اطبع هذه الصفحة


شهوة السقوط

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم 


من أمارات خبث النفس أنها تشتهي المعصية شهوة الظمآن للماء البارد .. لا تألف الاستقامة .. الطهر حمل ثقيل عليها، والنور شيء بغيض إليها .. لا تحب الوضوح وتشتهي الجنوح .. تستثقل الرفعة وتنعم بالخلود إلى الأرض .. الإيمان غريب في أجوائها، والفطرة منكوسة في رحابها .. شقاء ما بعده شقاء، وبلاء نستعيذ بالله منه في كل تضرع ودعاء.

قال تعالى حكاية عن بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61]

طلبوا من نبيهم موسى -عليه السلام- الطعام في التيه، فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى في كل يوم بعد طلوع الفجر نازلين من السماء من غير كد ولا تعب، ولا سعي ولا بذل، يأكلونهما هنيئا مريئا .. كما طلبوا سلفا منه -عليه السلام- الماء، فأمره الله عز وجل بأن يأخذ حجرا يضرب عليه بعصاه، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا. وشكوا إليه حر الشمس، فظلل الله عليهما الغمام.
فما شكروا بل جحدوا، وقالوا {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} قال الحسن البصري -رحمه الله-: "كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس، فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم".
وليس الخطأ في الملل من نوع من الطعام، لكن الخلل في عدم الاستجابة وعدم الصبر، فلقد طُلبَ منهم دخول بيت المقدس فرفضوا الدخول جبنا وخورا، وطلبوا من موسى وربه أن يقاتلا بدلا عنهما. بينما في مسألة الطعام لم يكلفوا أنفسهم البذل والعمل بل أرادوه سهلا.
وقال بعض أهل العلم: "ولعل طلبهم هذا لقصد إحناق موسى وتأييسه حتى يرجع بهم إلى مصر التي ألفوها، ولم يبتئسوا بما حصل لهم فيها من الذلة والإرهاب .. فهذا التلون منهم مع موسى –عليه السلام- دليل على أنهم يريدون إفهامه بأن لا بقاء لهم معه على هذه الحال، وأي حال أحسن من حالتهم -قبحهم الله- وهم يأكلون المن والسلوى، ويشربون من اثنتي عشرة عيناً، بدون كلفة ولا زحام من صخرة سخرها الله؟!"
لقد كانوا يُقَدِّمون اختيارهم -في كل موطن- على اختيار الله, ويُؤْثِرون شهواتهم على ما اختاره الله لهم; لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس، فلم تكن أنفسهم عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم، بالرغم من ثرواتهم المادية الجبارة، وتحكمهم اليوم في جل اقتصاد العالم.
وقولهم: {ادْعُ لَنَا رَبّك} ولم يقولوا (ادع لنا ربنا) يعبر عن سوء أدبهم مع الله وتعاظمهم على موسى، وكأن الله رب له من دونهم، أو كأنه محسنٌ إليه لا محسِنٌ إليهم، فخطيئتهم هذه مركبة من عدة أمور يسخط الله عليهم بها، لأنه يعلم خبايا نفوسهم.
يقول ابن عاشور: "الآية انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوء اختيارهم في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب، وإن كان يختار مباحا، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا (لن نصبر) فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية، وأتوا بما دل عليه (لن) في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن (لن) تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل نصبر من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد، وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين، فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام، بل قال لهم {اهبطوا مصرا} فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديبا وتوبيخا".
وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا استحوذت عليه الدنيا وصارت أكبر همه ومبلغ علمه فإنه يَمَلُّ من متعها ولو كثرت، مع ضياع رسالته التي خلق لها، حيث يفقد هدفه، ويعيش ليأكل ويستمتع، ويمل من كل المتع تدريجيا، وانظر إلى الحياة الغربية المعاصرة التي نجحت تقنيا وفشلت نفسيا في جلب السعادة لمنسوبيها، فهؤلاء الشاردين في أوروبا وأمريكا ملّوا كل شيء، لذلك تفشت فيهم انحرافاتٌ خطيرة سببها المَلَل والسَأَم، ملوا المرأة فتوجَّهوا إلى الجنس المثلي، مُدن بأكملها تجد أغلب بيوتها شاذُون .. ذكور ذُكور، وإناث إِناث، في رحلة البحث عن التجديد والهروب من الملل حتى ولو كان الجديد مستهجنا أو قذراً أو منحطا أو كان سيرا نحو الأسوأ، كانتحار الكوميديان الأمريكي (روبن ويليامز) مؤخرا وهو الذي أضحك الملايين إلا أن تعاسته قادته لأن يطفئ شمعة حياته بيده فاستخدم سكيناً لقطع شرايين رسغه، إضافة إلى حزام آخر في عنقه شنق به نفسه .. هذا شأن الإنسان عندما تستحوذ عليه الملذات، أما المؤمن الذي هدفه الله عزَّ وجل لا يمل النعم التي بين يديه لأنها وسائل وليست غايات.
قال الشوكاني: "فإن اليهود - أقماهم الله - أذل الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغرا، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رءوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بالغ في الكثرة أي مبلغ، فهو متظاهر بالفقر مترد بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله".
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175/176]

تشبيه من آتاه الله تعالى الهداية والعلم فلم ينتفع بهما‏,‏ وانسلخ منهما واتبع هواه والشيطان‏,‏ فهو يتكالب على أعراض الدنيا الفانية تكالبا يشغله عن حقيقة رسالته في هذه الحيــاة، فلا يستمع لنصح أبداً، كالكلب اللاهث لا يطيعك في ترك اللهث على حال؛ وكذلك الجاحد لا يجيبك إلى الإيمان في رفق، ولا عنف .. إنه مغلولٌ بهواه، مقيدٌ بطغواه، متمردٌ على هداه، نافرٌ من آيات الله، شديد اللهف وراء دنياه، ولهفُه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه.
والكلب يضرب به المثل في الخسة لأنه يأكل العذرة، ويرجع في قيئه، ويشم دبره، والجيفة أحب إليه من اللحم الطري، وهو في معاناة اللهاث سواء كان مرتاحا أم متعبا.
قال أبو محمد بن قتيبة: "كل شيء يلهث؛ فإنما يلهث من إعياء، أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته. وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال؛ كالكلب، إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث".

إنه الشره للسقوط، والرغبة العارمة في التردي، ومساحة سوداء في النفس البشرية إن تفشت في أرجائها واستحوذت على أركانها أردت بصاحبها وهوت بقرينها إلى دركات الشقاء والتخبط والمعاناة، والسعيد من عصمه الله، فاللهم نسألك الثبات حتى الممات.

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com


 

د.خالد النجار
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية