اطبع هذه الصفحة


معاوية وساعات الرحيل

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

 

ها هو معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يودع الرعيل الأول الذين كانوا رفاقه في الجهاد أو خصومه، فيرحلون واحدا تلو الآخر: عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، وزياد بن أبيه، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وها هي الأوجاع تترى على جسده الضعيف وقد غدا وله نيف وسبعون عاما.

وكانت أغرب رسالة وصلته من رجل من أهل المدينة ففضها فإذا فيها:

إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادُهَا ... وَبَلِيَتْ مِنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا

وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا

فطوى الكتاب، وصمت هنيهة ثم قال: نعى إلي نفسي.

ورأي أنه غدا ثقيل الحركة، بطيء الخطى، فخرج إلى الناس، وصعد درج المنبر بصعوبة، وعيون المسلمين شاخصة إليه، وهم يرون آثار الجهد بادية على وجهه، فيعلو وجوههم الهم، وتبدو عليها مسحة الكآبة، وهاهم يستمعون إلى أمير المؤمنين ينعي إليهم نفسه، فيقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

"أَيُّهَا النَّاس: إِنَّ مَنْ زَرَعَ قَدِ اسْتَحْصَد، وَإِنيِّ وَلِيتُكُمْ، وَلَنْ يَلِيَكُمْ أَحَدٌ مِنَ بَعْدِي إِلاَّ وَهُوَ شَر مِني، كَمَا كَانَ مَنْ قَبْلِي خَيرَاً مِني، وَيَا يَزِيد: إِذَا وَفى أَجَلِي فَوَلِّ غُسْلِيَ رَجلاً لَبِيبَاً؛ فَإِنَّ اللَّبِيبَ مِنَ اللهِ بمَكَان، ثمَّ اعْمِدْ إِلى مِنْدِيلٍ في الخِزَانَة فِيهِ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُرَاضَةٌ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ، فَاسْتَودِعِ القُرَاضَةَ أَنْفِي وَفَمِي وَأُذُني وَعَيْني، وَاجْعَلِ الثَّوْبَ عَلَى جِلْدِي دُونَ أَكْفَاني، يَا يَزِيد: احْفَظْ وَصِيَّةَ اللهِ في الوَالِدَيْن، فَإِذَا وَضَعْتُمُوني في حُفْرَتي، فَخَلُّواْ مُعَاوِيَةَ وَأَرْحَمَ الرَّاحمِين".

وغادر معاوية المسجد، وكان اللقاء الأخير له مع المسلمين في الشام، ودخل بيته، وكان البرد قد اشتد عليه فلبس ثوبا ثقيلا، فاغتم منه.

وَرَوَى شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ جَمَاعَة عَلَيْهِ في مَرَضِه، فَرَأَواْ في جِلْدِهِ غُضُونَاً [أَيْ شُحُوبَاً] فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْد: فَهَلِ الدُّنيَا إِلاَّ مَا جَرَّبْنَا وَرَأَيْنَا؟ أَمَا وَاللهِ لَقَدِ اسْتَقْبَلْنَاهَا بِزَهْرَتهَا، فَمَا لَبِثَتِ الدُّنيَا أَنْ نَقَضَتْ ذَلِكَ مِنَّا حَالاً بَعْد حَال، وَعُرْوَةً بعْد عُرْوَة؛ فَأَصْبَحَتِ الدُّنيَا وَقَدْ وَتَرَتْنَا وَخَلَّفَتْنَا وَاسْتَلأَمَتْ إِلَيْنَا [أَيْ عَامَلَتْنَا بِلُؤْم]؛ أُفٍّ لِلدُّنيَا مِنْ دَار، ثُمُّ أُفٍّ لهَا مِنْ دَار"

ودنا أجل الملك المجاهد، فرمى ببصره بعيدا بعيد وراء الأفق، واستعاد شريط ذكرياته الطويل، وحصيلة سبعين عاما ونيفا انسلخت من عمره، ورأى تفاهة الدنيا وضآلة شأنها ماثلة بين عينيه، فقال:

تبا لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميرا، وعشرين خليفة، وهذا حالي فيك، ومصيري منك!! ثم تنهد، وقال بصوت متهدج: تبا للدنيا ومحبيها.

وقيل: لما حضرت معاوية بن أبي سفيان سكرات الموت, نزل من على كرسيه، وكشف البساط، ومرغ وجهه بالتراب، وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]     

وقيل لَمَّا حَضَرَتْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- الوَفَاةُ قَال: أَقْعِدُوني .. فَأُقْعِد، فَجَعَلَ يُسَبِّحُ اللهَ جَلَّ جَلاَلُهُ وَيَذْكُرُهُ ثُمَّ بَكَى وَقَال: "تَذكُرُ رَبَّكَ يَا معَاوِيَةُ بَعْدَ الهَرَمِ وَالاَنحِطَاط؟! أَلاَ كَانَ هَذَا وَغُصْنُ الشَّبَابِ غَضٌّ نَضِير؟!

ثُمَّ بَكَى حَتىَّ عَلاَ بُكَاؤُهُ وَقَال: يَا رَبِّ ارْحَمِ الشَّيْخَ العَاصِي، ذَا القَلْبِ القَاسِي، اللهُمَّ أَقِلِ العَثْرَةَ وَاغْفِرِ الزَّلَّةَ، وَعُدْ بحِلْمِكَ عَلَى مَنْ لاَ يَرْجُو غَيرَك، وَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ سِوَاك "

وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر:

إن تُناقش يكن نقاشكَ يا ربُ    عذاباً لا طوقَ لي بالعذابِ

أو تجاوز تجاوزَ العفوِ واصفحْ    عن مسيءٍ ذنوبهُ كالترابِ

وقال محمد بن سيرين: جعل معاوية لما احتضر يضع خداً على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48] اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له.

وقال العتبي عن أبيه: تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق:

هو الموتُ لا منجا منَ الموتِ والذي    نحاذرُ بعد الموتِ أدهى وأفظعُ

ثم قال: اللهم أقلِ العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجَ غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك، ثم مات.

وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا الله، فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات رحمه الله.

وَقال محمَّدُ بْنُ عُقْبَة: "لَمَّا نَزَلَ بمعَاوِيَةَ المَوْتُ قَال: "يَا لَيْتَني كُنْتُ رَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ أَرْعَى الغَنَمَ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَاب، وَأَنيِّ لَمْ أَلِ مِن أَمْرِ المُسْلِمِينَ شَيْئَا"

ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين. وقال محمد بن إسحاق والشافعي: صلى عليه ابنه يزيد. وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائباً فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن بدار الإمارة وهي الخضراء، وقيل بمقابر باب الصغير, وعليه الجمهور والله أعلم, وكان عمره آنذاك ثمانية وسبعين سنة، وقيل جاوز الثمانين وهو الأشهر.

قال أبو زرعة قال سمعت أبا مسهر -أملاه علينا-: أن معاوية بويع سنة أربعين وهو عام الجماعة، فأقام عشرين سنة إلا شهراً.



 

جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية