اطبع هذه الصفحة


عمرو بن العاص (الأمير المجاهد)

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم   
 

عمرو بن العاص (1)

الأمير المجاهد

 

في سفره النفيس «عمرو بن العاص الأمير المجاهد» يعيش الكاتب د. منير الغضبان في أجواء صادقة يصف خلالها سيرة هذا الطود الشامخ من صحابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكرام، ويتصدر الكتاب بتلك المقولة الواقعية التي تلخص حجم المؤامرة التاريخية على هذا الأمير المجاهد حيث يقول: ما إن تذكر عمرا حتى يتبادر إلى الناس ذلك الخادع المحتال الذي خدع أبا موسى الأشعري ونقض اتفاقه معه وأبقى بمعاوية وخلع عليا، وبذلك ينصرف عامة الناس عن ذكر عمرو بن العاص.

فهل يجوز لمثل هذه الشخصية العظيمة أن تبقى غُفلا في التاريخ لا يعرف عنها إلا المكر والخديعة؟!.

 ** قال عمر بن الخطاب عن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا".

وما قال هذا إلا أن عمرو من الوسامة والجمال والجسم الممتلئ والقامة المتسقة مثل أبيه العاص بن وائل .. قال ذاخر المعافري: قام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلا ربعة قصير القامة وافر الهامة أدعج [أسود العينين] أبلج [مضيء مشرق] عليه ثياب موشية كأن بها العقيان [الذهب الخالص] تأتلق عليه وعليه حلة وعمامة وجبة.

** قال عثمان بن عفان: "إن عمرو لمجرأ وفيه أقدام وحب للإمارة".

** قال الليث بن سعد: "قال عمرو بن العاص: ما كنت بشيء أتجر مني بالحرب".

** وقال عمرو يصف موقعه عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فوالله ما عدل بي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، وقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، لقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب".

** ويقول الصديق لعمر -رضي الله عنهما-: "دعه فإنما ولاه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علينا لعلمه بالحرب".

** قال ابن حجر في الإصابة عن يحيى بن بكير عن الليث: توفي وهو بن تسعين سنة. قلت قد عاش بعد عمر عشرين سنة. وقال العجلي: عاش تسعا وتسعين سنة، وكان عمر عُمَر ثلاثا وستين. وقد ذكروا أنه كان يقول: أذكر ليلة ولد عمر بن الخطاب أخرجه البيهقي بسند منقطع فكأن عمره لما ولد عمر سبع سنين.

** أبوه العاص بن وائل السهمي زعيم من زعماء قريش في الجاهلية، وقاد بني سهم في حرب الفجار، وكان عمر عمرو عشر سنين، أما أمه فكانت من سبايا العرب.

** وذكر أنه جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه وهو على المنبر فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة تلقب النابغة من بني عنزة أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كان جُعل لك شيء فخذه.

** إسلامه كان سنة ثمان للهجرة مع عثمان بن طلحة [هو حاجب الكعبة]، ولما رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها)

** قيل لعمرو بن العاص ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟ فقال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم وسن توازى حلومهم الجبال، ما سلكوا فجا فتبعناهم إلا وجدناه سهلا، فلما أنكروا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنكرنا معهم ولم نفكر في أمرنا وقلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا في أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتدبرنا فإذا الأمر بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك في إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم على أمرهم، فبعثوا إلي فتى منهم فقال أبا عبد الله إن قومك قد ظنوا بك الميل إلى محمد. فقلت له: يا ابن أخي إن كنت تحب أن تعلم ما عندي فموعدك الظل من حراء فالتقينا هناك فقلت إني أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: اللهم بل نحن. فقلت: أفنحن أوسع معاشا وأعظم ملكا أم فارس والروم؟ قال: بل فارس والروم. قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم فيها أكثر منا أمرا، قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث بعد الموت حق ليجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا ابن أخي الذي وقع في نفسي ولا خير في التمادي في الباطل.

لقد كان هذا الأمر بالتأكيد بعد الخندق وبعد التخلف عن الحديبية وبعد الاعتزال في أرضه ومزرعته بالوهط التي بذل جل ماله في اقتنائها وتحسينها.

** وروى البيهقي بسنده إلى زيد بن أسلم قال: قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: لقد عجبت لك في ذهنك وعقلك، كيف لم تكن من المهاجرين الأولين؟ فقال له عمرو: وما أعجبك يا عمر من رجل قلبه بيد غيره لا يستقيم -أو قال لا يستطيع- التخلص منه إلا إلى ما أراد الذي بيده. فقال عمر: صدقت

** قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو .. يكنى أبا عبد الله، أمه النابغة من بني عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كان يخضب بالسواد، خرج إلى الحبشة إلى النجاشي بعد الأحزاب فأسلم عنده بالحبشة، فأخذه أصحابه بالحبشة فغموه فأفلت منهم مجردا ليس عليه قشرة، فأظهر للنجاشي إسلامه فاسترجع من أصحابه جميع ماله ورده عليه، فقدم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة مهاجرين المدينة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتقدم خالد فبايع ثم تقدم هو فبايعه على أن يغفر له ما كان قبله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الهجرة والإسلام يجب ما قبله*.

** أخرج أحمد وغيره من حديث عمرو بن العاص يقول: فزع الناس بالمدينة مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتفرقوا، فرأيت سالماً احتبى سيفه فجلس في المسجد، فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل، فخرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرآني وسالماً وأتى الناس فقال: (أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟) وهذا إسناد صحيح... وهذه مرة يشهد له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإيمان.

** روى أحمد من حديث عَلْقَمَةَ بْنِ رِمْثَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَرِيَّةٍ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَنَعَسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ: (يَرْحَمُ اللهُ عمرًا) قَالَ: فَتَذَاكَرْنَا كُلَّ مَنِ اسْمُهُ عَمْرٌو، قَالَ: فَنَعَسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (يَرْحَمُ اللهُ عَمْرًا) قَالَ: ثُمَّ نَعَسَ الثَّالِثَةَ، فَاسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: (يَرْحَمُ اللهُ عَمْرًا) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ عَمْرٌو هَذَا؟ قَالَ: (عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) قُلْنَا: وَمَا شَأْنُهُ؟ قَالَ: (كُنْتُ إِذَا نَدَبْتُ النَّاسَ إِلَى الصَّدَقَةِ، جَاءَ فَأَجْزَلَ مِنْهَا، فَأَقُولُ: يَا عَمْرُو، أَنَّى لَكَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَصَدَقَ عَمْرٌو، إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا كَثِيرًا).

** روى أحمد عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَا أُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ) قَالَ وَزَادَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَرْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ: (نِعْمَ أَهْلُ الْبَيْتِ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ).

** وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ عَمْرٌو وَهِشَامٌ) .. وهذه مرة ثانية يشهد له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإيمان.

وهشام كان قد سبق عمرا بالإسلام، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد باليرموك، لكن عمرا -رضي الله عنه- لنفاسة معدنه لحق بأخيه، وإن كان دائما يفضل أخاه عليه .. فعن محمد بن الأسود بن خلف قال: كنا جلوسا في الحجر في أناس من قريش إذ قيل: قدم الليلة عمرو بن العاص قال: فما أكثرنا أن دخل علينا فمددنا إليه أبصارنا فطاف ثم صلى في الحجر ركعتين وقال: أقرصتموني؟ قلنا: ما ذكرناك إلا بخير ذكرناك وهشام بن العاص فقلنا: أيهما أفضل؟ قال بعضهم: هذا وقال بعضنا: هشام. قال: أنا أخبركم عن ذلك، أسلمنا وأحببنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وناصحناه ثم ذكر يوم اليرموك فقال: أخذت بعمود الفسطاط ثم اغتسلت وتحنطت ثم تكفنت فعرضنا أنفسنا على الله -عز وجل- فقبله فهو خير مني - يقولها ثلاثا -

وفي رواية أخرى يتحدث عمرو عن فضائل أخيه فيقول: أسلم قبلي، وأمة بنت هاشم بن المغيرة وأمي سبية، وكان أحب إلى أبيه مني، وتعرفون فراسة الوالد.

** وروى أحمد عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ)

عمرو بن العاص (2)

الأمير المجاهد 

في سفره النفيس «عمرو بن العاص الأمير المجاهد» يعيش الكاتب د. منير الغضبان في أجواء صادقة يصف خلالها سيرة هذا الطود الشامخ من صحابة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكرام، ويتصدر الكتاب بتلك المقولة الواقعية التي تلخص حجم المؤامرة التاريخية على هذا الأمير المجاهد حيث يقول: ما إن تذكر عمرا حتى يتبادر إلى الناس ذلك الخادع المحتال الذي خدع أبا موسى الأشعري ونقض اتفاقه معه وأبقى بمعاوية وخلع عليا، وبذلك ينصرف عامة الناس عن ذكر عمرو بن العاص.

فهل يجوز لمثل هذه الشخصية العظيمة أن تبقى غُفلا في التاريخ لا يعرف عنها إلا المكر والخديعة؟!. 

** قال عنه الذهبي: "عمرو بن العاص بن وائل، الإمام أبو عبد الله، ويقال أبو محمد السهمي، داهية قريش، ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم"

** روى مجالد عن الشعبي أنه قال:" دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير".

** عن شعيب بن يعقوب قال اجتمع معاوية وعمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: من الناس؟ قال أنا وأنت ومغيرة وزياد. قال وكيف ذاك؟ قال أما أنت فللتأني، وأما أنا فللبديهة، وأما مغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير. قال له معاوية: أما ذانك فقد غابا، فهات قولك أنا للبديهة، وأما أنا فللأناة فهات بديهتك. قال: وتريد ذاك؟ قال: نعم. قال: فأخرج من عندك، فأمرهم فخرجوا حتى لم يبق في البيت غيرهما. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أسارك، قال: فأدنى رأسه منه. قال: هذا من ذاك ومن معنا في البيت حتى أسارك ؟؟!!

** ويتجاوز عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بيئته وقومه العرب لينازل دهاة العالم كما قال عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يوم وجهه لفتح فلسطين، وكان فيها داهيتها الرهيب «الأرطبون» وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورا وأنكاها فعلا، وقد كان وضع في الرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فنظروا عما تنفرج.

ونفذ عمرو خدعته بالأرطبون حيث تنكر باسم أحد جنوده رسولا إليه، وأدرك الأرطبون بدهائه أن الذي بين يديه عمرو أو من يثق به عمرو، فبيت قتله، وتمكن عمرو من النجاة من الأرطبون بحيلته العجيبة حين أوهمه أنه سيأتي بعشر رجال مثله، وعندما بلغت الحيلة الأرطبون قال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق. فبلغت عمر فقال: غلبه عمرو لله در عمرو.

** وروي أن عمرو بن العاص دخل على عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-، وهو على مائدته جاثياً على ركبتيه، وأصحابه كلهم على تلك الحال، وليس في الجفنة فضل لأحد يجلس، فسلم عمرو على عمر، فرد عليه السلام، قال عمرو بن العاص؟ قال: نعم، فأدخل عمر يده في الثريد فملاها ثريداً ثم ناولها عمرو بن العاص، فقال: خذ هذا، فجلس عمرو، وجعل الثريد في يده اليسرى، ويأكل باليمنى، ووفد أهل مصر ينظرون إليه، فلما خرجوا، قال الوفد لعمرو: أي شيء صنعت؟!

فقال عمرو: إنه والله لقد علم أني بما قدمت به من مصر لغني عن الثريد الذي ناولني، ولكن أراد أن يختبرني، فلو لم أقبلها للقيت شراً.

** قال ابن الجوزي في المنتظم:

وفي هذه السنة -أي السنة العاشرة- أرسل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن العاص بعد رجوعه من الحج لأيام بقين من ذي الحجة إلى جيفر وعبد ابني الجلندي بعمان يدعوهما إلى الإسلام.

وكتب معه كتابًا إليهما وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خُلقًا. فقلت: إني رسول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليك وإلى أخيك. فقال: أخي المقدم بالسرّ والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك. فمكثت أيامًا ببابه ثم إنه دعاني فدخلت عليه فدفعت إليه الكتاب مختومًا ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخرة ثم دفعه إلى أخيه فقرأه إلا أني رأيتَ أخاه أرق منه.

فقال: دعني يومي هذا وارجع إليّ غدا، فلما كان الغد رجعت إليه فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلًا ما في يدي. قلت: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليّ فدخلت عليه فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا وصدقا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخليا بينيِ وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا لي عونأ على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، ولم أزل مقيمًا بينهم حتى بلغنا وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

**  عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِىِّ، عَنْ رَابِّهِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، كَانَ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، كَانَ شَهِدَ طَاعُونَ عَمَوَاسَ، قَالَ: لَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِى النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ.

قَالَ: فَطُعِنَ فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُ، قَالَ: فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ مُعَاذٍ فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ فِينَا خَطِيبًا، فَقَالَ:

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ إِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ فَتَجَبَّلُوا مِنْهُ فِي الْجِبَالِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو وَاثِلَةَ الْهُذَلِىُّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا.

قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَأيْمُ اللَّهِ لاَ نُقِيمُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ، وَخَرَجَ النَّاسُ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، مِنْ رَأْىِ عَمْروٍ فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ.

لقد كان عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يتحدث عن جانب غير الجانب الذي يتحدث عنه الأميران العظيمان: أبو عبيدة ومعاذ بن جبل. وكان يؤرقه الوقوف استسلاما أمام امتداد الطاعون ونهشه في الأمة، وكان رأي عمر أمير المؤمنين مواجهة هذا الاستسلام حيث أشار على أبي عبيدة بقوله: "سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة" ولكن إصابة أبي عبيدة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حالت دون ذلك، وجاء عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لينطلق منطلقات أمير المؤمنين نفسها في دعوة الأمة إلى الصعود إلى الجبال هربا من الطاعون، غير أن أبا وائل -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رأى قول عمرو يختلف عن سابقيه فأغلظ القول لأميره، ولم يغضب الأمير الحليم العظيم، وقال لأخيه الجندي المتطاول "وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ" تعظيما للصحبة النبوية عنده، ولكن هذا لم يثنه عن توجيه أوامره للأمة لصعود الجبال، وصرف الله البلاء عن الأمة بذلك.


د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 
 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية