اطبع هذه الصفحة


تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم 


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْتُ [أي اختصصت] بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ [أي حسب وكفى] فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا)
[البخاري]

** قوله: (تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) أي تخاصمتا، ولا مانع من أن الله يجعل لهما تمييزا يدركان به فيتحاجان، ولا يلزم من هذا التمييز دوامه فيهما، والأظهر أن هذه المحاجة ليست للمغالبة، بل بمعنى حكاية كل منهما بما اختصت به، وفيه شائبة من معنى الشكاية لقوله للجنة: (أنت رحمتي)، وللنار: (أنت عذابي)، فأفحم كلا منهما بما اقتضته مشيئته سبحانه وتعالى.

** قوله: (أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ) أي اختصصت، بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وهما سواء من حيث اللغة فالثاني تأكيد للأول معنى، وقيل المتكبر المتعظم بما ليس فيه، والمتجبر الممنوع الذي لا يوصل إليه أو الذي لا يكترث بأمر الناس.

** قوله: (ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ): أي الساقطون من أعينهم لتواضعهم لربهم وذلتهم له .. هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس، وبالنسبة إلى ما عند الله هم عظماء رفعاء الدرجات، لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم لعظمة الله عندهم وخضوعهم له في غاية التواضع لله والذلة في عباده، فوصفهم بالضعف والسقط بهذا المعنى صحيح، وأما معنى الحصر فبالنظر إلى الأغلب فإن أكثرهم الفقراء والمساكين وأمثالهم، وأما غيرهم من أكابر الدارين فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات العلى.

** قوله: (وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) أي تجتمع وتلتقي على ما فيها.

** قوله: (أَنْتِ رَحْمَتِي) سمى الجنة رحمة، لأن بها تظهر رحمة الله تعالى على خلقه كما قال: (أرحم بك من أشاء) وإلا فرحمة الله تعالى من صفاته التي لم يزل بها موصوفا ليس لله سبحانه وتعالى صفة حادثة، ولا اسم حادث، فهو قديم بجميع أسمائه وصفاته جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

** القدم والرجلان المذكوران في هذا الحديث من صفات الله سبحانه وتعالى المنزه عن التكييف والتشبيه، وكذلك كل ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السنة كاليد والإصبع، والعين والمجيء، والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيف مشبه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

** قوله: (وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا) أي يخلق للجنة خلقا، وفي رواية مسلم من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (يبقى من الجنة ما شاء الله تعالى أن يبقى ثم ينشىء الله لها خلقا مما يشاء) وفي وراية له: (ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة)
فالمعروف في هذا الموضع أن الله تعالى ينشئ للجنة خلقا، وأما النار فيضع فيها قدمه، ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقا.
وقال النووي: هذا دليل لأهل السنة على أن الثواب ليس متوقفا على الأعمال، فإن هؤلاء يخلقون حينئذ ويعطون في الجنة وما يعطون بغير عمل، وفيه دليل أيضا على عظم سعة الجنة .. فقد جاء في الصحيح أن للواحد فيها مثل الدنيا عشرة أمثالها ثم يبقى فيها شيء لخلق ينشئهم الله تعالى لها، ويروى أن الله لما خلقها قال لها امتدي فهي تتسع دائما أسرع من النبل إذا خرج من القوس.

** وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعود المرضى من مساكين أهل المدينة ويشيع جنائزهم، وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي حاجتهما، وعلى هذا الهدي كان أصحابه من بعده والتابعون لهم بإحسان.
وروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكنيه: أبا المساكين. وفي رواية: أنه كان يطعمهم، وربما أخرج لهم عُكَّة فيها العسل فشقوها ولعقوها.
وكانت زينب بنت خزيمة أم المؤمنين تسمى «أم المساكين» لكثرة إحسانها إليهم، وقد توفيت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال ضرار بن مرة في وصف علي بن أبي طالب في أيام خلافته: كان يعظم أهل الدين، ويحب المساكين.
ومر ابنه الحسن رضي الله عنهما على مساكين يأكلون، فدعوه فأجابهم وأكل معهم، وتلا: {إنَّه لا يُحبُّ المُستكبرين} [النحل:23] ثم دعاهم إلى منزله فأطعمهم وأكرمهم.
وكان ابن عمر لا يأكل غالباً إلا مع المساكين، ويقول: لعل بعض هؤلاء أن يكون ملكاً يوم القيامة.
وجاء مسكين أعمى إلى ابن مسعود وقد ازدحم الناس عنده فناداه: يا أبا عبد الرحمن! آويت أرباب الخز واليمنية وأقصيتني لأجل أني مسكين. فقال له: أدنه. فلم يزل يدنيه حتى أجلسه بجانبه أو بقربه.
وكان مطرف بن عبد الله يلبس الثياب الحسنة ثم يأتي المساكين ويجالسهم.
وكان سفيان الثوري يعظم المساكين ويجفو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء.
وقال سليمان التيمي: كنا إذا طلبنا علية أصحابنا وجدناهم عند الفقراء والمساكين.
وقال الفضيل: من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين.
ومن فضائل المساكين أنهم أكثر أهل الجنة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين). وقال: (تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين) وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: عن أهل الجنة، فقال: (كل ضعيف متضعف). [أي متواضع متذلل خامل]
وهم أول الناس دخولاً كما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين عاماً. وفي رواية: "أنهم يدخلون الجنة بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة".
وهم أول الناس إجازة على الصراط كما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل: من أول الناس إجازة على الصراط؟ فقال: (فقراء المهاجرين).
وهم أول الناس وروداً الحوض كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (أول الناس وروداً عليه: فقراء المهاجرين، الدنس الثياب والشعث رؤوساً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد).
وهم أتباع الرسل كما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام أن قومه عيروه باتباع الضعفاء له فقالوا: {أنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأرْذَلون} [الشعراء: 111]، وكذلك قال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: وهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاءهم. قال هرقل: هم أتباع الرسل.
وهم أفضل من الأغنياء عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين مر به الغني والمسكين في المسجد: "هذا يعني: المسكين خير من ملء الأرض من مثل هذا يعني: الغني ". وقد خرجه البخاري وغيره.
ومنهم من لو أقسم على الله لأبره كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في أهل الجنة: (كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره). وفي رواية: (أشعث ذو طِمْرَيْن) [أي ثوبين خلقين]، وفي رواية خرجها ابن ماجة: (أنهم ملوك الجنة)، وفي الحديث المشهور: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) خرجه الحاكم وغيره
قال ابن مسعود: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، مصابيح الظلام، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض.

** واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل، لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله عز وجل، لأن نفعهم لا يرجى غالباً. فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فما أحسن إليهم حباً لهم بل حباً لأهل الدنيا، وطلباً لمدحهم له بحب المساكين.
ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبه بهم، حتى إن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف.
ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جداً، فإن مجالسة الذكر والعلم يقع فيها كثيراً مجالسة المساكين، فإنهم أكثر هذه المجالس، فيمتنع المتكبر من هذه المجالس بتكبره، وربما كان المسموع منه الذكر والعلم من جملة المساكين، فيأنف أهل الكبر من التردد إلى مجلسه كذلك يفوتهم خير كثير.
وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا: {لولا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم} [الزخرف:31] يشيرون إلى عظماء مكة والطائف كعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ونحوهما من صناديد قريش وثقيف ذوي الأموال والشرف فيهم ممن كان أكثر مالاً من محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعظم رياسة عندهم، ورد عليهم سبحانه بأنه يقسم رحمته كما يشاء، وأنه كما رفع درجات بعضهم على بعض في الدنيا فكذلك يرفعها في الآخرة، وأن رحمته بالنبوة والعلم والإيمان خير مما يجمعونه من الأموال التي تفنى، فهو يخص بهذه الرحمة الدينية من يشاء ويرفعه على أهل النعم الدنيوية، وقد خص محمداً -صلى الله عليه وسلم- بما لم يشركه غيره من هذه النعم كما قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتابَ والحكمةَ وعلَّمكَ ما لم تكنْ تعلمُ وكانَ فضلُ الله عليك عظيماً} [النساء:113].
وقد كان علي بن الحسين يجلس في مجلس زيد بن أسلم فيعاتب على ذلك فيقول: إنما يجلس المرء حيث يكون له فيه نفع.
يشير إلى أنه ينتفع بسماع ما لم يسمعه من العلم والحكمة، وزيد بن أسلم أبوه مولى لعمر، وعلي بن الحسين سيد بني هاشم وشريفهم.
 

جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 

د.خالد النجار
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية