اطبع هذه الصفحة


نجاسة الكلب

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم   

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) [مسلم]

قوله (طهور) يدل على تنجس الإناء بولوغ الكلب فيه، وهو ما أثبته العلم الحديث، والذي لم نشك لحظة في صدقه، وليس يطهر الإناء إلا الماء والتراب دون ما عداهما من مواد التنظيف والتطهير، وهذا ما أثبته العلم الحديث أيضاً، وهو يؤكد أن هذا الدِّين ليس هو إلا وحي أوحي به للنبي -صلى الله عليه وسلم- .

فقد ذهب الجمهور إلى نجاسة الكلب بجميع أجزائه، وذهب الحنفية في الأصح عندهم إلى نجاسة سؤره وطهارة بدنه، وذهب المالكية إلى طهارة سؤره وبدنه، والراجح هو مذهب الجمهور

قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى:" فالنجس نوعان: أحدهما: ما هو نجس، رواية واحدة، وهو الكلب، والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، فهذا نجس، عينه، وسؤره، وجميع ما خرج منه، روي ذلك عن عروة، وهو مذهب الشافعي، وأبي عبيد، وهو قول أبي حنيفة في السؤر خاصة" انتهى.

واستدل الجمهور على ذلك، بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا) [البخاري] ومسلم بلفظ: (إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ)، وفي لفظ له أيضا: (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ)

ودلالة الحديث على نجاسة لعاب الكلب من وجوه:

1- الوجه الأول: أنه جاء في أوله: (طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ)؛ والطهارة حقيقتها في الشرع: هي الطهارة من الحدث أو الخبث.

قال النووي رحمه الله تعالى: "ففيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وغيره -رضي الله عنه- ممن يقول بنجاسة الكلب لأن الطهارة تكون عن حدث أو نجس وليس هنا حدث فتعين النجس .

فإن قيل: المراد الطهارة اللغوية؟ فالجواب: أن حمل اللفظ على حقيقته الشرعية مقدم على اللغوية " انتهى.

2- الوجه الثاني: الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب (إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" في هذا الحديث (فَلْيُرِقْهُ) وهو يقوي القول بأن الغسل للتنجيس، إذ المراق أعم من أن يكون ماء أو طعاما، فلو كان طاهرا لم يؤمر بإراقته للنهي عن إضاعة المال، لكن قال النسائي: لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه  ...

قلت: قد ورد الأمر بالإراقة أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه بن عدي؛ لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف، وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفا وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره" [فتح الباري]

3- الوجه الثالث: أن من الصحابة من صرح أن النجاسة هي سبب الأمر بالغسل في هذا الحديث، ولا يعرف له مخالف .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "والتعليل بالتنجيس أقوى، لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه" 

** والمشهور من أقوال الإمام مالك رحمه الله تعالى: أن لعاب الكلب ليس بنجس، وإنما يغسل الإناء الذي ولغ فيه تعبدا.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "واختلف الفقهاء أيضا في سؤر الكلب وما ولغ فيه من الماء والطعام. فجملة ما ذهب إليه مالك واستقر عليه مذهبه عند أصحابه: أن سؤر الكلب طاهر، ويغسل الإناء من ولوغه سبعا؛ تعبدا"

وقد انتصر لهذا القول – طهارة لعاب الكلب – ابن المنذر والبخاري رحمهما الله تعالى.

وأقوى ما استندوا إليه:

1- الدليل الأول: الآية التي نصت على الأكل مما أمسكه كلب الصيد على صاحبه ولم تأمر الآية بغسل هذا الصيد؛ حيث قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة /4].

قال ابن رشد رحمه الله تعالى:

" فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له .ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يريد أنه لو كان نجس العين، لنجس الصيد بمماسته ".

وأجيب عن هذا، بأن لعاب الكلب عفي عنه في هذه الحالة للحاجة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"لُعَاب الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ: لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ، فَقَدْ عفا عَنْ لُعَابِ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ".

2- الدليل الثاني: روى البخاري عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: "كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا، وَكَانَتْ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ"

فدل الحديث على أن مجرد مرور الكلب في المسجد لا يـمنع من الصلاة فيه، ولا ينجس المسجد .

وأما بولها في المسجد، فأجاب بعض العلماء بأن بولها لم يكن في المسجد، وإنما كانت تقبل وتدبر في المسجد، وتبول خارجه .

وأجاب آخرون بأن هذا كان قبل الحكم بنجاسة الكلب ووجوب تطهير نجاسته .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال، على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها. ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيلي في روايته من طريق ابن وهب في هذا الحديث، عن ابن عمر قال: " كان عمر يقول بأعلى صوته: اجتنبوا اللغو في المسجد".

قال ابن عمر: وقد كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكانت الكلاب إلخ، فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام .وبهذا يندفع الاستدلال به على طهارة الكلب .

واستدل بذلك ابن بطال على طهارة سؤره لأن من شأن الكلاب أن تتبع مواضع المأكول، وكان بعض الصحابة لا بيوت لهم إلا المسجد فلا يخلو أن يصل لعابها إلى بعض أجزاء المسجد، وتعقب بأن طهارة المسجد متيقنة وما ذكر مشكوك فيه، واليقين لا يرفع بالشك، ثم إن دلالته لا تعارض دلالة منطوق الحديث الوارد في الأمر بالغسل من ولوغه " [فتح الباري]

وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله: "في الحديث إشكالان: الإشكال الأول: إقبال الكلاب وإدبارها هذا الحديث أشار العلماء إلى الجواب عنه، وقالوا: إن الرواية تقبل وتدبر أي في المسجد وأما البول فليس في المسجد وإنما وقع الإقبال والإدبار داخل المسجد وأما قضية البول فإنه لم يكن داخل المسجد، وقد أشار الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في شرحه لصحيح البخاري أعني «الفتح» إلى هذا الجواب .

لكن لو قلنا إنها تقع على رواية تقبل وتدبر وتبول في المسجد فإننا نقول تبول في المسجد، بولها في المسجد لا يخلو من حالتين:

[أولاً]: إما أن تبول على علم فحينئذ لا إشكال فيه أنه يقوِّي أن يقال بأنها ليست بنجسة إذا ثبت أن النبي-صلى الله عليه وسلم- والصحابة اطلعوا على بولها وصلوا على المكان الذي بال فيه الكلب وليس في الحديث ما يدل على ذلك .

ثانياً: أنه أجيب بأن هذا متقدم على أمره-عليه الصلاة والسلام- بغسل الإناء من ولوغ الكلب وهذا أقوى الأجوبة، وتوضيحه: أن مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن له أبواب وقد جاء في رواية ابن عمر رضي الله عنهما وأشار إليها أيضاً الحافظ رحمه الله في الفتح إلى أنه قد اعتني بعد ذلك بالمسجد وجعل له ما يحفظه ومنع من دخول الكلاب إليه، وهذا يدل على أن آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنايته، فإذا كان آخر الأمرين ونظرت إلى أحاديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وجدتها من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وكلاهما رضي الله عنهما متأخر الإسلام وحينئذ قالوا: إن هذا الذي ورد في الحديث إنما هو في الشأن المتقدم وما جاء من الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب إنما هو في الشأن المتأخر .

والأصل: أنه يعمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم، وحينئذ لا إشكال فيه، هذا بالنسبة للإقبال والإدبار في المسجد"

[الجواب الثاني]: أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يرشون نجاسات الكلاب بالماء، لأن الشمس والريح كانت تحيلها وتزيلها؛ لهذا بوب أبو داود في سننه على هذا الحديث بقوله: "بَابٌ فِي طُهُورِ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَتْ". [سنن أبي داود]

 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وهذا الحديث احتج به من رأى أن النجاسة إذا أصابت الأرض، فإنها تطهر بالشمس والريح ونحو ذلك، كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة " انتهى

قال الإمام النووي في المجموع: "مَذْهَبُنَا أَنَّ الْكِلَابَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حنيفة وأحمد وإسحق وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَدَاوُد هُوَ طَاهِرٌ وَإِنَّمَا يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ تَعَبُّدًا وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِ الله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلَ مَوْضِعِ إمْسَاكِهَا وَبِحَدِيثِ ابْنِ عمر -رضي الله عنهما- قَالَ (كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي إلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَأَحْمَدُ هَذَا شَيْخُهُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّصَالِ وَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وغيره هذا الحديث متصلا وقال فيه (وكانت الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أو لاهن بِالتُّرَابِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ (طُهْرُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ) وَالدَّلَالَةُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ إتْلَافُ مَالٍ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَالدَّلَالَةُ مِنْ الْحَدِيثِ الثَّانِي ظَاهِرَةٌ أَيْضًا فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَكُونُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَسٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْحَمْلُ هُنَا عَلَى طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَتَعَيَّنَتْ طَهَارَةُ النَّجِسِ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَةِ بِأَنَّ لَنَا خِلَافًا مَعْرُوفًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ الْكَلْبُ أَمْ لَا فَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ فهو مَعْفُوٌّ لِلْحَاجَةِ وَالْمَشَقَّةِ فِي غَسْلِهِ بِخِلَافِ الْإِنَاءِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ مُجِيبًا عَنْهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِ الْكَلْبِ وَوُجُوبِ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ فَالْكَلْبُ أَوْلَى قَالَ فَكَانَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ أَوْ أَنَّ بَوْلَهَا خَفِيَ مَكَانُهُ فَمَنْ تَيَقَّنَهُ لَزِمَهُ غسله" انتهى

وقال الإمام ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام في شرح حديث الولوغ: "فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ ظَاهِرٌ فِي تَنْجِيسِ الْإِنَاءِ. وَأَقْوَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ. وَهِيَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ، إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا» فَإِنَّ لَفْظَةَ " طُهُورُ " تُسْتَعْمَلُ إمَّا عَنْ الْحَدَثِ، أَوْ عَنْ الْخَبَثِ. وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ بِالضَّرُورَةِ. فَتَعَيَّنَ الْخَبَثُ. وَحَمَلَ مَالِكٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى التَّعَبُّدِ، لِاعْتِقَادِهِ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَالْإِنَاءِ. وَرُبَّمَا رَجَّحَهُ أَصْحَابُهُ بِذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ السَّبْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّجَاسَةِ: لَاكْتَفَى بِمَا دُونَ السَّبْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَغْلَظَ مِنْ نَجَاسَةِ الْعَذِرَةِ. وَقَدْ اكْتَفَى فِيهَا بِمَا دُونَ السَّبْعِ. وَالْحَمْلُ عَلَى التَّنْجِيسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَتَى دَارَ الْحُكْمُ بَيْنَ كَوْنِهِ تَعَبُّدًا، أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى أَوْلَى. لِنُدْرَةِ التَّعَبُّدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَكُونُ أَغْلَظَ مِنْ نَجَاسَةِ الْعَذِرَةِ، فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ الْقَائِلِ بِنَجَاسَتِهِ، نَعَمْ لَيْسَ بِأَقْذَرَ مِنْ الْعَذِرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ التَّغْلِيظُ عَلَى زِيَادَةِ الِاسْتِقْذَارِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا قُلْنَا بِهِ. وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّفَاصِيلِ مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فِي التَّفْصِيلِ، لَمْ يَنْقُصْ لِأَجْلِهِ التَّأْصِيلُ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ زِيَادَةُ التَّغْلِيظِ فِي النَّجَاسَةِ لَكُنَّا نَقْتَصِرُ فِي التَّعَبُّدِ عَلَى الْعَدَدِ، وَنَمْشِي فِي أَصْلِ الْمَعْنَى عَلَى مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى." انتهى محل الغرض منه.

والخلاصة أن الراجح هو نجاسة الكلب، ونجاسة جميع أجزائه، ويجب  تطهير الثوب أو البدن أو المكان مما أصابه من لعابه أو بدنه المبلول. والله أعلم.

تطهير نجاسة الكلب

من ذهب إلى نجاسة لعاب الكلب فإنه يوجب طهارة الثوب إذا مسه هذا اللعاب.

ويكون التطهير على الصفة الواردة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والأَوْلى أن يكون التراب في الأولى كما سبق في رواية مسلم.

قال النووي رحمه الله تعالى: "يستحب جعل التراب في الأولى، فإن لم يفعل ففي غير السابعة أولى، فإن جعله في السابعة جاز " [المجموع]

وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: "زيادة (أولاهن بالتراب) وقد رويت بلفظ (السابعة بالتراب) والأرجح الرواية الأولى كما قال الحافظ وغيره على ما بينته فى صحيح أبى داود، لكن يخالفها حديث عبد الله بن مغفل (وعفروه الثامنة).

وحديث أبى هريرة أولى لسببين:

-     الأول: ورود هذه الزيادة عنه من طريقين.

-     الثانى: أن المعنى يشهد له لأن ترتيب الثامنة يقتضى الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه " [ارواء الغليل]

واختلف العلماء هل يجب استعمال التراب أم يجوز أن يستعمل شيئاً آخر كالصابون أو غيره من المنظفات ؟

فمذهب الإمام الشافعي إلى أنه يجب استعمال التراب, ولا يجزئ استعمال غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عيَّنَه وأمر به .

ومذهب الإمام أحمد أنه يجوز أن يستعمل غير التراب كالصابون ونحوه .

وجاء في «الموسوعة الفقهية»:

" إذا ولغ الكلب في إناء، فإنه كي يطهر هذا الإناء يجب غسله سبعا إحداهن بالتراب، هذا عند الحنابلة والشافعية .. فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان [منظف كانوا يستعملونه قديماً] والصابون ونحوهما، أو غسله غسلة ثامنة، فالأصح أنه لا يجزئ، لأنه طهارة أمر فيها بالتراب تعبدا، ولذا لم يقم غيره مقامه .

ولبعض الحنابلة: يجوز العدول عن التراب إلى غيره عند عدم التراب، أو إفساد المحل المغسول به. فأما مع وجوده وعدم الضرر فلا . وهذا قول ابن حامد " انتهى .

وقال الشيخ ابن عثيمين في «الشرح الممتع» عن القول بأنه يجزئ عن التراب غيره، قال:

" وهذا فيه نظر لما يلي:

1-  أن الشارع نص على التراب، فالواجب اتباع النص .

2-  أن السدر والأشنان كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشر إليهما.

3-  لعل في التراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب .

4-  أن التراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمم إذا عدم. وقال صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (

فالصحيح: أنه لا يجزئ عن استعمال التراب، لكن لو فرض عدم وجود التراب وهذا احتمال بعيد، فإن استعمال الأشنان، أو الصابون خير من عدمه " انتهى .

وإذا تعذر التراب، أو خيف فساد الثوب: فيستعمل بدله مطهر آخر، كالصابون ونحوه

سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "يوجد نقاط تفتيش في بعض المؤسسات الكبرى يستخدم فيها الكلاب المدربة، فتدخل في مقدمة السيارة ثم تبدأ بالشم واللحس. فهل تتنجس بذلك المقاعد والأماكن التي قام الكلب بشمها أو لحسها؟ وجزاكم الله خيراً.

فأجاب:

 أما الشم فإنه لا يضر؛ لأنه لا يخرج من الكلب ريق، وأما اللحس فيخرج فيه من الكلب ريق، وإذا أصاب ريق الكلب ثياباً أو شبهها: فإنها تغسل سبع مرات، ولا نقول: إحداها بالتراب؛ لأنه ربما يضر، لكن نقول: يستعمل عن التراب صابوناً أو شبهه من المزيل ويكفي مع الغسلات السبع " انتهى

وأما على قول المالكية، بطهارة لعاب الكلب: فإنه لا يجب تطهير الثوب منه؛ والغسل سبع مرات: هو حكم تعبدي في الآنية التي يلغ فيها الكلب خاصة، ولا يقاس عليها غيرها.

جاء في «المدونة»:" قال ابن القاسم وقال مالك: لا بأس بلعاب الكلب يصيب الثّوب. وقاله ربيعة " .

وجاء في «مواهب الجليل»:" فرع: قال سند: إذا لعق الكلب يد أحدكم: لا يغسلها " .

والراجح هو قول جمهور العلماء بنجاسة لعاب الكلب، ولا تجوز الصلاة بثوب مسه شيء من لعاب الكلب، حتى يطهر بما سبق بيانه .

وأما على قول المالكية بطهارة لعاب الكلب: فإنه لا حرج على من صلى بهذا الثوب، وصلاته صحيحة ولا شيء عليه.

ومن أخذ بهذا القول اقتناعًا بأدلته، أو تقليدا لمن قاله من الأئمة والعلماء فإنه لا ينكر عليه، لأن الخلاف في هذه المسألة خلاف معتبر، ولكلٍّ من الفريقين أدلته التي يرى أنه تؤيد قوله.

وإذا أصابت نجاسة الكلاب الفرش الكبيرة التي لا يمكن عصرها لكبرها أو لالتصاقها بالأرض أو بالسيارة، فإن تطهيرها يكون بإزالة ما عليها من جرم النجاسة، وتنشيف ما عليها من بول، ثم صب الماء عليها، وتنشيفها، ويفعل ذلك عدة مرات، حتى يغلب على الظن زوال النجاسة .

وإذا كانت النجاسة من كلب، فإنه يلزم غسل الفرش سبع مرات بالماء كما سبق، ويجعل أولها مع الصابون أو أي مزيل آخر، ولا يلزم التراب .

فقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما صفة تطهير الفرش الكبيرة من النجاسة ؟ وهل العصر في الغسل للنجاسة معتبر بعد إزالة عينها ؟

فأجاب: "صفة غسل الفرش الكبيرة من النجاسة: أن يزيل عين النجاسة أولاً إذا كانت ذات جرم، فإن كانت جامدة أخذها، وإن كانت سائلة كالبول نشفه بإسفنج حتى ينتزعه، ثم بعد ذلك يصب الماء عليه حتى يظن أنه زال أثره، أو زالت النجاسة، وذلك يحصل في مثل البول بمرتين أو ثلاث، وأما العصر فإنه ليس بواجب إلا إذا كان يتوقف عليه زوال النجاسة، مثل أن تكون النجاسة قد دخلت في داخل هذا المغسول ولا يمكن أن ينظف داخله إلا بالعصر، فإنه لابد أن يعصر".

وسئل أيضاً: سمعت في برنامجكم أن الأرض تطهر من نجاسة البول إذا جفت بتأثير الشمس فهل لابد من تأثير الشمس أم مجرد الجفاف؟ وهل حكم الفرش داخل البيت كذلك سواء التصقت بالأرض أم لا؟

فأجاب:

"ليس المراد بكون الأرض تطهر بالشمس والريح مجرد الجفاف، بل لابد من زوال الأثر حتى لا يبقى صورة البول أو الشيء النجس .

وعلى هذا فنقول: إذا حصل بول في أرض ويبس ولكن صورة البول لازلت موجودة يعني أثر البقعة فإنها لا تطهر بذلك، لكن لو مضى عليها مدة ثم زال أثرها فإنها تطهر بهذا؛ لأن النجاسة عين يجب التخلي منها، والتنزه منها، فإذا زالت هذه العين بأي مزيل فإنها تكون طاهرة .

وأما الفرش فلابد بأن تغسل الفرش التي تفرش بها الأرض، سواء كانت لاصقة بالأرض أم منفصلة، لابد أن تغسل، وغسلها: بأن يصب عليها الماء ثم ينشف بالإسفنج ثم يصب مرة ثانية وثالثة حتى يغلب على الظن أنه زال أثر النجاسة ".

ولا فرق بين بول الكلب وروثه، وبين ولعابه، عند جمهور الفقهاء، بل البول والروث أشد.

وقد اختار القول بإجازة استعمال الصابون ونحوه بدلاً من التراب علماء اللجنة الدائمة للإفتاء. .


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية