اطبع هذه الصفحة


رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم   

 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)

{وَإِذْ} اذكر إذ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ} منقبة أخرى لإبراهيم عليه السلام {رَبِّ} ناداه بلفظ الرب مضافاً إليه، لما في ذلك من تلطف السؤال، والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته.

{اجْعَلْ هَـَذَا} المكان، والمقصود به مكة، وأصل أسماء الإشارة أن يستغني بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبيينا لفظيا لأن الإشارة بيان. وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو واقع عند الدعاء، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلدا آمنا ورزق أهله من الثمرات، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود.

{بَلَداً} «البلد» اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة، أو مدينة صغيرة؛ كله يسمى بلداً؛ وقد سمى الله سبحانه وتعالى مكة بلداً، كما في قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3]؛ وسماها الله تعالى قرية، كما في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]، وقوله {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى:7].

 {آمِناً} وهو عند الإطلاق: عدم الخوف من عدو ومن قتال، وذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب.

ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة، فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع والثروة فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عرفي، أي: من جميع الثمرات المعروفة للناس، ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء من التي للتبعيض، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.

{مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ} وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان لساكنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان، فجعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثا لهم على الإيمان، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالا أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فقال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم، وقد أعقب الله دعوته بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}.

{وَالْيَوْمِ الآخِرِ} في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه.

{قَالَ} الله تعالى {وَمَن كَفَرَ} إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار {فَأُمَتِّعُهُ} المتعة: ما يتبلغ به من الزاد، والمقصود التمتع في الدنيا.

{قَلِيلاً} القلة هنا تتناول الزمان، وتتناول عين الممتَّع به؛ فالزمن قصير: مهما طال بالإنسان العمر فهو قليل؛ قال الله عزّ وجلّ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف:35]؛ كذلك عين الممتع به قليل؛ كل ما يحصل للإنسان من هذه الدنيا من اللذة والمتاع قليل بالنسبة للآخرة، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: (لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) [أحمد]؛ ومع قلته فهو مشوب بكدر سابق ولاحق.

{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ألجئه {إِلَى عَذَابِ النَّارِ} احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]

{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فالموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئاً.

فآل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية