اطبع هذه الصفحة


الدرة من حديث لقيط بن صبرة

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم 


عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ وَافِدَ بَنِي الْمُنْتَفِقِ أَوْ فِي وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُصَادِفْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَصَادَفْنَا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَأَمَرَتْ لَنَا بِخَزِيرَةٍ فَصُنِعَتْ لَنَا قَالَ وَأُتِينَا بِقِنَاعٍ وَالْقِنَاعُ الطَّبَقُ فِيهِ تَمْرٌ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هَلْ أَصَبْتُمْ شَيْئًا أَوْ أُمِرَ لَكُمْ بِشَيْءٍ؟) قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذْ دَفَعَ الرَّاعِي غَنَمَهُ إِلَى الْمُرَاحِ وَمَعَهُ سَخْلَةٌ تَيْعَرُ. فَقَالَ: (مَا وَلَّدْتَ يَا فُلَانُ؟) قَالَ: بَهْمَةً. قَالَ: (فَاذْبَحْ لَنَا مَكَانَهَا شَاةً) ثُمَّ قَالَ: (لَا تَحْسِبَنَّ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّا مِنْ أَجْلِكَ ذَبَحْنَاهَا، لَنَا غَنَمٌ مِائَةٌ لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ، فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً ذَبَحْنَا مَكَانَهَا شَاةً) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ فِي لِسَانِهَا شَيْئًا يَعْنِي الْبَذَاءَ قَالَ: (فَطَلِّقْهَا إِذًا) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَهَا صُحْبَةً وَلِي مِنْهَا وَلَدٌ. قَالَ: (فَمُرْهَا يَقُولُ عِظْهَا فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلْ وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ؟ قَالَ: (أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا). [سنن أبي داود:123]

هذا الحديث من المواقف العملية التي تفيض بتعاليم سلوكية ودرر نبوية، وقد روي في صورة حكاية تستسيغها الأسماع وتستطيبها الأفهام، وفيه فوائد شتى وقيم عليا، سواء من ضوابط الحوار وأصول المعتقد، ومن جهة العلاقات الاجتماعية والأسرية، فضلا عن النواحي الفقهية التعبدية.

قوله: " كُنْتُ وَافِدَ بَنِي الْمُنْتَفِقِ أَوْ فِي وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

الوافد واحد الوفد، والوفْد: القوم الذين يأتون الملوك ركباناً، وقيل: هم القوم يجتمعون ويردُون البلاد، والذين يقصدون الأمراء للزيارة أو الاسترفاد [الإعانة والصلة]. وبني المنتفق اسم قبيلة راوي الحديث الصحابي الجليل لقيط بن صبرة رضي الله عنه.

"فَلَمْ نُصَادِفْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَصَادَفْنَا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ"

وهذا دليل واضح أنه يجوز استعمال لفظ «الصدفة، والمصادفة»؛ عكس بعض الناس الذين قد يشكون في جوازه؛ لأنهم يعتقدون أن استعمال مثل هذا اللفظ ينافي الإيمان بالقدر، والواقع أن المؤمن يعرف أن كل شيء بقضاء وقدر، لكن إذا كان الشيء غير مرتب فقد يعبر عنه بالصدفة، وقد تستعمل لفظ الصدفة والمصادفة في اللقاء.
لم نصادفه يعني: لم نلقه أو لم نقابله؛ لأنهم جاءوا -والله أعلم- على غير ميعاد.
إذا المقصود بقولنا «صدفة» أي بالنسبة لي ولك، وأما بالنسبة لله عز وجل فلا يقال هذا، فالله تعالى علم الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ، فمن قال عمدا -بالنسبة لله-: إنه فعل هذا صدفة فقد أخطأ وأجرم؛ لأنه نسب الله للجهل وأنكر القدر، لكن قوله: لقيت فلاناً صدفة يعني بالنسبة لي أنا وهو، فهي صدفة، يعني: من غير ميعاد، ولهذا قال –رضي الله عنه-: فلم نصادفه، وصادفنا عائشة.

"فَأَمَرَتْ لَنَا بِخَزِيرَةٍ فَصُنِعَتْ لَنَا قَالَ وَأُتِينَا بِقِنَاعٍ وَالْقِنَاعُ الطَّبَقُ فِيهِ تَمْرٌ"

الخزيرة ما اتخذ من دقيق ولحم، يقطع اللحم صغاراً، ويصب عليه الماء، فإذا نضج ذُر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة، والحريرة: حساء من دقيق ودسم.
وفيه أن الضيف إذا حضر ورب الدار ليس موجوداً، فإن من في البيت من زوجة وخادم يقوم بواجب الضيافة؛ ولهذا قدمت عائشة رضي الله عنها لهم واجب الضيافة من خزيرة وتمر، قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من كرمها ونبل أخلاقها رضي الله عنها.

ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هَلْ أَصَبْتُمْ شَيْئًا أَوْ أُمِرَ لَكُمْ بِشَيْءٍ؟) قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذْ دَفَعَ الرَّاعِي غَنَمَهُ إِلَى الْمُرَاحِ وَمَعَهُ سَخْلَةٌ تَيْعَرُ. فَقَالَ: (مَا وَلَّدْتَ يَا فُلَانُ؟) قَالَ: بَهْمَةً. قَالَ: (فَاذْبَحْ لَنَا مَكَانَهَا شَاةً) ثُمَّ قَالَ: (لَا تَحْسِبَنَّ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّا مِنْ أَجْلِكَ ذَبَحْنَاهَا لَنَا غَنَمٌ مِائَةٌ لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً ذَبَحْنَا مَكَانَهَا شَاةً)

الْمُرَاحِ: الموضع الذي تروح إليه الماشية، أي: تأوي إليه ليلاً، والسَخْلَةٌ: ولد الغنم ساعة وضعه من الضأن والمعز جميعاً، ذكراً كان أو أنثى. وقوله: "تَيْعَرُ" صوت الشاة. والبَهْمَةً: صغار الغنم.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها) .. فيه ترك الاعتداد به على الضيف، والتبرؤ من الرياء والإعجاب. وبرر -صلى الله عليه وسلم- فعله بقوله: (أن تزيد على المائة) فتكثر لأن هذا القدر كاف لإنجاح حاجتي.
والمقصود فيه عدم الإدلال عليه بأننا ذبحنا هذه الذبيحة من أجلك، خلافاً لما قد يفعله بعض الناس من إظهار الإكرام للضيف بأشياء قد لا تكون حقيقية، وقد تكون حقيقية، ولكن ليس للضيف فائدة منها، فإذا أكرم الإنسان ضيفه بما يجب له وما يستحق وما يطيب خاطره، فلا يلزم أن يشعره بأنه ذبح من أجله.
وفيه: عدم التكلف للضيف؛ حتى لا يكون ذلك سبباً في نفرة الضيف، ولهذا فإنهم قدموا لهم ما تيسر وذبحوا لهم، وقال لهم: لا تحسبن أنا ذبحناها من أجلكم، بل عندما مائة لا نحب أن تزيد، فإذا ولد الراعي واحدة ذبحنا مكانها فلا نتكلف، فإذا لم يتكلف للضيف صار هذا سبباً في مجيء الضيوف، وأما إذا تكلف صار هذا سبباً في بعد الضيوف وعدم مجيئهم؛ خوفاً من التكلف.
قوله: (لا تحسبن) بكسر السين كأنها لغة، قال النووي في شرحه: مراد الراوي أنه صلى الله عليه وسلم نطق هاهنا مكسورة السين ولم ينطق بها بفتحها، فلا يظن الظان أني رويتها بالمعنى على اللغة الأخرى، أو شككت فيها، أو غلطت أو نحو ذلك، بل أنا متيقن بنطقه صلى الله عليه وسلم بالكسر وعدم نطقه بالفتح.
وهي بالكسر لغة من اللغات، وقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما تكلم ببعض لغات أهل اليمن فقال: (ليس من أمبر امصيام في امسفر) أي: ليس من البر الصيام في السفر.
قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص»: "هذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميما، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بها هذا الأشعري (يعني: كعب بن عاصم) كذلك لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته، فحملها الراوي عنه، وأداها باللفظ الذي سمعها به. وهذا الثاني أوجه عندي. والله أعلم".
قال بعض أهل العلم: وهذه الظاهرة تسمَّى في علم اللغة الطمطمانيَّة، ومن بقايا هذه اللهجة قولنا: امبارح ، بدلاً من البارحة.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ فِي لِسَانِهَا شَيْئًا يَعْنِي الْبَذَاءَ قَالَ: (فَطَلِّقْهَا إِذًا) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَهَا صُحْبَةً وَلِي مِنْهَا وَلَدٌ. قَالَ: (فَمُرْهَا يَقُولُ عِظْهَا فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلْ وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ)

وهنا ينظر في المصلحة، فإن كانت الزوجة بذيئة اللسان وليس له منها ولد ورأى المصلحة في تطليقها طلقها، وإن كان له ولد فإنه ينظر ويتأمل ويعظها ولا يعجل.
قوله: (ولا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ) الظعينة: المرأة، سميت بذلك لأنها تظعن مع الزوج، وتنتقل بانتقاله .. وأصل الظعينة المرأة تكون في الهودج على البعير، وكان يطلق على الهودج اسم ظعينة، ثم أطلق على المرأة. والأمية: تصغير أمة، صغرها لتحقير قدرها بالنسبة إلى الحرة.
والمراد بالأمة والخادمة في الحديث: التي تباع وتشترى، إذ كان هذا هو المعروف عندهم، فالخدم سابقاً كانوا يؤخذون من أرض الجهاد، كان المسلمون يقاتلون الأعداء ويجاهدون ويسترقون، فيصير هناك رق بسبب الجهاد، وأما الخادمة في زمننا فهي مستأجرة وليست خادمة، ويقال لها: خادم، وخادم أفصح من خادمة، يقال للذكر والأنثى، وكذلك الزوج أفصح من الزوجة.
إذا الأمة قد تضرب وتؤدب، وأما الزوجة فلا، لأن الضرب قد يؤذيها، وقد يسيء العشرة، والواجب أن يعمل مع المرأة كما قال الله عز وجل، فأولاً: يعظها إذا خاف النشوز، ثم يهجرها في المضجع، ثم يضربها ضرباً غير مبرح، فآخر الطب الكي، والضرب آخر شيء.
قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، ولكن الضرب يكون ضرب تأديب، فلا يكسر عظماً، ولا يجرح جسداً، بل يكون كضرب الصبي الصغير الذي لم يبلغ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) أي: ضرب تأديب.
عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ) فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ). [رواه أبو داود]
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم: (أكمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخِيارُكم خِيارُكم لنِسائهم خُلُقًا) [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أنَّ كمال الإيمان يُوجِبُ حُسن الخلق والإحسان إلى الناس، وخاصَّة حُسن المعاشرة مع النِّساء؛ لأنهنَّ محلُّ الرحمة لضعفهنَّ وحاجتهن إلى العَطف وحُسن الرِّعاية.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إني أُحَرِّج عليكم حقَّ الضعيفين: اليتيم، والمرأة) [صحيح: أخرَجه النسائي] .. أي ألحق الحرج وهو الإثم بمن ضيعهما فأحذره من ذلك تحذيراً بليغاً وأزجره زجراً أكيداً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "شِدَّة الوَطأة على النِّساء مذموم؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم، وترك سيرةَ قومه". [فتح الباري:9/202]

فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ؟ قَالَ: (أَسْبِغْ الْوُضُوءَ)

(أسبغ الوضوء) أي: أكمله وتممه، وهذا من أصرح الأدلة على وجوب إسباغ الوضوء؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والمقصود بالإسباغ: تبليغ الماء إلى المحل المطلوب، يعني: أن يغسل الإنسان وجهه كله، وذراعه ويده كلها، ويمسح برأسه كله، ويغسل رجليه كلتيهما مستوعباً المحل المفروض، فهذا هو الإسباغ، وهو واجب بلا شك، ولعل هذا يصلح أن يكون دليلاً لوجوب استيعاب مسح الرأس كله.
وهل هذا الأمر بالإسباغ يقتضي الوجوب أو يقتضي الاستحباب؟
فنقول: إن الإسباغ لفظ مشترك، فإن كان الإسباغ لأعضاء الوضوء بحيث يعممها، فهذا إسباغ واجب .
فإن كان من النوع الثاني: وهو «تثليث الأعضاء» فيكون الإسباغ مستحباً.
فإن كان وهو النوع الثالث: إذا كان التثليث واقعا وحصل معه الدلك للأعضاء، فإنه يكون فاضلاً.
فتحصل من هذا: أن الإسباغ ثلاثة أنواع، إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون مستحباً، وإما أن يكون فاضلاً .. ومن ثم فإن الأمر يكون واجبا في النوع الأول، ويكون مستحبا ومسنونا في النوعين الأخريين.
ومن الفوائد بيان فضيلة الإسباغ، ولاسيما إذا حصل حرج ومشقة على المسلم، ولذلك بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن مما يرفع الله عز وجل به درجات العبد، إسباغ الوضوء على المكاره، ففي الحديث (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) [مسلم والترمذي]

وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ

التخليل: إدخال الشيء في خلال الشيء، ويتناول تخليل أصابع اليدين والرجلين. وفيه: مشروعية التخليل بين الأصابع؛ لأنه قد ينبو عنه الماء.
والأمر بالتخليل هنا هل يقتضي الوجوب أم يقتضي الاستحباب؟
الجواب عن هذا: أنه يقتضي الاستحباب.
وما الذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؟
الذي صرفه: أن الماء سيَّال بطبعه فيصل إلى هذه المواطن الخفية، فكان التخليل من باب الاستيثاق والاطمئنان.
لو قال قائل: هو أمر بتخليل الأصابع، أي أصابع؟ هي أصابع اليدين وأصابع الرجلين، لما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في مسند الإمام أحمد، وحسنه البخاري رحمه الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك).
لو قال قائل: بأي يدٍّ يكون هذا التخليل باليسرى أم باليمنى؟
قيل باليسرى قياساً على الاستنجاء، لأن هذا إزالة أذى، وهذا من باب القياس، وإلا فلا دليل ينص على تحديد اليسار .
فإذا قال قائل: خللت الأصابع بيدي اليسرى فبأي أصبع يكون التخليل؟
يكون بالخنصر، والخنصر هو: الأصبع الصغير في أول اليد. لما ورد في حديث المستورد في سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابع قدمه بخنصره.

(وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)

والمبالغة فيه: أن يجذب الماء بنَفَسِه إلى أقصى أنفه، وذلك لزيل ما يعلق في أنفه من الأذى، وقيل: أن يتمخط في كل مرة، وقيل: يدخل إصبعه في أنفه، وإنما استثنى حالة الصوم؛ لأنه يخاف عليه دخول الماء من خيشومه إلى حلقه، فيفسد صومه.
وفيه دليل على مشروعية الاستنشاق، وأن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق.
فهل هذا الأمر بالاستنشاق للوجوب أم للاستحباب؟
ظاهر قوله (وبالغ) أنه للوجوب. ولكن هذا الظاهر معدول عنه، فتكون المبالغة في الاستنشاق مستحبة.
ما الذي صرفها عن هذا الوجوب؟
الذي صرفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الصائم، ولو كانت المبالغة واجبة لأمر الصائم بها، وقيل له تحرز من أن يدخل جوفك شيء من الماء، فلما نهي الصائم عنها، دل على أن المبالغة في الاستنشاق ليست واجبة.
والمبالغة في الاستنشاق من باب المبالغة في التطهر، فيكون المسلم حال لقائه بربه عز وجل في هذه الصلاة، يكون على أحسن حال .
وهذا يدل على عظم هذه الشريعة وأنها أمرت المسلم بأن يكون على أحسن حال في ظاهره وفي باطنه، كما أنه مأمور من قِبل الشرع أن يكون نظيف الباطن، كذلك هو مأمور بأن يكون نظيف الظاهر، والنصوص في الحث على الاعتناء بالمظهر كثيرة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- يكره أن توجد منه الريح الخبيثة. وكان يعرف بطيب العود إذا أقبل.
لو قال قائل: المبالغة في المضمضة مستحبة أم لا؟
الجواب عن هذا: أن كثيرا من العلماء يرون أنها مستحبة، قياسا على الاستنشاق، وهذا القياس في محله، وفي حديث ذكره ابن حجر رحمه الله في تلخيص الحبير وقال: "صححه ابن القطان" قال: (وبالغ في الاستنشاق والمضمضة) فجاء ذكر المضمضة.
والمبالغة في المضمضة: أن يدير الماء في فمه، فيحرك الماء تحريكا كثيرا في فمه حتى يزيل ما يعلق بأسنانه.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأت فمضمض) فيه دليل لمن قال بوجوب المضمضة في الوضوء، لأن المسألة فيها خلاف، لكن الأمر هنا: (إذا توضأت فمضمض) يدل على أن المضمضة واجبة في الوضوء، بخلاف ما ذهب إليه بعض العلماء من أنها مستحبة، لم؟
لأن الأعرابي لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الوضوء؟ قال: (توضأ كما أمرك الله). والذي أمر الله عز وجل به في سورة المائدة ما ذكر فيه المضمضة والاستنشاق .
فيقال: إن المضمضة والاستنشاق داخلتان ضمن الوجه، لأن الفم والأنف من الوجه.
ومما يدل على أنهما من الوجه الظاهر: أنه لو استنشق أو تمضمض ما فسد صومه، فلا يمكن أن نخرج الفم والأنف، فماذا نقول في الأنف والفم أهما من الداخل أم من الظاهر؟
إن قلنا من الداخل يرد هذا أن الصائم لا يفسد صومه بالمضمضة ولا بالاستنشاق.
إذاً لزمنا أن نقول: هي من الظاهر فيجب في مثل هذا الأمر المضمضة والاستنشاق، ودليل الوجوب هذا الحديث في المضمضة.
ودليل الوجوب في الاستنشاق: قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً). ويؤكد هذا: أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك المضمضة والاستنشاق مطلقا.
ومن الفوائد: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالمضمضة، فدل على أن هذا الواجب يصدق بأقل ما يكون من وصف المضمضة.
والواجب في المضمضة: أن يدير الماء في فمه أدنى إدارة، لو حرك الماء في فمه حركة يسيرة اكتفي بذلك، هذا إذا كان الماء قليلا.
إما إذا كان الماء كثيرا: فإن الإدارة لا معنى لها، لأن الفم إذا امتلأ بالماء كأنه أدار الماء في فمه.
"وفي الحديث دليل على أن الأنف منفذ بخلاف العين والأذن، فإذا قطر الصائم في العين أو الأذن فلا يفطر على الصحيح كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ولو وجد طعماً في حلقه؛ لأن العين والأذن ليستا منفذين، لكن إذا قضى من باب الاحتياط وخروجاً من الخلاف فحسن، وأما الأنف فإنه منفذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فدل على أن الأنف منفذ مثل الفم، فإذا استعط -أي: جعل السعوط في أنفه- ووصل إلى حلقه فإنه يفطر؛ لأن الأنف منفذ".

من المصادر

- شرح كتاب (بلوغ المرام)، (باب الوضوء) فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
- شرح سنن أبي داود للراجحي
 

جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية