اطبع هذه الصفحة


خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم  

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)

هذا انتقال من الثناء على الكتاب ومتقلديه ووصف هديه وأثر ذلك الهدى في الذين اهتدوا به، والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولمّا كان الشيء قد يقدر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نبوا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم، ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين فريقا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ: {الَّذِينَ كَفَرُوا} وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].

 {إِنَّ} حرف توكيد، ومجيء "إن" للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير

{الَّذِينَ كَفَرُواْ} الكُفر: التغطية والسِّتْر، ومنه سُمِّي الليل كافراً، فيقال: «الليل الكَافِرُ»، ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] يعني الزُّرَّاع لتغطيتهم البذر في الأرض.

قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «الكفر» في القرآن على أربعة أَضْرُبٍ:

** الأول: الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته، قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فهذا كفر إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله.

** الثاني: بمعنى الجُحُود، قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة:89].

** الثالث: بمعنى كفر النّعمة، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ إبراهيم:7] أي: بالنعمة، ومثله: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقال تعالى: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40].

** الرابع: البراءة، قال تعالى: {إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة:4] أي: تبرأنا منكم، وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت:25].

والمقصود هنا الكافرون الخُلَّص الذين ماتوا على الكفر؛ فالمراد هنا من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} فهم فريقا خاصا من الكفار لا يرجى إيمانهم، وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه.

ففي هذه السورة العظيمة ابتدأ الله تعالى فيها بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الخُلَّص؛ ثم الكافرون الخُلَّص؛ ثم المؤمنون بألسنتهم دون قلوبهم؛ فبدأ بالطيب، ثم الخبيث، ثم الأخبث؛ إذاً الطيب: هم المتقون المتصفون بهذه الصفات؛ والخبيث: الكفار؛ والأخبث: المنافقون.

{سَوَاءٌ} مستو، أي: «هما سِيّان» بمعنى: مِثْلان {عَلَيْهِمْ} وإنما عدى سواء بـ {على} هنا وفي غير موضع ولم يعلق بـ "عند أو لدي" ونحوهما مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه، فالمعنى: سواء عندهم الإنذار وعدمه.

{أَأَنذَرْتَهُمْ} "الإنذار" هو الإعلام المقرون بالتخويف؛ وقيل: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً أو إخباراً.

 والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشير ونذير؛ بشير معلم بما يسر بالنسبة للمؤمنين؛ ونذير معلم بما يسوء بالنسبة للكافرين.

{أَمْ لَمْ} حرف نفي وهو مما يختص بالمضارع {تُنذِرْهُمْ} والمعنى: سواء عليهم إنذارُك وعدمُه، فإنذار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعدمه بالنسبة لهؤلاء الكفار المعاندين والمخاصمين الذين تبين لهم الحق ولكن جحدوه مستوٍ عليهم.

 {لاَ يُؤْمِنُونَ} هذا محط الفائدة في نفي التساوي. أي إنهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون؛ وتعليل ذلك قوله تعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ.. }

وهذا تسلية من الله لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا اعتذاراً للكفار، ولا تيئيساً له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

{خَتَمَ اللّهُ} الختم هو "الطبع والسد والغلق" على الإناء من أجل ألا يخرج منه شيء، ولا يدخل إليه شيء، مع وضع علامة مرسومة في خاتم ليمنع ذلك من فتح المختوم، فإذا فتح علم صاحبه أنه فتح لفساد يظهر في أثر النقش، وقد اتخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتما لذلك، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها، وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها، وطين الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوي الشد لا يقلع بسهولة.

{عَلَى قُلُوبِهمْ} فهؤلاء -والعياذ بالله- قلوبهم مختوم عليها لا يصدر منها خير، ولا يصل إليها خير {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} فلا تسمع خيراً تنتفع به {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} أي غطاء يحول بينها وبين النظر إلى الحق؛ ولو نظرت لم تنتفع. كقوله تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} [النحل:108]

والغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد. كقوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23]

وفي إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة، وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقي إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا.

وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم، وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.

والآية نعي على الموصوفين بذلك والتشنيع بحالهم لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب، وَبِالتَّحْقِيقِ القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق، فالله تعالى قدر الشرور وأوجد في الناس القدرة على فعلها ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على تركها أيضا، فلا تعارض بين القدر والتكليف.

قال ابن عاشور: هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا علم أن على قلوبهم ختما وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة علم سبب ذلك كله وبطل العجب، فالجملة استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون، وموقع هذه الجملة في نظم الكلام مقابل موقع جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على أربابها.

قال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار.

فقال في الختم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].

وقال في الطبع: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]. وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155].

وقال في الضيق: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125].

وقال في المرض: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد:29].

وقال في الرين: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].

وقال في الموت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]. وقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36]

وقال في القساوة: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]. وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74].

وقال في الانصراف: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127].

وقال في الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح:26].

وقال في الإنكار: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22].

{وَلَهُمْ عَذَابٌ} العذاب مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لأنها قد أعذبت بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه.

ومنه قول علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أعذبوا نساءكم عن الخروج"، أي احبسوهن.

وعنه -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وقد شيع سرية فقال: أعذبوا عن ذكر النساء فإن ذلك يكسركم عن الغزو.

فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.

{عظِيمٌ} وهو عذاب النار؛ وعظمه الله تعالى؛ لأنه لا يوجد أشد من عذاب النار.


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية