اطبع هذه الصفحة


سورة عبس

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

سورة عبس
** مكية، وهي أولى السور من أواسط المفصل
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]
** سبب نزول هذه السورة باتفاق المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولا بدعوة صناديد قريش، فأتاه ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى وقال: "أقرئني يا رسول الله، وعلمني مما علمك الله" وكرر ذلك، فلم يتفق ذلك وما هو مشتغل به -صلى الله عليه وسلم- وما يرجوه مما هو أعظم، فعبس وتولى عنه منصرفا لما هو مشتغل به.
** وهذا العتاب دليل صدق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إذ لو كان القرآن من عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما عاتب نفسه، فالنفس دوما تحب الكمالات .. قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى له في عبس وتولى".
وهذا كقولة تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]
** {عَبَسَ} تقطيب الوجه وإظهار الضجر {وَتَوَلَّى} أعرض .. ثم لم يقل «عبست وتوليت» تلطفا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العتاب، حيث خاطبه في أسلوب شخص غائب حتى لا يواجهه بالخطاب فيؤلمه فتلطف معه، لأنَّ «مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب»، ثم أقبل عليه بعد أن أزال الوحشة يخاطبه وما يدريك.
ونظير هذا قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]. قال عون بن عبد الله: أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى يسكن قلبه.

{أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} [عبس:2]

** أي عبس وتولى لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإِسلام
** {الْأَعْمَى} فيه إشعار بما يناسب من الرفق به والصغو لما يقصده، وقيل: ترقيقا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليكون العتاب ملحوظا فيه أنه لما كان صاحب ضِرارة فهو أجدر بالعناية به، لأن مثله يكون سريعا إلى انكسار خاطره.
** والعمى يكون لجارحة البصر، وهو غير عمى البصيرة، قال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [الرعد:19]
وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]
** الأعمى إشعار بعذره في الإلحاح عليه، وهذا ليس من باب {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} فالشخص الذي يعلم اسم له لا يتضايق منه جاز النداء به، كذو اليدين، والأعمش ميمون بن مهران، والقرافي وكان سكنه أمام المقابر، وابن دقيق العيد لأنه كان أبيض، فلفل، لهلوبة ....
** من مناقب سيدنا عبد الله بن أم مكتوم الصحابي
- هو عبد الله بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهري، من بني عامر بن لؤي من قريش، وأمه عاتكة، قريشية من بني مخزوم، وكنيتها «أم مكتوم» لأن ابنها عبد الله ولد أعمى، والأعمى يكنى عنه بمكتوم. ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتا من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أجل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي.
** وهو ابن خال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وأحد المهاجرين، حيث أسلم قديما وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر سنة 14هـ
- زكاه الله تعالى بقوله: {وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى}
- وكان مؤذن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رمضان، روى البخاري عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ
- جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان بعد نزولها يقول له: (مرحبا فيمن عاتبني فيه ربي) ويكرمه، وقد استخلفه على المدينة مرتين

{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:3-4]

** {لعله يزكى} يتطهر من الذنوب {أو يذكر} يتعظ {فتنفعه الذكرى} الموعظة.
** قال القرطبي: قال سفيان بن عيينة: كل ما في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره به، وكل شيء قال فيه {وَمَا يُدْرِيكَ}، لم يخبره به.
والواقع أنه الغالب، فقد جاءت {وَمَا أَدْرَاكَ} ثلاث عشرة مرة كلها أخبره بها إلا واحدة وهي في الحاقة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} وما عداها، فقد أخبره بها مثل:
في "المدثر" {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}.
وفي "الانفطار" {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً}.
وفي "المطففين" {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ}.
وفي "البلد" {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ}.
وفي "القدر" {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
وأيضا {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}، وفي هذه السورة"
ويلاحظ أنها كلها في قصار السور من "الحاقة" وما بعدها
أما: {ومَا يُدْرِيكَ} فقد جاءت ثلاث مرات فقط:
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}، في"الأحزاب" {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}، في "الشورى" {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} في "عبس وتولى" فلم يخبره فيها صراحة، إلا أنه في الثالثة قد يكون أخبره لأنه قال {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فهو وإن لم يصرح هل هو تزكى أم لا، إلا أن لعل من الله تعالى للتحقيق كما هو معلوم.

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 5-7]

** {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} من عد نفسه غنيا عن هديك بأن أعرض عن قبوله {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} بيان لموقفه -صلى الله عليه وسلم- من جميع الأمة، وحرصه على إسلام الجميع، حتى من أعرض واستغنى، شفقة بهم ورحمة، كما بين تعالى حاله -صلى الله عليه وسلم- بقوله {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} وكقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}.
** وفيه مزيد تنفير له -صلى الله عليه وسلم- عن مصاحبتهم، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام، أهل الغنى بالله .. فكيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا، والعمى عن الآخرة والعُقبى؟!
** وقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته نفسه بالإِسلام.. بيان أنه -صلى الله عليه وسلم- ليس عليه ممن لا يتزكى، وقد صرح تعالى بذلك في قوله {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} وقوله {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، وقوله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، ومثل ذلك.
وقد جمع الأمرين من الجانبين في قوله تعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.

{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 8-10]

{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى} والسعي: شدة المشي، كني به عن الحرص على اللقاء، فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء الممتعض من التصدي له {وَهُوَ يَخْشَى} الله تعالى.
** وحاصل العتاب: ترجيح الإقبال على مَن فيه القبول والأهلية للانتفاع، دون مَن ليس كذلك ممن فيه استغناء، وإن كان قصده عليه السلام صالحاً، ولكن نبَّهه اللّهُ تعالى على «طريق الأولى» في سلوك الدعوة إليه.
** فيه أيضا تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته «الموازنة بين مراتب المصالح» ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها -في بادئ الرأي- مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح ... ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.
** لماذا لم يعلم الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم؟؟.
قلنا: لأن العلم الذي يحصل عن تبين غفلة، أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش، ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين، وليحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- مزية كلا المقامين: مقام الاجتهاد، ومقام الإفادة .. ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليه السلام من المثل في ملاقاة الخضر، وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68] ثم قوله له {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]
** قال ابن عاشور: والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية، والذي روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم "مرحبا بمن عاتبني ربي لأجله" إنما هو عتاب على «العبوس والتولي»، لا على ما حف بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا، إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما: إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم. وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية.
ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة: «تقديم درء المفاسد على جلب المصالح»، ونفي «الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر»، فلم يسلك النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]

{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11-16].

{كلا} أي لا تفعل مثل هذا مرة أخرى {إِنَّهَا} أي هذه الآيات وما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب {تَذْكِرَةٌ} عظة ينتفع بها {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي:
** فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره
** أو فمَن شاء اللّهُ أن يذكره ذكره. أي: ألهمه الله الاتعاظ به
** وهذا للتهديد لا للتخيير، بدليل ما بعده {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} وهذا كقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48]
وحاصل المعنى: أنَّ هذه الآيات -أي آيات القرآن- تذكرة، فمَن شاء فليتعظ بها {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} عناية الله بها {مَرْفُوعَةٍ} أنها من العالم العلوي {مُطَهَّرَةٍ} مقدسة مباركة {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي الصحف التي بأيدي الملائكة.
{مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ، مُطَهَّرَةٍ} وهي معاني الاعتناء بها، وهذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة، كما قال تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة]

{قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]

{قُتِلَ الإنسان} دعاء عليه، والإنسان: للجنس الكافر، والقتل أعظم شدائد الدنيا {مَا أَكْفَرَهُ} أي ما أشد كفره، تعجب من إفراط كفره .. قال الزمخشري: هي تعجب من إفراطه في كفران نعم الله.
قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب، غاضب أباه فأسلم، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كافر برب النجم إذا هوى. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهم ابعث عليه كلبك يأكله) فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله. فأقبل الأسد إلى الرجال ووثب، فإذا هو فوقه فمزقه، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه، وقال: "ما قال محمد شيئاً قط إلا كان"

{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 18-22]

** رد تعالى عليه ذلك، برده إياه إلى أصل خلقته ليتعظ من نفسه في قوله تعالى {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي من نطفة إلى علقة إلى مضغة فبشر سويّ {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ} بدون استشارته ولا أخذ رأيه {فَأَقْبَرَهُ} هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته الكلاب .. لأن هذه الثلاثة مسلم بها ورتب عليها الرابعة {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}
** قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قيل السبيل إلى خروجه من بطن أمه حيث أدار رأسه إلى جهة الخروج بدلا مما كان عليه إلى أعلى وهذا من التيسير في سبيل خروجه وهذا مروي عن ابن عباس وغيره وهو اختيار ابن جرير.
وقيل {السَّبِيلَ}: أي الدين في وضوحه ويسر العمل به، كقوله تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ولعل هذا هو الأرجح لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان، وهو مشاهد ملموس، فلا مزية للإنسان فيه على غيره، كما أن ما قبله دال عليه أو على مدلوله وهو القدرة في قوله تعالى {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي قدر تخلقه وزمن وجوده وزمن خروجه وتقديرات جسمه، وقدر حياته وقدر مماته كما هو معلوم.

{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23]

{كَلَّا} أما يصحو هذا المغرور، أما يفيق هذا المخدوع {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} فما له لا يقضي ما أمره ربّه به من الطاعات والواجبات في نفسه وماله.
والقضاء: «فعل ما يجب على الإنسان كاملا» لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلا تاما، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضا عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطور أطوارا إلى الموت قال تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، وما أمره من التدبر في القرآن ودلائله، ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشرك عنه. ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر.

{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ {24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً {25} ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً {26} فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً {27} وَعِنَباً وَقَضْباً {28} وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً {29} وَحَدَائِقَ غُلْباً {30} وَفَاكِهَةً وَأَبّاً {31} مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {32}

** ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان، ذكر النعم فيما به قوام حياته، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم. وفي كليهما آية على القدرة.
** { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} القت الرطب، وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة، وهو علف البهائم {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً} أي كثيرة كثيفة {وَفَاكِهَةً} الثمار التي تؤكل للتفكه لا للاقتيات {وَأَبّاً} التبن وما ترعاه البهائم،
** وعن الصِّدِّيق -رضي الله عنه- أنه سُئل عن الأب، فقال: أيُّ سماء تُظلني، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به.
وعن عمر -رضي الله عنه- أنه قرأ هذه الآية، فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصاً كانت بيده، فقال: هذا لعَمْرُ الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أم عمر، ألاَّ تدري ما الأبُّ؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه.
** وهذه اللفظة من لغات البادية، فلذلك خفيت على الحواضر. فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها: مثل اسم «السكين» عند الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- ما كنا نقول إلا «المدية» حتى سمعت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر أن سليمان عليه السلام قال "ائيتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين".
** وإما أن كلمة «الأب» تطلق على أشياء كثيرة منها: النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين.
4/ وذكر في الكشاف وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال: إن القوم كانت أكبر همتهم على كفة العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان. وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.
** وفي التنصيص على أنواع النبات من حب وغيرها لظهور معنى المغايرة والتنوع فيها، مع أنها من أصلين مشتركين الماء من السماء والتربة في الأرض، يسقى بماء واحد.
{مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}... والمتاع: ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] يتمتع بها قليلا ثم تفنى

{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33-37]

** {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} القيامة، سميت بهذا الاسم نظرا إلى نفخة الصور التي تصخ الآذان [أي تصمها] فتصيبها بالصمم لشدتها. وهي النفخة الثانية.
** {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ ... }
1/ وكون أقرب الناس للإنسان يفر منهم، يقتضي هول ذلك اليوم، بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله، إذ قد علم أنه كان مماثلا لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس «معزة» وحرص على سلامة صاحبها وكرامته. «والإلف» يحدث في النفس حرصا على الملازمة والمقارنة، وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة، فما قولك في هول يغشى على هذين الوجدانين فلا يترك لهما مجالا في النفس.
2/ ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجا في تهويل ذلك اليوم. فابتدئ بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قربا لأبنيهما، وقدمت الأم في الذكر لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان وأشد الناس قربا به وملازمة
** ولابد أن يلحظ أن ترتيب الترقي في الآيات يراعى فيه الفرار، فإن الفرار من الأبناء في الخطوب وعظائم الأمور من أكبر العار، يليه الفرار من الزوجة، فالفرار من الأم وهي أحق الأبوين، ولكن جرت العادة أن الإنسان يستميت في الدفاع عن أهله وبنيه أكثر من الأبوين .. وأيضًا فإن الأبناء ليس لهم قريب كالوالد، ولا من هو أولى منه، بخلاف الأبوين، فإن لهم أبوين وأبناء، والترتيب هنا مخالف لما جاء في سورة المعارج، فهذا في الفرار، وذاك في الافتداء.
{يُبَصَّرُونَهُمْ [يبصر بعضهم بعضا] يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ [عشيرته] الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:11- 13]
** وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: «يوم يفر المرء من أقرب قرابته» مثلا لإحضار صورة الهول في نفس السامع.
** وإنما ذكرت الزوجة بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوجة لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة.
** وقد اجتمع في قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده، فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه، وهم يتعيرون بالجبن، وكونه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى.

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 39].

** {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} الإسفار الإضاءة، وهو تهلل الوجه بالسرور، كما قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}
** {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} الاستبشار من تقدم البشرى في قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ {40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ {41} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ {42}

** {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} غبار {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تغشاها وتعلوها ظلمة من سواد، كقوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}
** وقد جمع لهم هنا بين الكفر والفجور، وهما: الكفر في الاعتقاد، والفجور في الأعمال، كما في قوله تعالى {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}
اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً .
 

جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية