اطبع هذه الصفحة


من تجاوزت أعمالهم أعمارهم

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم 


من منا لا يريد أن يعيش في الدنيا أكثر من مرَّة .. لا لجمالها، ولا لنعيمها، ولا لمتعها وشهواتها، فما عند الله تعالى لعبده المؤمن من الخير أفضل له مما يطمع في تحصيل أضعاف أضعافه من الدنيا التي لا يساوي نعيمها في الآخرة مثقال حبة من خردل، حيث النعيم المقيم والخير العميم في جنات النعيم .. وإنما نريد حياة مديدة لنستكثر من الحسنات والباقيات الصالحات التي ننتفع بها يوم لقاء ربنا، ونتجاوز بها تلك العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
والمأزق الشديد أننا لن نعيش في الدنيا إلا مرَّة واحدة، وإذا ذهبت الأعمار لم تتجدد مرة أخرى، وتلك والله داهية كبرى .. فرصة واحدة يشتري فيها العبد نفسه من ربه، فينجو، وإلا فالنار وبئس القرار!
ولكن من الفطناء من يعيشون بأعمالهم الصالحة مرَّات وكرات .. يعيشون في مصرهم وغير مصرهم، ويحيون في عصرهم وفي غير عصرهم، وكلما مرَّ الزمان عليهم، طال عمرهم في الخير والثواب أكثر، وغنموا مزيدا من الأعمال المباركة التي يتعاظم ثوابها ويتبارك فضلها. (1)

الأذان ثنتي عشر سنة
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة) (2)
قال المناوي: (من أذن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة) قال الجلال البلقيني: حكمته أن العمر الأقصى مائة وعشرون سنة، والاثنتي عشر عشرها، ومن سنة اللّه أن العشر يقوم مقام الكل، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام:160] فكأنه تصدق بالدعاء إلى اللّه كل عمره، ولو عاش هذا القدر الذي هذا عشره فكيف دونه؟ وأما خبر سبع سنين، فإنها عشر العمر الغالب (وكتب له بتأذينه كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة) فترفع بها درجاته في الجنان (3)

الصلاة
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة، كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) (4) ‌
وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) (5) ‌وفي رواية: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة) (6)
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) (7) قال المناوي: ‌(إن الرجل إذا صلى مع الإمام) أي اقتدى به واستمر (حتى ينصرف) من صلاته (كتب) وفي رواية "حسب" (له قيام ليلة) قال في الفردوس: يعني التراويح. (8)‌

المحافظة على صلاة العصر
عن أبي بصرة الغفاري -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذه الصلاة -يعني العصر- عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ منكم اليوم عليها، كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد) (9) والشاهد النجم، كناية عن غروب الشمس لأن بغروبها تظهر النجوم.

صلاة الجمعة
عن أوس بن أوس -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت ولم يلغ، كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة، أجر صيامها وقيامها) (10) قال السخاوي: لا أعلم حديثاً كثير الثواب مع قلة العمل أصح من حديث من بكر وابتكر، وغسل واغتسل ودنا وأنصت كان له بكل خطوة يمشيها كفارة سنة.. الحديث، سمع ذلك شيخنا ابن حجر من شيخه المصنف العراقي وحدثنا به كذلك غير مرة (11) وقال المباركفوري: قال بعض الأئمة: لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب. (12)
واختلف أهل العلم في معنى غَسَّل على أقوال لخصها ابن الأثير في النهاية (13) بقوله:
1- ذهب كثير من الناس أن "غَسَّل" أراد به المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة، لأن ذلك يجمع غض الطرف في الطريق. ذهب إلى هذا القول وكيع، والإمام أحمد. قال ابن رجب: وهو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم: هلال بن يساف (14)، وعبد الرحمن بن الأسود، وغيرهما، روي عن عبد الرحمن بن الأسود (15) قال: "كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا وأن يغسلوا، وهو قول طائفة من الشافعية" (16). وقد أخرج البيهقي من طريق أبي عتبة ثنا بقية ثنا يزيد بن سنان عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: ( أيعجز أحدكم أن يجامع أهله في كل جمعة، فإن له أجرين اثنين أجر غسله وأجر غسل امرأته). ثم قال البيهقي رحمه الله تعالى: "ففي روايات بقية نظر، فإن صح ففيه المعنى المنقول في الخبر، وأيضاً فإنه إذا فعل ذلك كان أغض للبصر حال الرواح إلى الجمعة، ففي القديم كان النساء يحضرن الجمعة.والله أعلم"( 17)
2- وقيل: أراد غَسّل غيره واغتسل هو؛ لأنه إذا جامع زوجته أحوجها إلى الغسل. هذا قول ذكره ابن خزيمة ولم ينسبه لأحد، وكذا ابن الأثير.
3- وقيل: أراد بغَسّل غَسْلَ أعضائه للوضوء، ثم يغتسل للجمعة. ذكره ابن الأثير ولم ينسبه لأحد.
4- وقيل: هما بمعنى واحد وكرره للتأكيد. قال الخطابي هو قول الأثرم صاحب الإمام أحمد.
5- لم يذكره ابن الأثير وهو: أن (غَسَّل) معناه: غَسَلَ رأسه خاصة، لأن العرب لهم لمم وشعور، وفي غسلها مؤونة، فأفردها بالذكر، (واغتسل) يعني: سائر الجسد. وهو قول: مكحول، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وابن المبارك، وأبو عبيدة، وابن حبان، والبيهقي، والنووي. وذكر الطيبي أن الإمام أحمد رجع إلى هذا القول وترك القول الأول (18) واستدلوا بما يلي:
أ - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه.... ) الحديث (19)
ب - حديث طاووس قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم...) الحديث (20)
ت - ما جاء في بعض طرق هذا الحديث، وهي رواية عبادة بن نسي عن أوس الثقفي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من غسل رأسه واغتسل... )الحديث (21) قال البيهقي: "لأنهم كانوا يجعلون في رؤوسهم الخمطي (22) أو غيره، فكانوا أولاً يغسلون رؤوسهم ثم يغتسلون" (23)
6- لم يذكره ابن الأثير وهو: أنه غَسَل ثيابه واغتسل لجسده. وهذا قول الغزالي، والعراقي كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (24) ولعل القول الخامس هو الأكثر قوة؛ للأدلة عليه .والله أعلم .
وقد اختلف العلماء في معنى (بكر وابتكر) على أقوال:
1- بكَّر: أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه. وأما ابتكر فمعناه: أدرك أول الخطبة، وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل: إذا أكل باكورة الفواكه. وهو قول أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزمخشري (25)، وأهل اللغة (26) وذكره ابن الأثير (27) ورجحه الطيبي حيث قال: " أرى نقل أبي عبيدة أولى بالتقديم؛ لمطابقة أصول اللغة، ويشهد بصحته تنسيق الكلام، فإنه حث على التبكير، ثم على الابتكار، فإن الإنسان يعدو إلى المسجد أولاً ثم يستمع الخطبة ثانياً " (28).
وقال ابن قتيبة: وأما قوله: (بَكَّر) فإن العوام تذهب في هذا إلى أنه الغدو إلى المسجد الجامع، وليس كذلك إنما التبكير ها هنا إتيان الصلاة لأول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه، ولذلك يقال: بكروا بصلاة المغرب، أي: صلوها عند سقوط القرص، ويقال لأول شيء يأتي من الفواكه: باكورة؛ لأنه جاء في أول الوقت. وأما قوله (وابتكر) فإنه أراد أدرك الخطبة من أولها، وأولها بكورتها كما يقال ابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفاكهة وابتكر إذا نكح بكراً أو تزوج بكراً، ومن الدليل على هذا التأويل حديث... فذكر حديث أوس الثقفي انتهى. (29)
2- (بكَّر) أي: في بكرة النهار، وهي أوله. وابتكر: بالغ في التبكير - أي:جاء في أول البكرة. فهو للمبالغة والتوكيد. وهو قول الأثرم صاحب الإمام أحمد (30)، ودليله تمام الحديث: (ومشى ولم يركب) ومعناهما واحد. وجزم به ابن العربي (31)
3- (بكَّر): راح في الساعة الأولى، (وابتكر): فَعَلَ فِعْلَ المبتكرين من الصلاة والقراءة وسائر وجوه الطاعة. ذكره النووي وحكاه عن الغزالي، والقاضي أبي الطيب (32) (33)
قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا
قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]
قال مجاهد: "عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر" (34)
وقال عمرو بن قيس الملائي: "عملٌ فيها خيرٌ من عمل ألف شهر" (35)
وعن قتادة قال: "خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر (36)
قال الدكتور عبد الرحمن حبنكة: "وألف شهر تعادل ثلاثاً وثمانين سنة وثلث السنة، وهذا عمرٌ قلَّ من الناس من يبلغه، فكيف بمن يعبد الله فيه، وهو لا يعبد إلاّ مميزًا على أقل تقدير" (37)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه) (38)
قال ابن بطال: "ومعنى قوله: (إيماناً واحتساباً) يعني مُصدِّقاً بفرض صيامه، ومصدقاً بالثواب على قيامه وصيامه، ومحتسباً مريداً بذلك وجه الله، بريئاً من الرياء والسمعة، راجياً عليه ثوابه" (39)
قال النووي: "معنى إيماناً: تصديقاً بأنّه حق، مقتصد فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بالقيام: صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها" (40)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله: أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعف عني) (41)

الهوامش
[1] كيف تعيش أكثر من مرة؟/ عبد اللطيف بن هاجس الغامدي. بتصرف [2] رواه ابن ماجة (صحيح) صحيح الجامع: 6002‌ [3] فيض القدير للمناوي 2/254 [4] رواه أحمد وابن حبان والحاكم (صحيح) صحيح الجامع: 434 [5] رواه مسلم ــ كتاب المساجد رقم 1362وأحمد (صحيح) صحيح الجامع: 6341 [6] رواه أبو داود والترمذي عن عثمان (صحيح) صحيح الجامع: 6342‌ [7] رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي حسن صحيح (صحيح) صحيح الجامع: 1615 [8] فيض القدير للمناوي 1/524 [9] رواه مسلم والنسائي (صحيح) صحيح الجامع: 2266 ‌[10] رواه أحمد (صحيح) صحيح الجامع: 6405.‌ انظر أحمد في مسنده 4-9+10+104، وابن أبي شيبة 2-93، وأبو داود 345، وابن ماجه 1087، وابن حبان 2781، والطبراني في معجمه الكبير 585، والحاكم 1-282، والبيهقي 3-229، والبغوي في شرح السنة 1060 [11] فتح المغيث للسخاوي 3 – 18 [12] تحفة الأحوذي 3-5 [13] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3-367 [14] هلال بن يساف الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة، من الثالثة (التقريب 576) [15] عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه في ذلك الزمان، فعد لذلك من الصحابة. قال العجلي: من كبار التابعين (التقريب 336) [16] فتح الباري لابن رجب 8-90 [17] شعب الإيمان 6-250، وفي سنده أبو عتبة هو: أحمد بن الفرج الحجازي ضعفه محمد بن عوف الطائي قال ابن عدي لا يحتج به هو وسط وقال ابن أبي حاتم محله الصدق. (ميزان الاعتدال 1-272 ) [18] صحيح ابن حبان 7-20، والسنن الكبرى للبيهقي 3 -227، وشرح السنة للبغوي 2-570، والمجموع للنووي 4-463، وشرح الطيبي على المشكاة 4-1276 [19] صحيح ابن خزيمة 3-152 رقم 1803 بإسناد صحيح كما قال الألباني. [20] صحيح البخاري مع الفتح 2-431، رقم 884 [21] سنن أبي داود 2-247، رقم 346 [22] قال في لسان العرب 4-220: الخمط: ضرب من الأراك له حمل يؤكل ... وقال الفراء: الخمط: ثمر الأراك ... والخمط: شجر مثل السدر، وحمله كالتوت [23] السنن الكبرى 3-227 [24] نيل الأوطار (1-277) [25] الفائق في غريب الحديث 3-67 [26] القاموس المحيط 1- 452، والمصباح المنير ص 58، ولسان العرب 4-76، ومختار الصحاح ص 25، والمغرب 1-84 [27] النهاية في غريب الحديث 1-148[28] شرح الطيبي على المشكاة 4-1277[29] غريب الحديث 1- 2 [30] المغني مع الشرح الكبير 2-147، ومعالم السنن للخطابي مع مختصر المنذري 1-213 [31] عارضة الأحوذي 2-279 [32] المجموع 4-543 [33] حديث فضل التبكير إلى الجمعة رواية ودراية مجلة الجندي المسلم العدد 119[34] انظر تفسير الطبري 24/533 [35] المصدر السابق. [36] المصدر السابق [37] الصيام ورمضان في السنة والقرآن لعبد الرحمن حسن حبنكه (ص183) [38] رواه البخاري (1/28) كتاب الإيمان باب قيام ليلة القدر من الإيمان رقم (35)، ومسلم (1/235)، واللفظ له، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (759) [39] شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/59) [40] شرح صحيح مسلم للنووي (6/39) إكمال المعلم للقاضي عياض (3/112) [41] رواه الترمذي (5/534) كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسـف بن عيسى رقـم (3513). وابـن ماجـه (2/1265) كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية. وأحمد في المسند (6/171، 182، 183). والحاكم (1/530)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي.

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 

د.خالد النجار
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية