اطبع هذه الصفحة


وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

 

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

{وَإِذْ} تصديره بـ «إذ» على طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف، يومئ إلى أن هذه قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةِ الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} وفي ذلك إظهار معجزة لموسى عليه السلام.

{قَتَلْتُمْ} يشير إلى وقوع قَتْلٍ فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض إلى الجميع جريا على طريقة العرب في قولهم: "قتلت بنو فلان فلانا"، وذلك أن نفرا من اليهود قتلوا ابْنَ عَمِّهِمُ الْوَحِيدَ ليرثوا عمهم، وطرحوه في محلة قوم، وجاءوا موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتانا، وأنكر المتهمون، فأمره الله تعالى بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فينطق ويخبر بقاتله.

{نَفْساً} النفس الواحد من الناس لأنه صاحب نَفْسٍ أَيْ رُوحٍ وَتَنَفُّسٍ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّنَفُّسِ وفي الحديث: (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) [البخاري] ولإشعارها بمعنى التَّنَفُّسِ.

واخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ «النَّفْسِ» على الله تعالى وإضافتها إليه:

فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ولقوله في الحديث القدسي (فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي) [البخاري]

وقيل لا يجوز إلا للمشاكلة، كما في الآية والحديث القدسي.

والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة من التنفس، فالنفس أيضا الذات .. قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]. وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه، ومنه قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} وقول العرب: "قلت في نفسي" أي في تفكري دون قول لفظي، ومنه إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها باللفظ.

والأمر بذبح البقرة متقدّماً والقتل تأخر، كحالهما في التلاوة. وهذا لتظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولاً ذبح بقرة، هل يمتثلون ذلك أم لا؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة، لأنها طواعية صرف، وعبودية محضة، واستسلام خالص، بخلاف ما تظهر له حكمة، فإن في العقل داعية إلى امتثاله، وحضاً على العمل به.

ولم يصرح هل هذه النفس ذكر أو أنثى؟. وقد أشار إلى أنها ذكر بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}

{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} التدارؤ هو التدافع، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض، وقذف بعضهم بعضاً بالتهمة والبراءة.

والكلمة افتعال، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع الجناية عن نفسه، فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام.

 {وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما كنتم تخفونه من تعيين القاتل؛ وذلك بالآية العظيمة التي بينها في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} وهي جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئاً، إذ الله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل.

{فَقُلْنَا} القائل هو الله عزّ وجلّ؛ ولكن عن طريق الوحي إلى نبيه موسى -عليه الصلاة والسلام-؛ وأضاف قول موسى إليه تبارك وتعالى؛ لأنه هو الآمر به، كما في قوله سبحانه وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16-18]: فالمراد بقوله تعالى: {قرأناه} قرأه جبريل -عليه الصلاة والسلام-؛ فهنا قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} يعني أن الله تعالى أمر نبيه موسى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال لهم بأمر الله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}

{اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان، وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعده وما قبله، والتقدير: فضربوه فحيي، دل على ضربوه قوله تعالى: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، ودل على فحيي قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى}

ومن الفوائد: أن المبهم في أمور متعددة أيسر على المكلف من المعين؛ وذلك إذا كانوا قد أمروا أن يضربوه ببعضها فقط؛ فإذا قيل لك: "افعل بعض هذه الأشياء" يكون أسهل مما إذا قيل لك: "افعل هذا الشيء بعينه"؛ فيكون في هذا توسعة على العباد إذا خيروا في أمور متعددة. والله أعلم..

{كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى} والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لافى كيفية الإحياء، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل.

وروي أنه قام وأوداجه تشخب دماً، وأخبر بقاتله فقال: "قتلني ابن أخي"، فقال بنو أخيه والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد معاينته، ثم مات مكانه.

والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناء على أن: «خُلق السلف يسري إلى الخلف».

قال في البحر المحيط: وإذا كان ذلك خطاباً لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل، فحكمه مشاهدة ذلك، وإن كانوا مؤمنين بالبعث، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة.

وقال ابن عاشور: وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراما لموسى عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرآى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكا في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس.

فروى مسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا قِبَلَ خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَاتَّهَمُوا الْيَهُودَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَابْنَا عَمِّهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَبِّرْ الْكُبْرَ) أَوْ قَالَ: (لِيَبْدَأْ الْأَكْبَرُ) فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ) [الرمة -بضم الراء- الحبل والمراد هنا الحبل الذي يربط في رقبة القاتل ويسلم فيه إلى ولي القتيل] قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ. قَالَ: (فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ [أي: كيف نقبل أيمانهم وهم كفار يكذبون]. قَالَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قِبَلِهِ [عني: لم يضيع دمه، بل وداه من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه] قَالَ سَهْلٌ فَدَخَلْتُ مِرْبَدًا [الموضع الذي يجتمع فيه الابل] لَهُمْ يَوْمًا فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ رَكْضَةً بِرِجْلِهَا. [يعني: أن هذه الإبل التي وداه الرسول صلى الله عليه وسلم بها جعلوها في مكان معين يقال له: المربد، فدخل سهل رضي الله عنه فركضته ناقه من تلك الإبل ركضة، فهو يتذكر الذي حصل في هذه الحادثة، حيث إنه رأى تلك الإبل التي دفعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية لعبد الله بن سهل]

{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي يظهرها لكم حتى تروها.. والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، وهي ما أراهم من إحياء الميت، والعصا، والحجر، والغمام، والمنّ والسلوى، والسحر، والبحر، والطور، وغير ذلك.

وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوباً، وأشد قسوة وتكذيباً لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات.

وقال صاحب المنتخب: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، وإن كانت آية واحدة، لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات، العالم بكل المعلومات، المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى -عليه الصلاة والسلام-، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل. انتهى كلامه.

{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} "لعل" للتعليل؛ أي لأجل أن تعقلوا عن الله -تبارك وتعالى- آياته، وتفهموها؛ والعقل هو ما يحجز الإنسان عن فعل ما لا ينبغي؛ وهو خلاف الذكاء؛ فالذكاء هو سرعة البديهة والفهم؛ وقد يكون الإنسان ذكياً، ولكنه ليس بعاقل.

قال الماوردي: كان الضرب بميت لا حياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة.

{ثُمَّ} للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له "ثم" إذا عطفت الجمل ..أي: ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات، فقست قلوبكم وكان من البعيد قسوتها.

{قَسَتْ قُلُوبُكُم} القساوة موضوعة للأجسام حقيقة، واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة.

كنى بالقسوة عن نبوّ القلب عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تجول فيه. لأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله تعالى، والتسليم لأقضيته، فصدر مهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها، بما شاهدت، والتعنت والتكذيب، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل، وأخبر بمن قتله قالوا: كذب.

وأيضا من أسباب قسوة قلوبهم، ما أشار الله تعالى إليه في مواضع أخر كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13]، وقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] أي الزمن بينهم وبين أنبيائهم.

{مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك.

إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى «ثم»، ومعنى «من»، فلا بد من تجوّز في أحدهما. والتجوز في ثم أولى، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة، فينحرفون إثرها إلى المعصية عناداً وتكذيباً.

{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أشهر الأشياء في وصف القساوة هو الحجر، وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها.

والمعنى: قلوبهم صلبة، لا تخلخلها الخوارق، كما أن الحجر خلق صلباً، وجمعت الحجارة ولم تفرد، فيقال كالحجر، فيكون أخصر، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع، لأنه قوبل الجمع بالجمع، لأن قلوبهم جمع، فناسب مقابلته بالجمع، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة.

وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن الحجارة أمر محسوس؛ والقلب قسوته أمر معقول؛ إذ إنه ليس المعنى أن القلب الذي هو المضغة يقسو؛ القلب هو هو؛ لكن المراد: أنه يقسو قسوة معنوية بإعراضه عن الحق، واستكباره عليه؛ فهو أمر معنوي شبه بالأمر الحسي؛ وهذا من بلاغة القرآن تشبيه المعقول بالمحسوس حتى يتبين.

{أَوْ} هنا ليست للشك؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بحالها؛ لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- هل هي بمعنى «بل»، فتكون للإضراب؛ أو إنها لتحقيق ما سبق. أي أنها إن لم تكن أشد من الحجارة فهي مثلها؟

في هذا قولان لأهل العلم؛ وهي كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] فمن العلماء من قال: إن «أو» بمعنى «بل». أي: "بل يزيدون على مائة ألف"؛ ومنهم من قال: إنها لتحقيق ما سبق. أي: "إن لم يزيدوا على مائة ألف فإنهم لن ينقصوا"؛ والله أعلم بما أراد في كتابه..

ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول، فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة لحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفتت والتشقق وهذه القلوب لم تجد فيها محاولة.

 {أَشَدُّ قَسْوَةً} وقيل: أو للتنويع، وكأن قلوبهم على قسمين: قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشدّ قسوة من الحجارة، فأجمل ذلك في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم}، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة، وإلى أشدّ منها، إذ ما كان أشدّ، كان مشاركاً في مطلق القسوة، ثم امتاز بالأشدية.

والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ، ولا تتأثر للزواجر، وإن من الحجارة ما يقبل التخلخل، وأنها متفاوتة في قبول ذلك.

 {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب. كأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطل قلوب هؤلاء من صدور النفع بها.

والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة، والانفجار دونه، والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر.

{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} التشقق: التصدّع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهراً {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} الهبوط: التردّي من علو إلى أسفل {مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} من خوفه للعلم بعظمته، ومن بديع التخلص تأخر قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}

واختلف المفسرون في ذلك، فقال قوم معناه: من خشية الحجارة لله تعالى، فهي مصدر مضاف للمفعول، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزاً قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية، وبعضها بالإرادة، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدّع، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة.

قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]

وفي صحيح مسلم عن عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ)

وأنه بعد مبعثه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما مرّ بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وفي الحجر الأسود الذي رواه علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَلَهُ لِسَانٌ ذَلْقٌ [فصيح بليغ] يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ بِالتَّوْحِيدِ) [الحاكم والبيهقي]

وفي حديث الحجر الذي فرّ بثوب موسى -عليه السلام- وصار يعدو خلفه ويقول: (ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ) [البخاري].

وفي الحديث عن جبل أحد، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) [البخاري]

وفي حديث حراء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)

وفي حديث: تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعن ثابت البناني عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  أخذ حصيات في يده فسبحن حتى سمعنا التسبيح ثم صيرهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عمر فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في أيدينا رجلا رجلا فما سبحت حصاة منهن [الهيثمي في مجمع الزوائد]

وفي حديث نبي الله يونس –عليه السلام-: وَقَدْ كَانَ وُكِّلَ بِهِ الْحُوتُ، فَلَمَّا وَقَعَ ابْتَلَعَهُ فَأَهْوَى بِهِ إلَى قَرَارِ الأَرْضِ, فَسَمِعَ يُونُسُ عَلَيْهَ السَلام تَسْبِيحَ الْحَصَى [مصنف ابن أبي شيبة]

وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات، وانقياد الشجر وغير ذلك. فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة، وصفة ناطقة، وحركة اختيارية، لما صدر عنها شيء من ذلك، ولا حسن وصفها به... وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة... واختيار ابن عطية -رحمهم الله تعالى-، أن الله يخلق للحجارة قدراً مّا من الإدراك، تقع به الخشية والحركة.

وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] أي من رأى الحجر متردّياً من علوّ إلى أسفل، تخيل فيه الخشية، فاستعار الخشية، كناية عن الانقياد لأمر الله، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها. فمن يراها يظنّ أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى.

وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات، وذلك ممتنع عندهم. وتأوّلوا ما ورد في القرآن والحديث، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة، هي التي تسلم وتتكلم، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش، تنادي: اللهم صِل من وصلني، واقطع من قطعني. والأرحام ليست بجسم، ولا لها إدراك، ويستحيل أن تسجد المعاني، أو تتكلم، وإنما قرن الله تعالى بها ملكاً يقول ذلك القول.

وتأوّلوا: هذا جبل يحبنا ونحبه، أي يحبه أهله ونحب أهله، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82]

{وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} هذا فيه وعيد، أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم، وذلك أنه لما قال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة، من مخالفة الله تعالى، ومعاندة رسله، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم، بل هو تعالى يحصيها عليهم، وإذا لم يفغل عنها كان مجازياً عليها.

وهذه الصفة من صفات الله سبحانه وتعالى السلبية؛ والصفات السلبية هي التي ينفيها الله سبحانه وتعالى عن نفسه. وتتضمن أمرين هما: نفي هذه الصفة؛ وإثبات كمال ضدها.

ونفى الله تعالى الغفلة عنه. وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلاً، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه.

وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل، قال: لأنه يوهم جواز الغفلة عليه، وليس الأمر كما ذهب إليه، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة:255] وقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام:14] فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له.


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية