن يُعَرِّض حسناتِهِ للذَّهَاب، بذنبٍ يحدثه في الأمة بكلمة ساقطة أو إشاعة مغرضة.

• الحذر من السير في ركاب المنكر مجاراة للكبراء الراضين به، روى الإمام مسلم عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ستكون أمراء ستعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع) قالوا: "يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟" قال: (لا ما صلوا).
أي من عرف المنكر ولم يشتبه عليه فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيره بيديه أو بلسانه فإن عجز فلينكرها بقلبه.
وقال ابن عباس: "لا تجعل نفسك فتنةً للقوم الظالمين". أي بتكثير أتباعهم، وتضليلهم بالتملق إليهم والإشادة بهم.

• ينبغي في مخاضة الفتنة ألاّ تتولى قيادة أو رئاسة أو تتصدر جماعة، فإن أسامة -رضي الله عنه- كان يقول: "ما أنا بالذي أقول لرجل -بعد أن يكون أميرا على رجلين-: أنت خير" يقول ابن حجر: "فكان أسامة يرى أنه لا يتأمّر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله: لا أقول للأمير: إنه خير الناس".
وعن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبيه، قال: كان يقال: "مَن أدركَتْه الفتنةُ فعليه فيها بذِكرٍ خَامِلٍ".



د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 

د.خالد النجار
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية